تجارب رجل خدمة عامة

التحذير الهندي المبكر الذي تجاهله أول رئيس وزراء في السودان

TT

الخرطوم ـ سعيد محمد الحسن: قليلون من المسؤولين السودانيين حرصوا على كتابة مذكراتهم رغم انهم عاصروا مواقف ووقائع واحداث هامة تستحق التدوين والتوثيق كجزء من التجربة السودانية.

وأحدث مذكرات صدرت حديثا، «لمحات من تجارب رجل خدمة عامة من جيل الرواد السودانيين»، وقد كتبها مأمون بحيري (77 سنة) وهو اشهر واهم وزراء المالية الذين عرفهم السودان طوال عهد الحكم الوطني، فهو حمل حقيبة المال في مرحلتين هامتين عام 1962 وعام 1975 وهو اول محافظ لبنك السودان، واول من حملت العملة الورقية السودانية توقيعه كمحافظ للبنك، وهو اول رئيس مجلس ادارة لبنك التنمية الافريقي في ابيدجان بعد ان اختاره وزراء مالية 32 دولة افريقية في الخرطوم عام 1962، كما شغل مناصب اقتصادية كمستشار لرئيس الوزراء، ورئيس مجلس ادارة للعديد من البنوك والمؤسسات العامة، ورئيس لمجالس مؤسسات اكاديمية (جامعة الخرطوم). والكتاب يغطي كافة مراحل حياته منذ النشأة والطفولة والدراسة الجامعية في كلية فيكتوريا بالاسكندرية في مصر ثم جامعة اكسفورد في بريطانيا، وتعيينه للعمل في مصلحة المالية حيث كان اول موظف جامعي سوداني بالمالية. وقد تناول في هذا الفصل تجربة الخدمة المدنية التي كان دورها تقديم النصح السليم لصانع القرار والبدائل المتاحة امام كل مشروع، والانضباط والدقة والنظام السائد في اروقة الخدمة المدنية ونفوذها وهيبتها في تلك الفترات من الاربعينات والخمسينات وحتى نهاية الستينات.

ومن الذكريات التي يرويها بحيري إن اول وزير مالية للحكومة الوطنية عام 1954 حماد توفيق قد كلفه بالذهاب الى رئيس الوزراء اسماعيل الأزهري لتقديم تقرير عن سير المفاوضات مع قيادة الحاميات البريطانية التي كانت تقيم في ثكناتها في بري بالخرطوم حول تسلم اصولها غير العسكرية، وكان رئيس الوزراء منهمكا في عملية وضع الترتيبات الاخيرة لاجلاء القوات الاجنبية عن السودان، وقد رافقه المستر راو وهو المراجع العام الاسبق للهند لتحية رئيس الوزراء الازهري.

يقول بحيري: « قبل دخولنا لمقابلة رئيس الوزراء فهمنا انا والمستر راو ان بعض القيادات العسكرية السودانية كانت قلقة حول الترتيبات النهائية لاجلاء القوات فاندفعوا بتسرع وفحصوا الاصول غير العسكرية، ووصل الامر لدرجة حجزهم بعض المكاتب بينما كانت المفاوضات تسير الى الامام، وفي هذه المقابلة طلب راو السماح له ببعض الكلمات، فقال مخاطبا رئيس الوزراء الذي كان يشغل ايضا منصب وزير الداخلية: «ضباط الجيش يجب ان يعلموا، ويبدوا القبول بتحكم التنظيم السياسي المدني، وهذه كانت واحدة من اعتباراتنا الرئيسية في الهند عندما حصلنا على الاستقلال. واذا لم يحدث هذا الامر سيأتي يوم يجدون فيه التحدي والجرأة ليلقوا بك ووزرائك في السجون»، وضحك رئيس الوزراء الازهري ضحكته الواثقة المميزة، وبالطبع لم يأخذ الازهري بهذه الملاحظة الذكية الهامة، وكانت النتيجة ان رئيس الوزراء لاول حكومة وطنية تعرض للسجن مرتين خلال الانقلابات العسكرية في نوفمبر 1958 ومايو 1969، ومن المؤسف ان المرة الثانية سارعت بوضع نهاية حزينة لحياته».

وقد قدم للكتاب (187 صفحة) مساعد رئيس الجمهورية الاسبق ورئيس المجلس الانتقالي للجنوب أبيل الير، الذي اعتبر هذه المذكرات بمثابة وثيقة هامة، «فالمؤلف كرجل خدمة واقتصاد مشهود له بالكفاءة، وقد أثار نقاطا عديدة ذات صلة لصيقة تفرض اهميتها بقوة، على انها تحمل في طياتها دروسا وعبرا يلزم ان تستوعبها وتستهدي بها اجيال الحاضر والمستقبل».

المذكرات الشاملة ضمت ايضا تجارب الوزير وتعامله ورؤيته تجاه احداث وقضايا هامة مثل ثورة اكتوبر 1964 وحكم جعفر نميري 1969، وقرارات التأميم والمصادرة 1970 واتفاقية السلام في جنوب السودان 1972، وعصر البترول في السودان، والعلاقات مع المؤسسات المالية الدولية وهجرة الكوادر المدربة والفساد والسياسة الخارجية.