عادلة العايدي : اقتحم الإسرائيليون المركز وأطلقوا النار على الكتب

مديرة مركز خليل السكاكيني في رام الله لـ«الشرق الأوسط»: نطالب بأن نكون شركاء في الثقافة العربية لا موضوعا لها

TT

في علب شفافة وضعت حاجيات الشهداء المائة الذين كانوا أول من تصيّدهم الإجرام الإسرائيلي إثر اندلاع الانتفاضة الثانية. فهنا حذاء محمد الدرة وهناك نظارة حسام بخيت أو دراجة الطفل يزن حلايقة، وحقيبة مدرسة لسامر طبنجة، وثمة دفاتر وأقلام وقمصان وقبعات لضحايا تركوا أغراضهم وذهبوا. فبعد جولة لهذه الحميميات، مرفقة بأجمل صورهم ونبذ عن سيرهم، في الإمارات والأردن والبحرين، ضمن معرض «مائة شهيد ـ مائة حياة» الذي كتبت عنه بإسهاب كبريات الصحف الغربية، يحط المعرض، البسيط والبليغ، رحاله في «قصر اليونسكو» في بيروت، بدعوة من الجمعية الثقافية لشباب المسرح والسينما «شمس»، وينطلق بعد ذلك صوب قطر وإيطاليا وفرنسا وكندا. عادلة العايدي مديرة مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله الذي ينظم المعرض، والذي أجهز عليه وعلى محتوياته عساكر إسرائيل أثناء اجتياحهم الثاني للضفة الغربية، تحدثت لـ«الشرق الأوسط» عن المعرض وعن حقيقة ما حدث في المركز الثقافي الذي يضم مكاتب مجلة «الكرمل»، حيث يعمل محمود درويش، وعن الحياة الثقافية الفلسطينية تحت الحصار. وهنا نص المقابلة.

* إضافة إلى المعرض، أصدرتم كتاباً مرافقاً فيه نبذ عن حياة الضحايا المائة، وصورهم وصور حاجياتهم المعروضة. ولهذا الكتاب أهمية قصوى، إذ يبرز خصوصية كلٍِ منهم وفرديته، لكنه في نفس الوقت، يرينا ذاك الغدر الواحد الذي اغتالهم جميعاً بدون تمييز؟

ـ إن هذا الكتاب الذي تطلّب عملاً طويلاً لجمع المعلومات يظهر للأسف فظاعة المصير الفلسطيني الواحد. وكأنما هو ما لا مهرب منه. فالشهداء ماتوا على الأرصفة بانتظار سيارة أجرة، أو في مطابخ بيوتهم،أو في غرف نومهم. الاحتلال يصبغ حياة الفلسطيني سواء كان لاجئاً مطروداً أو محاصراً ومهدداً على أرضه.

* سمعنا الكثير عن الدمار الذي لحق بمركز خليل السكاكيني والبعض يتحدث عن تلف أرشيف مجلة «الكرمل» وعن إتلاف مكتبة المركز، ما الذي حدث تحديداً؟

ـ هنالك مبالغة في وصف حجم الأضرار، وهذا مؤسف. ما لحق بالفلسطينيين هو من المأساوية بمكان بحيث لا حاجة على الإطلاق للتضخيم. ولذلك أود أن أوضح أن أرشيف «الكرمل» ليس موجوداً في المركز، وما لحق بالمراكز الثقافية الفلسطينية هو جزء من الخطة الإسرائيلية التي هدفت إلى تدمير كافة البنى والمؤسسات الفلسطينية التي انشئت بعد أوسلو. والشارع الذي يوجد فيه مركزنا فتش بكامله واقتحمت مبان عديدة فيه. وقد فجروا باب المركز القديم والجميل الذي يعود الى عشرينات القرن الماضي، كما نسفوا باباً آخر ودخلوا. وبالتالي تعرض المبنى للتشوه وبعض الدمار. وفي الداخل، أطلقوا الرصاص على المكتبة، وهو أمر غريب، إذ ما الذي يفزعهم من الكتب، كما رموا كتباً أخرى على الأرض منها محتويات مكتبة محمود درويش التي تضم كتباً عبرية، وسرقوا كومبيوتر الإدارة وكسروا خزنة ضخمة الحجم، كان فيها أقل من ألف دولار سرقوها مع جهاز تليفون جوّال. هذه العملية بتفاصيلها تثبت أنه لا يمكن أن ينطبق عليها ما تسميه إسرائيل وحلفاؤها «عمليات أمنية». لقد كانت عمليات أذى ونهب وتخريب. لقد جلسوا في المكاتب يأكلون «بزر البطيخ» ووجدنا الأرض مليئة بمخلفات تساليهم. أصلحنا الضروري، لكن ثمة خراباً في السقف والجدران سنبقيه شاهداً على تلك الغارة الإجرامية علينا.

* يقال بأنهم اقتحموا المركز للاستيلاء على الوثائق والصور الأصلية لمعرض «مائة شهيد ـ مائة حياة»؟

ـ لم يكن المعرض هو المستهدف بدليل أن بعض حاجيات المعرض كانت موجودة في الأماكن التي لم يدخلوها من المبنى. كل المؤسسات الثقافية، تقريباً، تم الاعتداء عليها، هناك مسرح «القصبة» في رام الله الذي اقتحموه وسرقوا أجهزته الباهظة الكلفة، وخربوا داخله، والقسم السينمائي فيه، وكذلك اقتحموا مركز الفن الشعبي، وبيت الشعر في «البيرة»، أما مركز بيت لحم للسلام فما يزال محتلاً حيث تدار منه العمليات لحصار كنيسة المهد، وهو مركز جميل وعصري جداً. والأهم من كل هذا هو الدمار الذي أصاب أحياء كاملة من مدينة نابلس القديمة التي تعود الى العصر العثماني والتي تشكل مع الخليل القديمة والقدس آخر ما تبقى لنا من مدننا القديمة.

* أي أن المؤسسات الثقافية لم تكن مستهدفة لذاتها كما أشيع؟

ـ ماذا يعني مركز ثقافي لجيش يرتكب مجازر بالمفرق والجملة؟ والمفرق؟ ظني أنه لا يعني له شيئاً على الإطلاق، الثقافة بالنسبة له قيمتها صفر، وتدمير منشآتها هو في هذا الإطار تخريب وحسب. انه جيش لا يميز بين سيارة إسعاف وصالة سينما أو مسرح أو مركز للخدمة الاجتماعية.

* هل من إجراءات بالإمكان اتخاذها؟

ـ لقد وثقنا كل ما حدث، وقدمنا شكوى إلى الارتباط العسكري الإسرائيلي. ونطالب، قانونياً، بتعويضات. نريد من خلال موقفنا هذا، أن نقول لهم أنهم مجرمون وسراق، ان العمل الذي ارتكبوه في مركز خليل السكاكيني ليس عملاً حربياً، ولا صلة له بالحرب، بل هو محض عمل إجرامي بحت ولن نتوانى عن ملاحقتهم من خلال المحاكم الإسرائيلية.

* هل من الممكن أن تحاكم إسرائيل نفسها؟

ـ حدثت حالة يعرفها الجميع. فبعد أن دخل جيشهم إلى سوبر ماركت في رام الله وسرق مبلغاً كبيراً جداً من المال، تم رفع شكوى وأعيد المبلغ خلال ثلاث ساعات.

*هذه دعاية جيده لإسرائيل؟

ـ لا، هذه ليست دعاية لإسرائيل. ما نريده فقط، هو أن نقول الحقائق كما هي، كي تكون لنا مصداقيتنا. ونريد، في نفس الوقت، استخدام كافة الأسلحة المتاحة لنا للدفاع عن أنفسنا. والتركيز على إجرامية الأعمال الإسرائيلية، هو أمر مهم لدحض ما يروجون له حول الأخلاقيات التي يتمتعون بها خاصة حين يصفون سلاحهم بأنه «سلاح طاهر»، وهي عبارة شهيرة بينهم.

* ما هي نوعية النشاطات التي يقوم بها مركز خليل السكاكيني؟

ـ هناك أنشطة عامة كالندوات والمحاضرات والعروض والحفلات الموسيقية. وهناك أنشطة من نوع آخر، ذات أهداف طويلة الأمد، كعملنا مع الأطفال وكبار الفنانين لدعم وتنمية الفن التشكيلي. إضافة إلى ما نسميه برامج الهوية الثقافية أو الرواية الفلسطينية لا بمعناها الأدبي وإنما بمفهومها السردي الذي يعتمد على الفيلم التوثيقي والأغنية كما الحكاية واللوحة وما أشبه، أي أننا نجمع ما نقوله نحن عن ذاكرتنا وتجربتنا.

* أي أن السرد بالنسبة لكم يشمل مختلف أشكال التعبير التي تحكي الذاكرة الفلسطينية؟

ـ تماماً، معرض «مائة شهيد ـ مائة حياة» هو ضمن هذا المشروع التوثيقي الذي يعتمد على جمع الحكايات والتجارب ومراكمتها، وضمن هذا المشروع مثلاً، سجلنا بالفيديو شهادات 15 شخصاً عايشوا مذبحة دير ياسين ومعركة القسطرة.

* كيف تمول هذه المشاريع؟

ـ غالبية المؤسسات الأهلية الفلسطينية تمول من قبل مؤسسات أجنبية غربية، بما فيها المؤسسات الزراعية والحقوقية والصحية والثقافية. المساعدات العربية تبقى في معظمها خيرية ولا تعنى بالنواحي التنموية والثقافية، وهو أمر مؤسف بالنسبة لنا. فلتزفيت الطرق لا يهمنا أن يتم ذلك بأموال صينية أو ألمانية أما حين يكون المشروع هو نشر يوميات أديب فلسطيني كبير أو إنتاج مسرحية عن الانتفاضة فمن المؤلم أن يكون التمويل أجنبياً ولو كان غير مشروط ولا يعرضنا لابتزاز. القصد هو أن الثقافة عربياً لا تشغل الكثيرين، وهذا ينعكس علينا، لذلك فنحن نحث الهيئات والمؤسسات الأهلية العربية على دعم الأعمال الثقافية الفلسطينية، التي من أهم أهدافها الدفاع عن الهوية العربية في الصف الأمامي.

* هل حاولتم إجراء اتصالات مع هيئات عربية؟

ـ ثمة محاولات، لكن المؤسسات الغربية موجودة في فلسطين بكثرة، وهي فاعلة وموظفوها مخولون اتخاذ قرارات سريعة لذلك يسهل التعاون معهم. المؤسسات العربية غير موجودة أو ممثلة في فلسطين. وهذا وضع يعوق التعاون. وبكل صراحة نقول نحن بحاجة ماسة لكسر الحصار المفروض علينا ونود أن نتواصل مع محيطنا العربي. انه أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا. يزورنا بشكل كثيف ودائم فنانون غربيون يعملون معنا، ويدعوننا إلى محترفات وورشات عمل في بلادهم، لكننا نعيش شبه قطيعة مع الفنانين العرب، ونطلب منهم أن يتعاملوا معنا كشركاء في العمل الثقافي لا أن يعاملوننا، كما هو حاصل اليوم، كمواضيع للإبداعات العربية. نحن بحاجة لورشات مسرحية مع إخواننا العرب، لمحترفات كتابة مشتركة، تلزمنا اللقاءات والنقاشات معهم إنهم امتدادنا الطبيعي، وهذه القطيعة يجب أن تكسر بمبادرات من الهيئات الثقافية العربية التي نتشوق للتعاون معها.

* إسرائيل تنزعج من الثوب الوطني النسائي الفلسطيني، وقد ادّعوا، لبعض الوقت، أنه لباسهم الوطني، أي ان الهوية هي لب المعركة الدائرة اليوم؟

ـ هذا صحيح بالكامل، ففي السبعينات حاولوا ان يسلخوا عن جلدنا هذا الثوب، لكنه أصبح معروفاً إلى حد بات من الصعب تزوير انتمائه. لكن المحاولات جارية فقد سرقوا الرمز الفلسطيني الذي هو نبتة الصبر. واستعملوا بالعبرية مفردة «صابرا» للدلالة على الإسرائيلي الذي ولد في إسرائيل. وتم تطوير هذه الفكرة، وسطرت الكثير من الكتابات حول شخصية الـ«صابرا» المغطى بالشوك الخارجي لكنه من الداخل حلو وطري. وفي الحقيقة أن الصبر هو رمز فلسطيني، فحين دمر الإسرائيليون 418 قرية عربية ومسحوها من الوجود لم يتمكنوا من اقتلاع كل نباتات الصبر التي سّيج بها الفلاحون أراضيهم. فهذه نبتة عنيدة ويصعب التخلص منها. ومن يتجول في أراضي الفلسطينيين عام 1948 يستطيع أن يرى ما تبقى من سياجات قراهم. وما لا تستطيع إسرائيل أن تتخلص منه تتبناه وتنسبه لنفسها. وأريد أن أختم بقصة الفنان الفلسطيني الموهوب عاصم أبو شقرا من قرية أم الفحم المحتلة عام 48، الذي كرس أعماله الفنية لنبتة الصبر. وبما ان المجتمع العربي الفلسطيني لم يعن بأعماله فقد استقطبته المؤسسات الإسرائيلية واشترت الكثير منها. وحين توفي ابو شقرا بدأوا بعرض هذه الأعمال على أنها تمثل الصبر كرمز إسرائيلي. وقد أقيم معرض إسرائيلي شامل في القدس عام 1999، رفض الفنانون الفلسطينيون المشاركة فيه لكن عاصم أبو شقرا كان الوحيد الذي حضر، لسبب بسيط هو ان الرجل لا يستطيع ان يقول لا، لأنه متوفى. وهكذا عرض الرمز الفلسطيني الذي كرس له عمره بسبب دوافعه الوطنية وتعلقه بالأرض على أنه رمز إسرائيل. أليست هذه مفارقة محزنة ومريرة؟