في مقهى ابن عمّار «إلى عبد الوهاب البياتي»

TT

انني نادرا ما أرتاد المقاهي، المنفلوطي كان ينصح قراء «نظراته» و«عبراته» بعدم ضياع وقتهم في المقاهي بين لعب النرد والطاولة او الورق. كان يعيب على الناس ارتيادهم للمقاهي ويعجب كيف لا يؤمّون المكتبات للنهل من العلم والغوص في بحوره. ومن مفارقات الحياة، ان العديد من الأدباء والشعراء جاءوا بعده من نفس طينته، كانوا مولعين بالجلوس في المقاهي ومع ذلك ابدعوا ونبغوا وأجادوا! أيها الشاعر الصديق انني ما زلت اجلس في نفس طاولتنا من مقهانا الأثير أتذكّر أياما وقصصا وحكايات طريفة، وصدفا ومفارقات، وضحكات، ونكاتا وطرائف وقعت لنا مع أحفاد بني عمومتنا وخؤولتنا في هذه الديار العريقة في الحضارة، بعض هذه القصص هي أقرب من الخيال منها الى التصديق لطرافتها ولكنها وقعت بالفعل. الحديث عنك ايها الشاعر الصديق هو الحديث عن الحياة بكل ما فيها من معان وأسرار وغموض، الحديث عنك أيها الشاعر هو حديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة ومرابض الكينونة في تناوش وتشاكس وديمومة متجددة، فالشعر كان عندك هو اللغة في ارقى مظاهرها، هو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض وتساؤل وقلق واغتراب، هو ضرب من مناوشة الوجود، هو تعبير افلاطوني عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس، هو مخلوق يدبّ على قدمين دائم البحث عن القيم الجديدة، هو ليس قصرا على التذّوق الفني أو الاحساس المرهف أو التسامر أو الانطواء أو الانتماء، بل هو مواجهة صريحة للواقع، واستكناه لخباياه وأسراره، واستجلاء لغوامضه ومفارقاته ومعانقة للآمال والآلام.

أيها الصديق العزيز، مجريط كانت تذكرنا بمباهج الحياة الدنيا ورونقها، البريق المشعّ في كل شيء، في الوجوه الحسان، في الجدائل المنسدلة، في العيون المسبلة، والاقراط المدلاة، المدينة ازدانت يا صاح وتبرجّت في كل شيء، وجهها ملطخ بالاصباغ وانت كصاحبك المتنبي كلاكما لا تحبّان الاصباغ فحسن الحضارة عندكما مجلوب بتطرية، وفي البداوة حسن غير مجلوب! الشكوى فينا حبّات متناثرة، وذرات مبعثرة كأنها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عاتية، هذا السحر اللامع يوحي بكثير من الفكر ويبعث على التأمل إلا انه فكر وتأملات مشبعة بضرب من الغنوص المتواتر.. والغربة ايها الشاعر العزيز هي نغمة حزينة في أوتار قلوبنا المعذبة المكلومة والنبع الرقراق يتلألأ مشعّا في أعماق الأنفس المحبة العاشقة.ـ انني ما زلت اتذكّر يا صاح عندما كنّا في ضيافة مسلمة المجريطي العالم الرياضي الذائع الصيت بالحاضرة التي تحمل اسمه، والتي أسسها الأمير محمد بن عبد الرحمن الثالث. كنّا غالبا ما نتحاور في مثل هذه الأمور عندما كنا نرتاد مقهى يسمّى «ابن عمّار» الشاعر الرقيق والشطرنجي البارع، وصديق المأسوف عليه المعتمد بن عباد. كان المقهى يقع قبالة حديقة «ريتيرو» وهي اكبر حدائق العاصمة الاسبانية، وصفها السفير الرحالة المغربي ابن عثمان. وقبله وصفها وصفا دقيقا الفقيه ابو عبد الله محمد بن عبد الوهاب الوزير الغساني، وهي حديقة ذات بساتين باسقة غناء، ومتنزهات فسيحة فيحاء، ذات ظلال وانهار واشجار، كانت هذه الحديقة تذكرنا بجنة العريف في غرناطة الحمراء التي كانت على مقربة منا قلبا وقالبا.. والنور ما فتئ يشعّ منها كما تؤكد القصيدة .. قصيدتك.

كذا نؤم كذلك مقهى آخر يسمّى «سليمان» وكنت تقول كلما هممنا بالدخول الى المقهى لعلنا نعثر هنا يا اخ محمد على خاتم سيدنا سليمان لنقصي عنّا به الهموم والمشاغل التي كانت تثقل كاهلنا ولكنك «لم تجد الحياة والضوء في مدائن الضياع والفقر وكان شعرك النار في وحشة المنفى وفي منازل البرد» ولم نعثر قطّ على خاتم سليمان، كما أننا لم نحظ قطّ بصحبة ابن عمّار، استمتعنا فحسب بأشعاره، ونوادره، وطرائفه، وأخباره وأقاصيصه.

وذات مرة وبمحض الصدفة كدت تتحول فيها او خلالها ايها الصديق العزيز من شيخ وقور الى شاب يافع، غضّ الإهاب تتوقّد شبابا وحيوية ونشاطا، بل سرورا وحبورا، اذ ما حدث لنا اضفى عليك وعلي من الغبطة حتى كنت أرى أسارير وجهك تلمع نضارة وبشرا، فقد تعرّفنا في مقهى ابن عمّار ذات مساء على غادتين اسبانيتين جلستا بجوارنا، كانتا حديثتي العهد بالالتحاق بكلية الآداب بجامعة مدريد المستقلة قسم اللغة العربية وآدابها، وكانت الفتاتان تتحدّثان العربية بصعوبة وتعثّر، وانطلقنا في حديث عفوي معهما دون أن نقدّم أو نعرّف بأنفسنا وقلت ساعتها لواحدة من الفتاتين:

ـ إذن أنتما تدرسان الأدب العربي الحديث؟! ـ نعم ولكننا بدأنا هذه السنة فقط! ـ طيب من هو الشاعر العربي الذي تعرفانه أو درستما شيئا له؟

فقالت الأطول قامة والأجمل محيّا:

ـ أنا شخصيا لا أعرف حتى الآن سوى شائرين (شاعرين) اربيين (عربيين) اثنين وهما: نزار كبّاني (قبّاني) وبيّاتي، وهذا الأخير يعجبني شعره أكثر. وسررنا من وقع المفاجأة علينا، ولكنك التزمت الصمت محتفظا ببسمة صافية نديّة معهودة، وقلت أنا للفتاة على الفور:

ـ أتصدقين أن الجالس بجانبك هو الشاعر عبد الوهاب البياتي نفسه!؟

فوجئت هي الأخرى وسرّت وظلت برهة تتفرّس في وجه شاعرنا الكبير وكأنها تتساءل اذا ما كان في الأمر دعابة أو مزاح وكان عليّ أن أعود لأصرّ مرة أخرى بأن الجالس بجانبنا هو الشاعر البياتي نفسه فعلا! ولم تقف المفاجأة عند هذا الحدّ، بل لقد ذهبت بنا أبعد من ذلك، اذ عندما قدّمت لنا الفتاة نفسها.. قالت إن اسمها لاَرَا و (لارا) من أعظم قصائد البياتي التي كتبها عندما كان في موسكو! تحية حرَّى أيها الصديق العزيز من نفس الزّاوية من نفس مقهاك الأثير لديك، الذي تحضرني فيه، في هذه الأمسية الحزينة القائظة، ذكراك.

* الشاعر عبد الوهاب البياتي كان يشغل خلال فترة الثمانينات منصب المستشار الثقافي لبلاده بمدريد. وكان الكاتب مستشاراً ثقافياً في السفارة المغربية في المدينة نفسها