من يجيد فن السعادة؟

شوبنهاور المتشائم دائماً ينصحنا أن نكون سعداء لكن بشروطه هو

TT

عن دار النشر الاسبانية هيردر ببرشلونة، صدر بطبعة جديدة، كتاب للفيلسوف الألماني ارثور شوبنهاور (1788 ـ 1860)، «شروط العيش الرغيد أو فن احتمال ما لا يحتمل».

ويشير ناشر الكتاب الباحث الاسباني فرانكو قولبي، ان هذا البحث ظل منسياً ومهملاً لمدة طويلة من طرف الناشرين الذين أهملوا بعض أعمال شوبنهاور. ويتساءل الناشر مَن مِن القراء في استطاعته أن يثق أو يأخذ مأخذ الجدّ نصائح رجل مثل شوبنهاور، من أجل تحقيق أو بلوغ سعادة غامرة، وأن يضمن لنفسه عيشاً رغيداً في حياته؟، خاصة إذا علمنا مقدار التشاؤم والسوداوية التي كانت تغلف فكر وعقل وطبع وفلسفة هذا الفيلسوف المعروف بطبعه الحاد. ان مؤلف أو واضع هذه الشروط الخمسين التي يتضمّنها كتابه، والتي ينصح فيها القارئ لتحقيق عيش رغيد، هو نفسه عاش حياة تعسة حافلة بالمفاجآت والمعاناة.

ويشير الناقد بلطسار جراسيان: ان الحياة السعيدة هي تلك التي يتمناها الإنسان لنفسه ويهيئ لها الظروف التي تحيط بها، وهذا الأمر لا يتأتّى لكل البشر، حيث لا يمكن لكل واحد من الناس اختيار الحياة المرجوّة لأسباب ما ودوافع معيّنة ليس خوفاً من الأخطار التي تحدق به أو هروباً من الموت الذي يطارده على سبيل المثال. وأمام استحالة تحقيق هذه الإمكانية أو إدراك هذه الغاية، فإن شوبنهاور ينفي ذلك نفياً قاطعاً في كتابه وفي فلسفته بشكل عام، خاصة إذا تعلّق الأمر بحياة الإنسان أو الكائن البشري بالذات.

فما هي إذن أهمّ أنواع أو أصناف فنون العيش الرغيد التي يمكن أن تأتينا بالخصوص من رجل مثل شوبنهاور؟

إن الأمر يبدو وكأنّه يقوم على طرفي نقيض أمام استحالة توفير حياة سعيدة سعادة مطلقة ذلك أن كل شيء يكتسب قيمته بالمقارنة مع سواه، فضلا عن عنصر النسبية في الحصول أو الوصول إليه، بمعنى أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتطلّع أو يتوق إليه المرء هو أن يحقق أو يوفر لنفسه وضعاً مريحاً بالقياس والمقارنة مع أوضاع أخرى أكثر فداحة أو تعقيداً، أيّ البحث عن حالات أو أوضاع للعيش أقل ألماً ومعاناة وانزعاجاً من غيرها من المواقف الأخرى.

ولعلّ أول الأسباب والعوامل التي تفْضي إلى الإخفاق في توفير السعادة تكمن في نفس هذا التطلع الحثيث ذي التوق المهووس نحو البحث أو التنقيب عمّا يمكن أن يسمّى بالسعادة المطلقة أو السعادة الإيجابية، حيث يعتبر شوبنهاور ذلك علّة أو مرضاً يمكن أن يعالج مع مرور الزمن.

إن الفرق أو التفريق بين هذين النصفين في حياة الإنسان تصنعه الخديعة أو الكذب، ذلك أننا فقط عندما نعترف باستحالة العثور أو تحقيق السعادة في الحياة، حينئذ يبدأ النصف الثاني أو النصف الآخر من وجودنا (وجود الكائن البشري)، حيث نحاول فيه أو خلاله توفير ـ على الأقل ـ ما يمكن أن نطلق عليه «الحياة السلبية» (غياب الألم وتفادي كلّ ما هو غير مرغوب فيه). وهذا هو الشيء الوحيد الذي في إمكاننا تحقيقه بشكل نسبي، وان الذين في إمكانهم تحقيق ذلك هم هؤلاء الذين تخطّوا عتبة ذلك الخداع أو الغشّ وأولئك فقط يمكنهم الزعم ـ صدقاً أو كذباً ـ أنهم عثروا أو وضعوا أيديهم على ضالّتهم في قواعد العيش الرغيد لشوبنهاور على طريقته الخاصة، التي لا تخلو من غرابة وتفلسف بطبيعة الحال، حيث تقوم فلسفته من هذا المجال بالذات بالاقتناع في أن أكبر رأسمال يملكه الإنسان أو الكائن البشري يكمن في العبارة التالية: كلّ واحد هو قدر من القيمة أو الأهمية التي يفوق بها كلّ ما يملكه أو يقدمه أو يمثّله إنسان آخر!.

المسألة تكمن إذن في أنه في الوقت الذي تكون فيه الشهرة أو الجاه أو المراكز المعزّزة في متناول الجميع، حينئذ يظلّ اختيارنا لمن نكون أمراً صعباً وفي غير متناولنا أو يستحيل علينا اختيار مَنْ نكون أو نحبّ أن نكون، خاصة في ما يتعلق بطبيعتنا الشخصية. ومن ثمّ فإن فنون العيش الرغيد تكمن قبل كلّ شيء في معرفة كلّ منا لنفسه حق المعرفة أو معرفة قدر كل منا لنفسه، وكذا في استغلال خصوصية شخصية كل منا بهدف تحقيق أو بلوغ التوازن الذي ينتج عن وصفة السعادة عن الرفع من المعنويات وسلامة الجسم أو توفير الصحة والعافية، وأخيراً هدوء الروح والسكينة وكبح جماح النفس..

وهكذا تغدو فنون العيش الرغيد عند شوبنهاور في آخر المطاف هي أننا لا يمكن لنا أن نحكم على أنفسنا ونضع لها تقييماً ذاتياً لنعلم مَن «نحن».

ان قبول تلك الطبيعة التي لم يكن لنا دخل فيها، أو في اختيارها أو اصطفائها، تعني أن «الإرادة الحرّة» هي ليست أرادتنا، بل هي إرادة العيش الفطرية المتواترة التي تسبق تمثيلنا أو تقمّصنا لشخصية مَن نريد أن نكون، ومن ثمّ تطفو الخديعة في حياتنا ومشاعرنا، ويقع الخلط بين حريتنا الحقيقية الخاصة وحريتنا المصطنعة.

ومثل ذلك كحجرة الفيلسوف اسبينوزا، التي هي تطير ـ في منظوره ـ بحريّة، في حين أنّها في الواقع تهوي نحو القعر أو الهوّة السحيقة بفعل جاذبية تلقائية.

* شروط العيش الرغيد أو فن احتمال ما لا يحتمل

* المؤلف: ارثور شوبنهاور

* الناشر: هيردر، برشلونة ـ اسبانيا