في مديح المثقفين الحقيقيين

فاضل السلطاني

TT

يُشبّه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان في كتابه «كل ما هو صلب يصير هباء»، حملة الثقافة الطليعية في مجتمعات متخلفة بفاوست جوته، فهم، مثله، يعيشون تمزقا حادا بين المثال الثقافي والواقع الاجتماعي.

والفرق أن فاوست، بعد تقلبات حياتية وروحية عاصفة، استطاع، في نضجه، أن ينتصر على هذا التمزق التراجيدي الذي عاناه قبله بروميثيوس وكل أبطال المأساة الإغريقية، وعاناه بعده آلاف المثقفين والمفكرين والحالمين الحقيقيين حين استطاع، في ظروف معينة، أن يوفق بين الذات والموضوع، وهي ظروف قلما تحصل في تاريخ البشر المعذبين بين الواقع والمثال.

كيف يمكن أن نطبق ذلك على المثقف العربي؟ بإمكاننا أن نقول إن مثقفينا العرب عموما، أمام حالة استقالة كاملة من الحلم، وحالة توافق شبه كامل مع الواقع، أو ما يبدو أنه توافق شبه كامل ولده نشوء وعي زائف يعيد ترتيب الأشياء في ميدان الممارسة العملية الفكرية، حسب «رؤية» جديدة أنتجها، ويعيد إنتاجها، التراكم الاجتماعي المتخلف، والقمع السلطوي العنيف المسلط على رؤوسنا حتى من دون ذنب. نقول عموما، لأن هناك مثقفين ما زالوا يحلمون رغم كل شيء. ومن الحلم تولد قوة الرفض للانصياع للواقع البغيض الذي تتجاذبه الآن، كما يبدو، قوتان مهيمنتان: السلطة بكل امتدادتها الأمنية والإعلامية، والمثقفون الذين انخرطوا، طواعية أو قسرا، في «الجهاز» الثقافي تحت شعار «ليس في الإمكان أفضل مما كان»، مساهمين مساهمة فعلية في تشويه القيم الفكرية والجمالية التي تربوا عليها ردحا من الزمن.

وسيلجأ المثقفون المحبطون إلى صناعة الوهم لإيجاد المبررات الفكرية لتحولاتهم العاصفة ليستعيدوا توازنهم النفسي المفقود وليحتالوا على عملية الانفصام التي باتوا يعيشونها، لأن استمرار عملية الانفصام هذه لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الانتحار. وهكذا سيلتقي العدوان اللدودان: المثقف والسلطة، للمرة الأولى. وبالطبع الفائز الأكبر هو السلطة في كل زمان ومكان.

ومع ذلك، هناك مثقفون «فاوستيون» قد يكونون قليلين، ومتناثرين هنا وهناك، في هذه الزاوية أو تلك من هذه الأرض العربية السعيدة، لكنهم موجودون. قد يصمتون دهرا، لكنهم حين ينطقون تصل أصواتهم عالية مغطية على كل الضجيج الذي يجيده دائما أنصاف المثقفين. مثل هؤلاء المثقفين هم الذين يقفون بالرغم من الصمت والقمع والسجن والموت، وراء الإنجازات الروحية الهائلة التي تحققت، عبر التاريخ، في هذا البلد أو ذاك، وهم الذين فتحوا ويفتحون أمامنا نوافذ جديدة للحق والحقيقة والجمال. وما يميزهم جميعا ولعهم المفطورون عليه بالإنسان وليس بشيء آخر.

وجود مثل هؤلاء المثقفين في أي بلد، حتى لو كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، هو الذي يبعث على التفاؤل والفرح الكبير لأن كلماتهم هي التي ستبقى، وما عدا ذلك من طنين وضجيج وقتي وزائل كالزبد.