وجهان لجورج بوش.. ما قبل وما بعد 11 سبتمبر لكن هل سيدخل التاريخ كرئيس عظيم؟

أمير طاهري

TT

بعض القادة يولدون عظماء، والبعض الآخر تهبط عليهم العظمة مصادفة. قياسا على هذه المقولة أين نضع جورج ووكر بوش، الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة الاميركية في يناير (كانون الثاني) من عام 2001؟

منذ عام مضى كان هناك عدد كبير وربما أغلبية من الاميركيين الذين يؤمنون ليس فقط بأنه من المستبعد أن يصبح جورج ووكر بوش زعيما عظيما، بل ويرون انه ما كان يتعين أن يكون في ذلك المنصب من الأساس. لقد شابت الانتخابات التي خاضها نزاعات حول فرز الاصوات في ولاية فلوريدا، التي يشغل منصب حاكمها أخوه الأصغر جيب. وقد حصل ووكر على منصب الرئاسة بعد ان حكمت المحكمة العليا بالولايات المتحدة بوقف الجلسة الثالثة من الفرز في ولاية فلوريدا.

وفي نهاية الأمر، تقبل قادة الحزب الديمقراطي، بمن في ذلك المرشح المهزوم آل غور، النتيجة غير انهم أصروا على رفضهم الاعتراف بأن ووكر «قد تم انتخابه»، وفي المقابل راحوا يرددون عبارات مثل «كسب الرئاسة» أو «سلمته المحكمة العليا الرئاسة». وفي ضوء مثل تلك البداية المشؤومة، لم يكن من المستغرب أن يحصل جورج ووكر بوش على أقل النسب في استطلاعات الرأي العام، مقارنة بأي رئيس اميركي في بداية فترة ولايته البالغة أربعة أعوام، بل وساد الاعتقاد لدى البعض بأن الرئيس قد أصبح مثل البطة العرجاء في الاسابيع القليلة الأولى له بالبيت الأبيض.

والحقيقية ان هناك العديد من المظاهر التي توحي بأن جورج ووكر لم يخلق للعمل العام، فما بالنا برئاسة الولايات المتحدة، فهو رجل هادئ لطيف الصحبة، لديه شهية محدودة وقدر أقل من الموهبة لممارسة فنون الخطابة، واتقان العاب السيرك التي تطغى على السياسة الاميركية. ومن السهل ان تتبين في ملامحه الدماثة أكثر من حزم السلطة، فهو شخص يروق لك كجار تدعوه الى بيتك في حفل شواء، ولكن لا تثق فيه بالضرورة حين يتعلق الأمر بالأزرار النووية.

وهو أيضا شخص بسيط، يوحي بأنه يفضل المواقف والظروف المألوفة عن تلك التي تنطوي على مخاطرة أو مفاجأة. وتنبئ سماته أيضا بأن لديه هامشاً ضيقاً من الاهتمامات وقدراً ضئيلاً من الصبر على المراسم المرهقة للسلطة السياسية.

عندما وقعت مأساة 11 سبتمبر (ايلول)، حين اختطف ارهابيو تنظيم «القاعدة» ثلاث طائرات واقتحموا بها برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن، بدا التأثير المبدئي لهذه الاحداث الدرامية سلبيا، مرة أخرى، على صورة جورج دبليو بوش، الذي ظهر بعد الساعات الأولى من الهجوم مهزوزا، ومرتبكا، بل ومرعوبا. وحسب الإجراءات التي تم وضعها خلال فترة الحرب الباردة تحسبا لمثل هذه الطوارئ، اختفى الرئيس في مكان محصن في نيبراسكا، وهي ولاية صغيرة مزدحمة تقع في مكان ناء من القارة الاميركية، الأمر الذي خلق انطباعا بأن الرئيس قد اختبأ. وبدأ العديدون، ومن بينهم بعض مساعدي الرئيس نفسه يتساءلون فيما بينهم عما اذا كان هو الرجل المناسب لقيادة الولايات المتحدة في التعامل مع أحلك اللحظات التي مرت بها منذ مأساة بيرل هاربر عام .1941 بدأ العالم أجمع يركز على جورج دبليو بوش بشكل حقيقي للمرة الاولى. وفي ايام قليلة ظهر من جديد كقائد قوي وحاسم، وبدت الصورة أكثر زهوا حين نظم الرد الاميركي. وخلال بضعة أسابيع، كان بوش قد حقق فعليا أهداف حربه كافة، حيث تم تدمير نظام طالبان، وتحييد تنظيم «القاعدة» في معظم افغانستان.

* المواطن الأميركي العادي

* غير ان فرانك بروني يرى، كما يوضح في كتابه السلس، أن شعبية بوش الكاسحة لم تكن بسبب قيادته الحاسمة للحملة الاميركية في أفغانستان، وانما لأنه حصل على إرثه الحقيقي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويشير بروني الى أن العلاقة الوطيدة بين بوش والشعب الاميركي نشأت حين بدأ عامة الشعب ينظرون الى الرئيس الذي أثير حوله الجدل بنظرة فاحصة، جعلته يبدو أمامهم بعيدا عن صورة الابن المدلل نجل الأب الارستقراطي، مما جعله قريبا الى المواطن الاميركي العادي، وبدا أن جورج ووكر، لم يشعر بالراحة الكاملة إلا في صحبة العاملين من الرجال والنساء، وهي الحقيقة التي أبرزها جليا لقاؤه مع عمال اطفاء نيويورك بعد أيام من هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

وفرانك بروني، صاحب الكتاب المذكور، هو مراسل صحيفة «نيويورك تايمز»، الذي كان مكلفا بتغطية أخبار حملة بوش الانتخابية لرئاسة الجمهورية عام .2000 ولأن موقف هذه الصحيفة المناوئ لسياسات الحزب الجمهوري معروف منذ القدم، فلم يكن من المستغرب ألا تظهر تعاطفا مع بوش، بل أن الصحيفة أعلنت قبل أيام من الانتخابات دعمها لآل غور باعتباره أفضل رجل يمكن ان يقود البلاد خلال السنوات الأربع التالية. ووصفت الصحيفة بوش بأنه رجل غير ذي ثقل، يفتقد الحنكة السياسية، وذكرت انه تبوأ منصبه بفضل والده، الرئيس الأسبق جورج بوش.

غير ان بروني، وجد في ووكر شخصية مختلفة حين كان يتابعه أثناء الحملة الانتخابية. وفي الواقع، لم يكن بوش رجل سياسة بالصورة المتعارف عليها، فقد دخل معترك السياسة في مرحلة متأخرة من عمره (في أواخر الاربعينيات)، وبالتالي كان يفتقد مهارات السياسي المحترف، ورغما عن ذلك، فإن فوزه بمنصب حاكم ولاية تكساس، ثالث أكبر ولاية اميركية من حيث تعداد السكان، يظهر انه لم يكن ذلك الرجل «الصامت»، كما يزعم معارضوه. والدليل على ذلك، إن ولاية تكساس، المعروفة بولائها التقليدي للحزب الديمقراطي، صوتت لصالحه كحاكم للولاية لفترتين، بنسبة اصوات تزيد على 60% في كلتا المرتين. وقد أدرك بروني انه ليس من المعقول ان يكون الـ6 ملايين مواطن الذين صوتوا لصالح بوش في ولاية تكساس «أغبياء»، كما كانت تظن صحيفته.

* الثقافة والسياسة

* يقول بروني على الرغم من ان بوش ليس مثقفا، فانه «شديد الذكاء»، وهذا هو مربط الفرس، إذ انه في حين ينبغي ان يتمتع السياسي الناجح بالذكاء، فان المثقف عادة ما يكون رجل سياسة فاشلا.

ولعل عقد مقارنة بين كلينتون وجورج ووكر من شأنه ان يبرز بعض الحقائق المهمة، فالرئيس كلينتون، الذي تربى يتيما في بيئة فقيرة، تقمص دور رجل الشعب، الذي يظهر امام شاشات التلفزيون وهو يمضغ «ساندويتش همبرغر» في ملتقى عام، أو وهو يلعب الساكسفون، ويتحدث بلغة الفقراء من البيض والزنوج في ولاية آركنسو مسقط رأسه، غير انه من الواضح ان دور «رجل الشعب» الذي لعبه كلينتون لم يكن إلا عرضا مسرحيا. فقد تربى كلينتون بعيدا عن بيئته المعدمة في آركنسو، حيث التحق بأكبر الجامعات التي تتطلب نفقات كبيرة مثل ييل واكسفورد، بل واصبح عضوا في نادي الاثرياء المعروف حتى قبل ان يصبح حاكما لولاية آركنسو. وعلى النقيض، فقد ولد جورج ووكر في عائلة ثرية، ولكنه شب كمواطن عادي، ولذلك لم يكن ظهوره بمظهر «الشخص العادي» عرضا تمثيليا. ومن المثير هنا، وفقا لهذه الخلفية الاجتماعية، يبدو بيل كلينتون وكأنه ابن بوش الأب أكثر مما يبدو جورج ووكر.

ويرى بروني ان أهم صفات ووكر هي معرفته لحدوده، فهو دائما يبدي استعداداً لان ينصت ويتعلم ولا يشعر بأي غضاضة في الاعتراف بأخطائه. وهذا السبب تحديدا هو ما جعله قادرا على ان يجمع حوله فريقا قويا من المستشارين. وعلى خلاف النموذج التقليدي للمثقف الذي يرى ألف جانب للقضية الواحدة، ومن ثم يقف أمامها عاجزا، فان ووكر لديه القدرة على تحجيم الاختيار في بعض الجوانب، والاختيار فيما بينها اعتمادا على حدسه. ويكمن في ذلك احد أسباب الوتيرة السريعة التي يتم بها صنع القرار في ادارة ووكر، وهي نقطة خلاف واضحة مع ادارة كلينتون حين حال المنهج غير الواضح للرئيس دون تمكين الولايات المتحدة من تطوير سياسة واضحة حيال معظم القضايا.

ويرى بروني ان عبارة «المحافظ الرحيم» التي يحلو لجورج دبليو بوش ان يصف بها نفسه، ليست مجرد عبارة جذابة، ذلك لان جورج ووكر محافظ بالفطرة غير انه ليس مستعدا لان يسجن نفسه في قفص آيديولوجي، ولذلك لم يجد أية غضاضة،حين تم طرح أكبر خفض للضرائب في تاريخ الولايات المتحدة باسم الاصلاحات المالية، في ضخ مليارات الدولارات للاقتصاد الاميركي الذي بدا مهددا بالركود العام الماضي رغم معارضة مستشاريه.

وكل ذلك يعني ان ووكر لديه الاستعداد لان يفعل كل ما يظن انه ضروري لأن «ينجز المهمة»، ومن هنا فان مفهوم الرئاسة بالنسبة له يعتمد على فكرة البراغماتية، وقد يفسر ذلك الى حد كبير الخطوات المتناقضة التي اقدم عليها حتى الآن. فقد استخدم لغة عاطفية حين تحدث عن التجارة الحرة، ولكنه فرض رسوما جمركية كبيرة على واردات الصلب. وقد وعد بأن تشهد السوق العالمية قدرا أكبر من المنافسة، ولكنه أعطى أوامره بتوفير أكبر قدر من الدعم للمزارعين الاميركيين. أما على الصعيد الدولي فقد أسند لنفسه دور المسؤول عن فرض القانون في العالم، ولكنه أكد على تصويت الولايات المتحدة المبدئي على المشاركة في محكمة مجرمي الحرب الدولية الجاري تأسيسها. العديد من الأمثلة الأخرى المماثلة ذكرها بروني في كتابه، لكن يبقى ان جورج ووكر أقل من مقنع في معالجة سياسة الولايات المتحدة حيال الشرق الاوسط، وفي اهماله لانتهاكات حقوق الانسان في الصين وروسيا. وهو قد لا يكون نموذجاً تقليدياً للسياسي، ولكنه قد تعامل في هذه القضايا مثل اسوأ نماذج السياسيين التقليديين.

والأمر المهم ان على العالم الخارجي ان يأخذ في اعتباره ان جورج دبليو بوش مستعد لان يستخدم سطوة الولايات المتحدة في أعنف صورها عند الضرورة، وعند الحاجة إليها شأنه في ذلك شأن رونالد ريغان، الذي ينتمي الى ولاية إلينوي وتربى في كاليفورنيا، والذي كان الاوروبيون يسخرون منه باعتباره «راعي البقر القادم من تكساس». أما جورج ووكر، فهو ابن حقيقي لولاية تتخذ شعارها «لا تعبث مع تكساس»، ولا يبقى إلا ان يأمل المرء، كما يقترح بروني، ان يكون جورج ووكر ذكيا بما يكفي لان يعرف متى وكيف يطبق هذا الشعار على أرض الواقع.

ومن الاسباب الاخرى التي تجعل كتاب بروني مثيرا للاهتمام والاثارة انه يتناول ببصيرة نافذة مدعومة بالاسلوب الذي عرفت به الصحافة الاميركية، حين تغطي، على الأقل، انتخابات رئاسية تتسم بالحساسية، الطرق المبتكرة التي يلجأ إليها الصحافيون، لإثارة النزاعات بين المرشحين، وكيف يؤلفون القصص، ويصنعون من الحبة قبة، كما يقول المثل الشعبي، بل وكيف يبالغون في الاحداث ليكتبوا عناوين جذابة. ولان الاعلام الاميركي معروف بتعاطفه عموماً مع الحزب الديمقراطي، كان من البديهي ان يواجه جورج ووكر أعنف معاملة منذ بداية حملته. ويبدو انه تخطى كل ذلك بفضل حيلة بسيطة تقول: واجه عاصفة جديدة بابتسامة وانتظر حتى تهدأ. وقد نجحت هذه الحيلة خلال الحملة، ولكن يبقى السؤال: هل يمكن ان تنجح هذه الحيلة على أرض الواقع، الذي تطغى عليه الصراعات والنزاعات، والذي يفرض على الولايات المتحدة مواجهة شكل جديد من أشكال التهديد؟ الاجابة على هذا السؤال هي فقط ما تجعلنا نقرر ما اذا كان جورج ووكر سيدخل التاريخ كزعيم عظيم أم لا. أما كل ما يمكن ان نفعله في الوقت الحالي، فهو ان نستمتع بقراءة كتاب بروني المصور والمكتوب بدقة بالغة عن رجل تؤثر كل خطوة من خطواته، سواء أعجبتنا أم لا، على حياتنا.

* قراءة متأنية في التاريخ

* أسطورة جورج بوش الابن.. أوديسا كاذبة

* المؤلف: فرانك بروني ـ 2002