ما الذي كان يجمع بين طه حسين والحبيب بورقيبة؟

كتاب تونسي عن زيارة صاحب «في الشعر الجاهلي» إلى المغرب العربي ولقاءاته مع المسؤولين والطلبة

TT

انه كتاب جد مهم هذا الذي اصدره الباحث التونسي ابو القاسم محمد كرو، عن علاقة عميد الادب العربي ببلدان المغرب الثلاثة: تونس والجزائر والمغرب، ففيه رصد تفاصيل هذه العلاقة التي توطدت بالخصوص خلال الزيارتين اللتين اداهما صاحب «في الشعر الجاهلي» و«الأيام» الى كل من تونس والمغرب بعد حصول هذين البلدين على استقلاليهما.

ويقول الباحث ابو القاسم محمد كرو الذي درس في جامعة بغداد خلال الاربعينات وتعرف على رموز الثقافة العربية في مجمل الاقطار الشرقية، ان أول مقال كتبه د. طه حسين للتنديد بالاستعمار الفرنسي في كل من تونس والجزائر كان بعنوان: «في الجهاد»، وقد صدر يوم 29 ديسمبر / كانون الاول 1953. وفيه كتب يقول: «ولن يكون امر فرنسا في مراكش وتونس، أقل من امرها في الهند الصينية معرة ونكرا الى ان يثوب الى العالم الديمقراطي شيء من رشد، فيردها راضية او كارهة الى ايثار العافية والضن بما تبقى لها من ابنائها وحر أموالها والفراغ لما ينبغي ان تفرغ له من القيام على امورها الخاصة.. فهذا الارهاب الذي تنشره، وهذا العسف الذي تفرضه في هذه الاقطار من شمال افريقيا، قد أخذ ينتج لها الشر، كل الشر، والوبال كل الوبال بما يقر في نفوس ابنائها من البغض والمقت، ومن الضغينة والحقد، وما يدفعهم اليه من لقاء الكيد بالكيد ومقاومة الارهاب بالارهاب، والبطش بالعاسفين واعوانهم حين تمكنهم الفرصة وتواتيهم الظروف والتأهب للحرب الضروس التي لا تبقي ولا تذر يوم يتاح لهم ان يشنوا نارها علانية لا خفية وجهرا لا سرا».

وخلال توليه وزارة المعارف في مصر بين 13/1/1950و21/1/1952 عمل د. طه حسين على تعميق الصلات الثقافية والعلمية بين مصر واقطار المغرب العربي، فمنح الدكتوراه الفخرية للمؤرخ التونسي الجليل حسن حسني عبد الوهاب الذي كان عضوا بارزا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وانشأ في العاصمة الاسبانية مدريد معهد الدراسات الاسلامية الذي أوكلت له مهمة دراسة التراث الاندلسي والمغاربي في جميع المجالات. ولا يزال هذا المعهد يقوم بهذا الدور الكبير على افضل ما يرام. كما انه فكر في إحداث معهد آخر من هذا الصنف في الجزائر، غير ان السلطات الفرنسية رفضت ذلك رفضا قاطعا الشيء الذي أثار امتعاضه وغضبه هو الذي كان ينعت حتى في ذلك الحين من قبل اعدائه بانه «سفير فرنسا في مصر». وخلال توليه منصب وزارة المعارف، وتشجيعا منه للتعليم العربي في تونس، اصدر د. طه حسين امراً بالاعتراف بالشهادات التي تمنحها الجامعة الزيتونية، والمدرسة الخلدونية، وبذلك فتح الباب واسعا أمام الطلبة التونسيين.

وقد جاء د. طه حسين الى تونس في اول زيارة له أواخر شهر يونيو/ حزيران 1957، أي عقب مرور سنة وثلاثة أشهر على حصول البلاد على استقلالها التام. وكان النظام الملكي لا يزال قائما حين كان الحبيب بورقيبة زعيم الحركة الوطنية يترأس أول حكومة انشئت بعد انهيار معاهدة الاحتلال التي امضيت يوم 12 مايو/ ايار 1881، والتي بمقتضاها اصبحت تونس تابعة للامبراطورية الاستعمارية الفرنسية المترامية الاطراف. وكان أول نشاط له حضوره الحفل السنوي لاختتام السنة الدراسية بالجامعة الزيتونية داخل رحاب الجامع الاعظم. وقد استقبله عند الباب رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة ووزير المعارف الامين الشابي وعميد الزيتونية الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور وابنه الشيخ بن عاشور وعشرات الشيوخ والاساتذة وآلاف الطلبة. وبعد الترحيب به من قبل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور القى د. طه حسين كلمة قال فيها بالخصوص: «اني لاسعد الناس بما اتاحه لي السيد رئيس الحكومة التونسية الصديق العزيز الحبيب بورقيبة حين تفضل فدعاني لزيارة تونس، واشهد لقد أهدى الي بذلك فضلا لا ينسى أو ما أكثر ما دعيت الى زيارة تونس فأبيت. كرهت ان أزورها وهي خاضعة لغير أهلها، فأما الان وتونس قد حررت بفضل هذا الجهاد الرائع الذي جاهده ابناؤها وعلى رأسهم رئيس حكومتها، اما الآن وقد اصبحت تونس تملك أمرها كله وتشارك في الحياة الدولية عزيزة كريمة، فقد اصبحت زيارتها حقا عليّ، واصبحت واجبا ايضا». كما اعجب د. طه حسين بالاصلاحات التي ادخلت على اساليب وبرامج الجامعة الزيتونية وهي تشبه في مجملها الاصلاحات التي كان يطالب بتطبيقها بشأن جامعة الأزهر، غير ان محاولاته بليت بفشل ذريع. ومعبرا عن اعجابه بذلك، كتب يقول: «واعترف باني شكرت الله عز وجل صنيعه ونعمته حين رأيت جامعة دينية شأنها في المغرب العربي كشأن الأزهر في المشرق الاسلامي، تحقق ما يصبو اليه المثقفون في مصر منذ اعوام طوال فتنزل لوزارة التربية والتعليم عن التعليم الابتدائي والثانوي وتفرغ للتعليم الديني العالي، وتلائم بذلك بين حياة الدنيا والدين، وتلغي بذلك الفروق العقلية الكثيرة بين الذين يتخرجون فيها والذين يتخرجون في المدارس المدنية». وكان للاصلاحات التي ادخلتها تونس على جهازها القضائي حال حصولها على استقلالها صدى كبير هي ايضا من نفس عميد الادب العربي، فكتب يقول مادحا ذلك: «وقد أردت ان استقصي الامر بعد ذلك، فعرفت ان تونس لم تكد تستقل حتى وحدت قضاءها، كما وحدناه في مصر، فجعلت شؤون الاحوال الشخصية كغيرها من الشؤون الى المحاكم المدنية. ولكنها خطت خطوتها الثانية التي لم نخطها نحن بعد، فوحدت التعليم الابتدائي والثانوي كما وحدت القضاء. ولم تكتف تونس بهذا، وانما مضت الى ابعد منه والى ابعد منه كثيرا فجعلت أمر القضاء الى القاضي لا الى الزوج، وجعلت الطلاق لا يصدر ولا يقع الا بحكم قضائي فعصمت الأسر بذلك من عبث كثير».

وقد توطدت العلاقة بين الرئيس بورقيبة ود. طه حسين خلال اقامة الأول في القاهرة بوصفه زعيما وطنيا وذلك بين 1945 و1949. ولعل ذلك يعود الى ان الرجلين كانا شديدي الاعجاب بالثقافة الفرنسية، حيث درس كل منهما في باريس وتزوج من فرنسية. غير أن السبب الاقوى في تميز العلاقة بين الرجلين كما يؤكد ذلك الباحث ابو القاسم محمد كرو، هو الاعتدال المشترك في كره الاستعمار الفرنسي، والدعوة الى التفاهم مع ساسته من حكام وزعماء.

ومن أهم نشاطات د. طه حسين خلال زيارته لتونس، حضوره جلسة حوار شيق ومطول بينه وبين الاديب محمود المسعدي والشاذلي القليبي وعلي البلهوان وهو من رموز الحركة الوطنية، وقد تركز هذا الحوار على واقع الشعر العربي وايضا على القصة والرواية في العالم العربي. وبخصوص واقع الشعر العربي قال د. طه حسين: «ان الشعر العربي في هذه الايام يجتاز أزمة حرجة بعض الشيء. فهو متردد بين الطريقة التقليدية القديمة التي احياها شعراؤنا القدماء في القرن الماضي وفي اوائل هذا القرن، وبين محاولات للتجديد يقلد بها بعض مذاهب الاوروبيين في الشعر. فبعض شعرائنا في مصر مثلا لا يزال ينسج على منوال احمد شوقي، وبعضهم يذهب مذهب حافظ ابراهيم أو مذهب محمود سامي البارودي. وكل هؤلاء الشعراء المصريين الكبار كانوا مدرسة واحدة هي مدرسة احياء الادب او الشعر العباسي القديم، فهي كانت مدرسة تقلد اكثر مما تجدد، وتحيي اكثر مما تنشئ، وكثير من شعرائنا في مصر، ومن شعراء الشام والعراق يذهبون هذا المذهب. فان كان في مصر قد وجد البارودي وحافظ ومطران فقد وجد في الشام شعراء ذهبوا في هذا المذهب، وكذلك في العراق وجد شعراء ذهبوا نفس المذهب (...). وحينما حاول القدماء من امثال ابي نواس ان يجددوا في المعاني، ومن امثال ابي تمام ان يجددوا في الالفاظ والمعاني جميعا، وجدوا مقاومة هائلة، فكذلك الحال في هذه الايام، والثقة عظيمة في ان يتغلب الجيل المعاصر على كل هذه المصاعب... واذ يبتكر أو يتاح له ابتكار مذهب جديد في الشعر ألا ينأى عن أصول اللغة العربية ولكنه في الوقت نفسه يلائم الحياة الجديدة التي يحياها العرب في هذه الأيام». ويعبر د. طه حسين عن شكه في حركة التجديد في لبنان، ربما لان الشعراء اللبنانيين حسب رأيه يبالغون في تقليد الشعراء الفرنسيين، الشيء الذي يجعل تجاربهم لا تتواصل في اللغة العربية، وهو يضيف قائلا: «وكل هذا الشعر اللبناني الجديد لا يزال مضطربا ولا يستسيغه الذوق العربي، وليس هو بملائم أدق الملاءمة حتى النماذج التي يقلدها هؤلاء الشعراء».

وفي جلسة الحوار المذكورة عبر عميد الادب العربي عن اعجابه بالشابي، وقال في ذلك: «ربما كانت المصيبة فادحة جدا بوفاة ابي القاسم الشابي، وكلنا محتاجون لان نراه يعيش وتتصل حياته لنرى الى أي تطور يتطور فنه الذي نشأ، وان يتطور الى ايجاد فن جديد في الشعر يستقر ويتجاوز صاحبه الى غيره، بحيث يصبح صاحب مذهب في الشعر، كما كان بعض الشعراء العرب القدماء او كما نجد بعض الشعراء الغربيين». وبعد ان ابدى اعجابه بكتاب «السد» للاديب التونسي محمد المسعدي، ابدى بعض الملاحظات القيمة بخصوص الادب القصصي والروائي في العالم العربي، وقال متحدثا عن نجيب محفوظ: «عندنا كاتب مثل نجيب محفوظ كتب قصصا صور فيها الاحياء القديمة في مدينة القاهرة او قد صور بها الحياة في بعض الاسر المتوسطة البورجوازية. وانا اؤكد ان هذه القصص لو ترجمت الى الفرنسية او الانجليزية لقرأها الفرنسيون مثلا كما يقرأون قصص الكتاب الايطاليين او الكتاب الانجليز أو الاميركيين. هذا يأتي من ان نجيب محفوظ اخذ بحظه من العلم ومن الثقافة وتخرج من الجامعة من الفلسفة واتصل بالثقافة الغربية، ولم يقطع صلته بها وهو يعلم ما يكتب في البلاد الاوروبية، وهو من اجل هذا ينتج القصص الممتاز».

وكانت لعميد الادب العربي علاقة متينة بالمغرب والمغاربة ايضا بسبب بعض الطلبة الذين درسوا عليه مباشرة في الجامعة المصرية مثل عبد الكريم غلاب، وكانت رحلته لهذا البلد عام 1958، وذلك في عهد الملك محمد الخامس. وقد وصل د. طه حسين الى مدينة طنجة، بالباخرة قادما اليها من جبل طارق، ومن هناك توجه في اليوم التالي الى الرباط حيث استقبله الملك واكرمه التكريم اللائق به مانحاً إياه وساما استحدث من اجله. وخلال اقامته في المغرب طاف د. طه حسين في المدن التاريخية المغربية مثل فاس حيث القى محاضرة امام علمائها وشيوخها يتقدمهم الزعيم علال الفاسي. كما زار جامع القرويين وتجول في الازقة الضيقة القديمة مستعملا سيارة الملك محمد الخامس الخاصة بهذه المدينة والتي كانت صغيرة جدا.. كما زار مدينة تطوان والقى فيها محاضرة هي ايضا.

* الكتاب: طه حسين والمغرب العربي

* المؤلف: أبو القاسم محمد كرو