بعد مائة عام على تأسيسه.. من يحتاج إلى التحليل النفسي؟

المجتمع يصبح مريضا من شدة الانغلاق والعطالة الذاتية مثله مثل الفرد، وعندئذ لا بد من تحليله نفسانياً

TT

التحليل النفسي هو احد العلوم الانسانية مثله في ذلك مثل علم الاجتماع او اللغة او الانثروبولوجيا او الاقتصاد او التاريخ او السياسة الخ.. ولكنه تعرض في الآونة الاخيرة لهجمات عديدة شككت في علميته واهميته. وقد جاءت هذه الهجمات بشكل خاص من طرف علم الاعصاب الدماغية الذي يدعي بانه قادر على تفسير تصرفات الانسان وعقده وامراضه النفسية عن طريق آخر غير التحليل النفسي الذي اسسه فرويد. ففي رأي هذا العلم المنتشر حاليا في امريكا واوروبا، ان الاختلال الذي قد يطرأ على الانسان عائد الى اسباب بيولوجية او عصبية تخص الخلايا المادية، لا الى اسباب نفسانية محضة. وبالتالي فيمكن مداواة الامراض النفسية عن طريق العقاقير الطبية والمسكنات والمهدئات التي تم اكتشافها مؤخرا، لا عن طريق الاستلقاء على اريكة المحلل النفساني كما ساد منذ زمن فرويد. وهكذا انتشرت العقاقير الطبية المضادة للانهيار العصبي او الاكتئاب النفساني في المجتمعات الغربية المتقدمة. وراح هذا الانتشار يهدد مهنة المحللين النفسانيين لانه لم يعد احد بحاجة اليهم لكي يشفي امراضه وعقده المتأصلة. فاذا كنت تستطيع ان تشفي مرضك النفسي عن طريق تناول حبة صغيرة تشتريها من الصيدلية، فلماذا تضيع وقتك لدى المحلل النفساني؟ نقول ذلك، خاصة ان التحليل النفسي عملية طويلة ومعقدة ويستغرق احيانا عدة شهور ان لم تكن عدة سنوات.. كما انه يكلف مبالغ مادية ضخمة.

ضد هذا التوجه تنهض الباحثة الفرنسية اليزابيث رودنسكو في كتابها الاخير الذي يدافع عن التحليل النفسي ليس فقط كعلم وانما كوسيلة للعلاج. والباحثة المذكورة هي مديرة بحوث في جامعة السوربون ـ باريس السابقة، كما انها نائبة رئيس الرابطة الدولية لتاريخ الطب النفسي. وقد اشتهرت في السنوات الاخيرة في فرنسا عن طريق اصدار بعض الكتب المهمة، نذكر من بينها: تاريخ التحليل النفسي في فرنسا (جزءان كبيران يرويان كيفية دخول منهجية فرويد الى البيئات الجامعية والثقافية الفرنسية منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته تقريبا). كما نشرت عام 1997 قاموس التحليل النفسي الذي اصبح مرجعا ضروريا للطلاب والدارسين، وفي هذا الكتاب الجديد الذي يحمل عنوان «لماذا التحليل النفسي؟» تقول المؤلفة ما يلي: الشيء الغريب العجيب هو انه بعد مائة سنة على تأسيس التحليل النفسي، وبعد ان حقق نتائج طبية لا يستهان بها، فإنه يتعرض الآن لهجوم عنيف. والذين يهاجمونه هم اولئك الذين يزعمون المقدرة على احلال المعالجة الكيميائية او الصيدلية محله. وهم يقولون بانها اكثر فعالية من منهجية التحليل النفسي لانها تصل الى الاسباب الفعلية لتمزقات الروح: اي الاسباب المخية او الدماغية. هذا في حين ان التحليل النفسي هو عبارة عن مجرد كلام في كلام. فهو يعتمد على منهجية تداعي الخواطر الحرة كما اسسها فرويد قبل مائة سنة. ونقصد بها ان المريض يستلقي على سرير المحلل النفساني ثم يبتدئ بشرح قصة اوجاعه وعقده بطريقة عفوية، كيفما اتفق. وعن طريق شرحها او الجرأة على التحدث عنها يتوصل الى التحرر منها. وهذا ما ينكره الآن الكثيرون وفي مقدمتهم جماعة علم الاعصاب الدماغية او البيولوجية neurobiology. بالطبع فإن اليزابيث رودنسكو لا تتفق معهم في هذا الرأي ليس فقط لانها محللة نفسانية على طريقة فرويد، وانما لاسباب فلسفية ايضا. صحيح انها لا تنكر فائدة العقاقير الطبية التي تم اكتشافها مؤخرا والتي تهدئ من الاوجاع النفسية للعديد من الناس في المجتمعات المتقدمة. ولكنها تقول بما معناه: لقد اردت في هذا الكتاب ان ابرهن على ان هذه العقاقير لا يمكن ان تشفي الانسان من آلامه النفسية سواء أكانت طبيعية ام مرضية. قد تهدئ هذه الآلام مؤقتا ولكنها لا تشفيها ولا تقتلعها من جذورها على عكس ما يزعم اصحابها. ينبغي العلم ان الموت والعواطف الهائجة والجنس والجنون واللاوعي والعلاقة مع الآخرين هي اشياء تتحكم بنفسية كل واحد منا، ولا يمكن لاي علم ان يستنفدها لحسن الحظ. فالأعماق النفسية للانسان اغنى واوسع من كل علم مهما تكن اهميته. ينبغي ان نعلم ايضا ان التحليل النفسي يشكل نوعا من انتصار الحضارة على البربرية. فهو يؤكد على الفكرة الاساسية التالية: ان الانسان حر بكلامه وانه ليس محصورا بعضويته البيولوجية الفيزيولوجية. لا يمكن اختزال الانسان الى مجرد خلية عصبية مادية، ولا يمكن الخلط بين الرغبة او الشهوة وبين الافراز الكيميائي للاعضاء او للاعصاب. الانسان ليس حيوانا ماديا فقط كما يحاول ان يقنعنا اصحاب علم الخلايا البيولوجية، وانما هو روح ايضا، ومشاعر واحاسيس تتعالى على الشروطية المادية وتتجاوزها دون ان تنكر اهميتها او وجودها. وبالتالي فالتحليل النفسي مستقبله امامه لا خلفه وسوف تظل له مكانته بالاضافة الى العلوم الانسانية الاخرى التي تحاول تفسير الانسان او فهم دوافعه وتصرفاته. ولكن الناس ينقسمون قسمين تجاه التحليل النفسي. فالبعض ينكر فائدته العملية او قدرته على اعطاء نتائج ملموسة: اي على شفاء الامراض والعقد النفسية، والبعض الآخر يثبت العكس. نضرب على ذلك مثلا بما قاله الرئيس الفرنسي جاك شيراك قبل بضع سنوات: «لقد راقبت عمل المحللين النفسانيين والنتائج التي توصلوا اليها ولم اقتنع تماما بذلك. واعتقد ان سبب الامراض النفسية هو كيميائي او فيزيولوجي اكثر مما هو نفساني او عصبي»، عندما قال الرئيس شيراك هذا الكلام فانه كان يعبر عن خيبة امله بالتحليل النفسي الذي لم يستطع ان يشفي ابنته الكبرى «لورانس». ومعلوم انها كانت مصابة بامراض نفسية وقد حاولت الانتحار اكثر من مرة وشكلت بذلك تراجيديا حقيقية للرئيس وزوجته. ومعلوم ايضا ان له ابنتين فقط ولا ولد ذكرا له. اما البنت الثانية «كلود» فهي في صحة جيدة وتتمتع بكامل قواها العقلية والنفسانية، بل وتحتل وظيفة مرموقة في قصر «الاليزيه» الى جانب والدها. وهي تساعده كثيرا على تحمل مسؤولياته الضخمة وتعتبر من اقرب المستشارين اليه ان لم تكن اقربهم.. اما الشهادة الثانية التي تقول العكس والتي تدلل على فائدة التحليل النفسي فقد جاءت من طرف السيدة فرانسواز جيرو، الكاتبة الشهيرة في فرنسا حاليا والوزيرة السابقة في عهد فاليري جيسكار ديستان. فهذه السيدة المرموقة في المجتمع الباريسي لم تتردد أخيرا عن الاعلان، وعلى شاشات التلفزيون بانها كانت مصابة بمرض نفساني وانها حاولت الانتحار عندما تأزمت عقدتها اكثر مما يجب. ثم فجأة جاءها الانقاذ من طرف «جاك لاكان» اشهر محلل نفساني عرفته فرنسا في تاريخها كله، وربما اشهر شخصية في علم النفس بعد فرويد ذاته. لقد اعترفت الوزيرة السابقة والكاتبة الحالية في مجلة «لانوفيل اوبسرفاتور» بمديونيتها للتحليل النفسي الذي شفاها من ازمتها واعادها الى الحالة الطبيعية. تقول بالحرف الواحد في تصريح جريء وغير مسبوق: «ان جلسات التحليل النفسي صعبة وشاقة على النفس. ولكن عندما ينبطح المرء ارضا، عندما يصبح عاجزا عن تحمل نفسه، فانه لا علاج له الا في التحليل النفسي. هذا على الاقل ما استنتجته من خلال تجربتي الشخصية. وما ازال مدينة لجاك لاكان بالشكر اللانهائي.. نعم لقد انقذني من ورطتي، ولم اعد اخجل من ذاتي وتصرفاتي. لقد تصالحت مع نفسي بعد ان تمددت على السرير العلاجي لهذا الطبيب والمفكر الكبير.. نعم ان التحليل النفسي اذا ما قام به المحلل بشكل صحيح يؤدي الى نتائج ممتازة وناجعة».

فأيهما نصدق: شهادة جاك شيراك ام شهادة فرانسواز جيرو؟ وهل نعطي ثقتنا للتحليل النفسي او نسحبها منه؟ لا تتردد الباحثة اليزابيث رودنسكو في حسم المسألة لصالح الجواب الايجابي: اي لصالح التحليل النفسي ومنهجيته في العلاج، منهجية تداعي الكلام الحر حيث يتجرأ المريض على البوح باشياء مرعبة او مخجلة لا يتجرأ على البوح بها لأي شخص آخر حتى ولو كان من اقرب المقربين، وعن طريق البوح بها، عن طريق التلفظ بالكلام الصعب يتحرر المريض منها، كل شيء يحصل كما لو انه ينطبق على منهجية التحليل النفسي، ما قاله ابو نواس في بيته الشهير: وداوني بالتي كانت هي الداء.. فلكي اتحرر من عقدة الخجل ينبغي ان اتحدث عن الخجل مرات ومرات امام الطبيب. ولكي اتحرر من عقدة الاحساس بالذنب بدون سبب ينبغي ان اتحدث عنها ايضا بكل حرية امام المحلل النفساني حتى لو كلفني هذا الحديث الصريح مشقة نفسية هائلة. ومعلوم ان اي تحليل نفساني يصطدم بعقبات، وتجاوز هذه العقبات يؤدي الى تحرر الانسان من عقده. والمقصود بالعقبات هنا ان اي مريض عندما يستلقي على سرير المحلل النفساني ويبتدئ بالتحدث عن عقده الداخلية يصل في لحظة ما الى نقطة حرجة لا يجرؤ على البوح بها لأي مخلوق على وجه الارض. وهو عندئذ يجد نفسه امام خيارين ولا ثالث لهما: فاما ان يقفز على العقبة ويغطي عليها واما ان يواجهها وجها لوجه ويعترف بها امام الطبيب، وفي الحالة الثانية فقط يتحرر منها. ولذلك يقولون بان التحليل النفسي يحتاج الى جرأة كبيرة وشجاعة فائقة من طرف المريض، أو الانسان المصاب بعقدة معينة. فهو مضطر للتحدث عن حياته الجنسية مثلا او عن نواقص معينة لا يجرؤ على البوح بها حتى الى نفسه!.. مهما يكن من امر فان التحليل النفسي يطرح مسألة أخرى اكثر ضخامة واتساعا الا وهي مسألة المجتمعات المنفتحة والمجتمعات المنغلقة. من يجرؤ في اي مجتمع عربي او اسلامي على البوح بعقده النفسية؟ من يجرؤ على القول بانه مصاب بعقدة معينة ولا يعرف كيف يتخلص منها؟ نقول ذلك، خاصة اذا كانت شخصية مشهورة في عالم الادب، والفكر، او السياسة. انه عندئذ يفقد قيمته وهيبته الشخصية. ولكن لم يعد الحال كذلك في المجتمعات المتقدمة. لقد دهشت ولم اكن اصدق عيني عندما رأيت فرانسواز جيرو على شاشات التلفزيون الفرنسي وهي تتحدث عن ازمتها النفسية وكيف شفيت منها على يد جاك لاكان. وقلت بيني وبين نفسي: اين هو المسؤول العربي او حتى الشاعر الصغير او الكاتب العادي الذي يجرؤ على الاعتراف بنصف ما اعترفت به فرانسواز جيرو؟ بالطبع فان المسؤولية ليست ملقاة عليه وانما على المجتمع ككل. فنحن نعيش في مجتمعات منغلقة مليئة «بالتابوات» او المحرمات. وهذه الاشياء كانت موجودة في المجتمع الفرنسي سابقا وكانت تشله شللا، ولكنه تحرر منها اخيرا بعد جهد جهيد. ان الثورات العلمية والفلسفية والسياسية والجنسية والاجتماعية التحررية التي حصلت في المجتمع الاوروبي على مدار القرن الماضي هي التي اتاحت له ان يصبح مجتمعا مفتوحا او منفتحا يطيب العيش فيه. وهي التي اتاحت لافراده ان يصبحوا صريحين مع انفسهم ومع الآخرين وان يعبروا فعلا عما يشعرون به دون مواربة او مداراة. وهذا ما يدهشنا او حتى يصدمنا، عندما نحتك بالمجتمع الغربي لأول مرة. فنحن الخارجين من مجتمعات منافقة، مهزومة، لا تجرؤ على التصريح بما تعتقده حقيقة، لا نكاد نصدق، ان هناك مجتمعات اخرى تصرح بمثل ما تضمر وتجرؤ على تسمية الاشياء باسمائها. سوف اذهب الى ابعد من ذلك لكي اوسع الاشكالية واعمقها اكثر. سوف اقول بان المشاكل الضخمة التي تعاني منها مجتمعاتنا حاليا والتي تعبر عن نفسها على شكل انفجارات عنيفة ما كانت لتنفجر بهذا الشكل وتحرق الاخضر واليابس لو ان التحليل النفسي مسموح به عندنا. واقصد بذلك التحليل النفسي الجماعي والفردي على حد سواء. فالمجتمع ايضا قد يصبح مريضا من شدة الانغلاق والعطالة الذاتية مثله في ذلك مثل الفرد. وعندئذ لا بد من تحليله نفسانيا: اي لا بد من تشخيص المشاكل الكبرى التي تنخر في اعماقه والتي تهدده بالانفجارات والحروب الاهلية. ولكن المشكلة هي ان اي تشخيص دقيق لمشاكل المجتمع يصطدم بالثالوث المحرم: الجنس، الدين، والسياسة. فمن يتجرأ على الخوض في مشاكل الجنس في المجتمع العربي او الاسلامي؟ من يتجرأ على طرح المسألة الدينية أو المذهبية او الطائفية بشكل علمي موضوعي؟ من يتجرأ على نقد السياسة والزعماء السياسيين؟ هكذا نلاحظ اننا نصطدم فورا بالعقبات الكبرى التي تحول دون تشخيص مشاكل المجتمع الاسلامي او العربي. لا يوجد اي حزب سياسي في السلطة وفي المعارضة قادر على تسمية الاشياء باسمائها وتشخيص الامراض الكبرى التي تعاني منها مجتمعاتنا. قد يبدو كلامي هذا مبالغا في تشاؤمه، فالكلام المحرر ابتدأ يظهر هنا او هناك تحت ضغط الحالة والحاجة. وهذا صحيح ولكن هل يكفي؟ هل يشفي الغليل؟ اني لألمح خلف الغيم طوفانا..

* الكتاب: لماذا التحليل النفسي؟

Pourquoi la Psychanalyse?

* المؤلفة: اليزابيث رودنسكو Elisabeth Roudinesco

* الناشر: فايار، باريس Fayard - Paris