العروي يعيد طرح الأسئلة القومية الكبرى ويسكت عن أوضاع داخلية خاصة

مسارات المفكر المغربي وصراعاته المريرة مع الذات والتاريخ في خواطره الصباحية

TT

د. كمال عبد اللطيف* تكشف يوميات عبد الله العروي «خواطر الصباح» (1967 ـ 1973) عن جوانب من مساره وتجربته في الفكر وفي الحياة، وهي تقدم للمهتمين بفكره النقدي في الثقافة المغربية والفكر العربي المعاصر صورا غنية من تاريخ الفكر والمجتمع في بلادنا.

تحضر في اليوميات شجون الذات وقضايا التاريخ، كما تحضر أسئلة الدولة والمجتمع، ونستطيع ان نقرأ فيها وبواسطتها جوانب متعددة من التاريخ الشخصي للمفكر، علاقته بما ينتج، ردود فعله المباشرة من المواقف التي اثارتها اعماله الفكرية الاولى، انخراطه في التأليف والبحث، مشاركته في الانشطة البحثية التي تقيمها مؤسسات جامعية عالمية.

وتحضر في اليوميات ايضا وبلغة مباشرة الاسئلة التاريخية السياسية الكبرى التي عاصرها الرجل. تحضر هزيمة 67 وفشل المشروع القومي الناصري، كما تحضر اشكالات القضية الفلسطينية في صورة اسئلة تتجاوز الهزائم الحاصلة والانتصارات الممكنة لتضع يدها على جذور القضية وابعادها التاريخية والسياسية، وذلك استنادا الى نصوص ووقائع وشهادات حية.

تندرج بعض مقاطع الخواطر ضمن أدبيات نقد الهزيمة العربية، التي تبلورت في الكتابة السياسية العربية في بدايات السبعينات مع حدة واضحة في نقد الفكر السياسي العربي المواكب للهزيمة وتبعاتها.

نتعرف في خواطر العروي وسوانحه على اهتماماته المتنوعة والمرتبطة بأفقه الحداثي في الفكر والتفكير، نقصد بذلك شغفه بالسينما والمسرح والفنون التشكيلية، ففي نصوص الخاطرات تحضر افلام متعددة، كما تحضر تعليقات تترجم كيفيات قراءاته لبعض الافلام والمسرحيات والمعارض الفنية.

ولأن الامر يتعلق بخواطر تدون في أوانها لتعكس تصورات الذات ومواقفها من اليومي والجسدي والتاريخي والسياسي، وتتخذ مواقف من الاحداث والسلوكات ومن الظواهر في ما تظهر وفي ما تخفي وتضمر، فان النص المدون يتشعب ويتعدد ليتحول الى سجل من الاعمال والمواقف، سجل يعكس درجات انخراط منتجه في الاحداث الموصوفة والمروية الواقعية والمحتملة الوقوع.

يعين نص الخواطر في مجمله الاختيارات الفكرية الكبرى التي رسمها الباحث لحياته في مجال الفكر والممارسة السياسية، حيث كان يبدي عناية قوية بكل ما يجري في مجتمعه وفي المحيط العربي والعالمي، وقد اختار ممارسة دور المثقف الملتزم والفاعل، المثقف الباحث الذي يتجه لتركيب التصورات الاقرب في نظره الى منطق العمل التاريخي السياسي، لحظات تأمله في كل ما كان يجري أمامه، سواء وهو يقيم في وطنه أو في لحظات وجوده خارج وطنه في القاهرة وباريس ولوس انجليس.

لا يمكن ان ندعي اننا استنفدنا في الاشارات السابقة كل الموضوعات وكل الايحاءات التي يتضمنها نص الخواطر، ففيه مقاطع موصولة بكتاباته الروائية والفكرية السابقة واللاحقة، وفيه مقاطع غنائية مستلة من سياقات فكرية وزمانية مختلفة ومشحونة بالدلالة، اضافة الى عشرات الاحداث والقضايا التي تطفو بصورة مكثفة فوق سطح النص لتترك للقارئ فرصة تركيب الدلالة المحتملة والممكنة.

وقد يرى الذين يفكرون في كتابة العروي ومشروعه الفكري ان هذا النص يقدم لهم عناصر مضيئة لجوانب ترتبط بمؤلفاته الاولى «الايديولوجيا العربية المعاصرة» (67) و«تاريخ المغرب» (70) ثم «ازمة المثقفين العرب» (73) و«العرب والفكر التاريخي» (74). المؤلفات المرتبطة بزمن الخواطر المعلن في غلاف النص، وهذا امر صحيح مع لزوم اضافة امر آخر يتعلق بكشف اليوميات لعناصر من شخصية الباحث، شخصيته الباحثة، نقصد بذلك أن ما دونته اليوميات من مواقف تتعلق بردود فعله اتجاه الحيف الذي لحقه بمنع مؤلفاته الاولى من التداول في المغرب لحظة صدورها، حيث شمل المنع نص «الايديولوجيا العربية المعاصرة» ونص «تاريخ المغرب». وقد عبر العروي في مذكراته بعنف موجز وبليغ عن عمق أحاسيسه بالخيبة، كما عبر عن أشكال مقاومته المتمثلة في اعماله الفكرية التي تواصلت بعزم وحزم وقوة وإيمان في دائرة الفكر المغربي والثقافة العربية، حيث واصل العروي حضوره وواصل نقده الجذري لمظاهر تأخرنا التاريخي الفكري والسياسي والاجتماعي، ونقده ايضا وبلا مواربة ولا مخاتلة لكل مظاهر السلفية الفكرية والانتقائية الثقافية، وقد بنت اعماله صرحا فكريا رسم فيه الملامح الكبرى للاختيار الحداثي التاريخاني في الفكر والسياسة والمجتمع في فكرنا المعاصر. وعكست سخريته المبطنة في الخواطر، وجمله الحادة في نقد المناوئين لمشروعه من سدنة السلطة وأعوانها، وقد سماهم في الاغلب الاعم بأسمائهم، عكست هذه المواقف الدرجة العالية من المسؤولية الاخلاقية والثقافية التي التزم بها طيلة حياته والى يومنا هذا.

يفيد نص الخواطر إذن كل المهتمين بفكر العروي وبالفكر المغربي والعربي المعاصر. ومقاطع اليوميات بجملها القصيرة وبترسلها المسهب احيانا، وكذا بالمقاطع المستلة من مؤلفاته ورسائله ورسائل اصدقائه، تعبر عن نمط مركب من الكتابة، مثله في ذلك مثل الاعمال الادبية السردية يمكن منتجه من الانفتاح على فضاءات متعددة في الكتابة. وقد وجه العروي في هذا النص رسائل متعددة، وجهها لأزمنة توارت دون أن تتوارى كل أوجهها واماراتها، كما قام في هذا النص بتوثيق بعض معطيات حياته الخاصة بحميمية وباختزال شديد واشارات دالة.

تحضر في كل صفحات الخواطر الاسماء، تحضر اسماء الاشخاص واسماء الظواهر والاحداث، تحضر الاسماء في الجمل، كما تحضر في الفقرات، وقد تحضر لتختفي في عطفة جملة عارضة، وفي مجال عرضه للأسماء نكتشف عالما عجيبا، وقد احصيت في النص من أسماء الاشخاص ما يتعدى المائة، اسماء رجالات الحركة الوطنية ورموزها، اسماء رموز الحركة الثقافية المغربية، في النصف الاول من القرن العشرين، اسماء المثقفين المغاربة المجايلين له، هذا دون ان نتحدث عن الاسماء العربية المشرقية والمغاربية، وقد وردت بكثافة تعكس مستويات ارتباطه بالمجال السياسي الثقافي المغربي والعربي.

تحضر في السياق نفسه اسماء المستشرقين وأسماء الباحثين الاوروبيين والجامعيين الاميركيين او الوافدين الى اميركا من الذين تعرف عليهم داخل معهد الدراسات الشرقية الذي قضى فيه سنة كاملة محاضرا في تاريخ المغرب، كما نجد اسماء الباحثين الذين ارتبط بهم في ملتقيات علمية او ناقش بعض اعمالهم، او الباحثين الذين ناقشوا او انتقدوا أو ثمنوا بعض اعماله. وفي مختلف سياقات ذكره للاسماء نكتشف مواقف ومعطيات وتصورات تتصل بعوالم الرجل الفكرية واهتماماته الانسانية المتشابكة.

ويبدو لي ان لعبة الاسماء في النص منحته أبعادا هامة ومركبة، وعندما نختار عينة صغيرة منه للاقتراب أكثر من النص ومن لعبة الاستحضار المكثف للاسماء داخله نكتشف أننا أمام قضايا متعددة.

يحضر على سبيل المثال اسم علال الفاسي بصورة متواترة، يحضر برمزيته الفكرية والسياسية، يحضر بانفتاحه الفكري وتسامحه وذكائه السياسي، ويحضر كصاحب مشروع فكري في الثقافة المغربية المعاصرة. لكن الصورة التي تتخلل مستويات الحضور المتعدد تمنح الكاتب، ليس فقط اعلان تقديره للرجل، بل بناء ما يحدد مستويات هذا التقدير ودرجاته. فعندما يتحدث مثلا عن تنوع قراءات النخب العصرية في المغرب يضعه مقابل عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الشرقاوي، ويضعه بجانب ابراهيم الكتاني واحمد بناني. فيفهم من التقابل ما يفيد اختلاف المرجعية الفكرية للاسماء والرموز. وعندما ينتقد جوانب من ممارسات الحركة الوطنية في علاقتها بنظام الحكم في المغرب، يحضر اسم علال أيضا في سياق مختلف عن الاول والثاني.

إن التواتر في الحضور يواكب أحداثا ومعطيات مختلفة، فيتحول الاسم الى أسماء، ولعله يتحول الى حركات وأفعال مرتبطة باشكالات سياسية أو ثقافية أو تاريخية تتجاوز الاسماء المفردة لتطال وتشمل الاحزاب والاختيارات والمواقف.

لنأخذ مثالا آخر من الاسماء وليكن هذه المرة اسم الباحث الفرنسي الماركسي جورج لابيكا الذي كتب دراسة مشهورة عن كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة» بعد صدوره، لكن مناسبة الذكر هنا تستدعي داخل اليوميات وفي سياقات متعددة أسماء باحثين آخرين يرتبطون بالفكر الماركسي والاحزاب الشيوعية الغربية والعربية، حيث يرد اسم روني كاليسو كما يرد اسم ابراهام السرفاتي وغيرهما. فهؤلاء في نظره يصطفون في طريق واحد لان منظورهم الماركسي للتاريخ منظور دوغمائي، وهم لا يفهمون ان الابحاث والدراسات التي تستعيد آليات التحليل الماركسية التقليدية كما رسمت ملامحها في الادبيات السياسية المتداولة وسط الماركسيين الدوغمائيين اصبحت متجاوزة لأنها لا تهتم بالمستجدات المنهجية والفكرية، سواء في مجال تطور الفكر الماركسي ذاته أو في مستوى تطور الفكر المعاصر.

إن الاسماء هنا تحضر لترتيب مواقف، فتتحول الى علامات في سياق يتجاوز التسميات ليفكر في الاشكالات النظرية والتاريخية المرتبطة بمجال اهتمامه وتفكيره.

بهذه الصورة تحضر الاسماء، وفي بعض الاحيان تحضر الاسماء لتحجب المواقف لا لتكشف عنها وتوضحها، وهناك أسماء ترد بدون ذكر أصحابها، حيث يكتفي صاحب اليوميات بذكر وظائف او مهام محددة كاشفة، فيحضر الشخص دون حضور اسمه، كما ان هناك اشخاصا يحضرون دون حضور اسمائهم، بل إنهم يحضرون بتوسط اسماء اخرى. فعندما يحضر مثلا اسم عبد الباقي الهرماسي مصحوبا بصديقته الاولى والثانية في مقاطع متعددة ومتلاحقة في اليوميات، فان النص يتحدث عن الصديقات بلغة واصفة. انه يتحدث عن الصديقات لا عن الصديق، فالاسم الاول يحضر لا بحضوره بل بحضور من برفقته من صديقاته الحسناوات.

ان شبكة الأسماء في النص تشير الى علاقات والى مواقف، كما تشير الى حالات نفسية، وأحيانا تعكس حدة حضور بعض الاسماء صورا من العنف الرمزي القوي والدال، ولعل لعبة الاسماء في النص كاشفة، ولعلها وحدها تحتاج الى قراءة مستقلة.

سنهتم في هذه الملاحظة الاخيرة في موضوع هذه الخواطر، ببعض مواقف العروي من الوضع الداخلي في المغرب، فقد اثارتنا اشارته التمهيدية التي اعلن فيها سكوته عن كثير من الاوضاع الخاصة، وحذفه لبعض اليوميات المتعلقة بظروف المغرب السياسية زمن تحريره لخواطره، ذلك اننا اكتشفنا ان النص يقدم مواقف محددة من الأوضاع الداخلية في المغرب، وهي مواقف يمكن ان تكون مفيدة ليس فقط بالنسبة لحقبة تدوين اليوميات، بل انها تكتسي راهنية تدل على صعوبات التحول المعاق في بلادنا خلال العقود الثلاثة الماضية.

تقرأ بياضات الخواطر في نظرنا بنصوص المؤلف الاخرى. واذا كان نص الخواطر نصا مفيدا في باب توضيح جوانب من مسيرته الفكرية، فان هذه المؤلفات بدورها تنعكس على روح الخواطر ولغتها واسئلتها وأسمائها واحداثها.

في الخواطر نقد قوي للحركة الوطنية ونقد أقوى للمؤسسة الحاكمة، ونقد للماركسية الدوغمائية واشكال تعامل بعض المثقفين والباحثين مع الفكر الاشتراكي ومبادئ الماركسية، ونقد للحركات اليسارية الجديدة (مجموعة أنفاس)، في النص اذن نقد شامل للفكر والسياسة كما تمظهرا في مشاريع محددة في الفكر والمجتمع المغربي المعاصر خلال حقبة تحرير اليوميات، وهي حقبة تتميز كما نعرف بعنف صراعاتها السياسية في بلادنا.

ينتقد العروي الاساليب العتيقة في التدبير السياسي، وينتقد التسويات التي أقامتها وتقيمها الحركة الوطنية مع المؤسسة السياسية، ينتقد تخليها عن الاختيارات الحداثية القادرة عند تحققها على تكسير هيمنة التقليد، ويتوقف العروي في هذا الباب امام طقس البيعة باعتباره ممارسة تقليدية ترسخ أشكالا من الولاء والعبودية معادية للتفكير والممارسة السياسية الحداثية.

مقابل كل ذلك يدافع عن الدولة العصرية، الدولة الديمقراطية، دولة المؤسسات والقوانين، هذه الدولة التي تعبر فعلا عن درجات انخراطنا الايجابي والفعلي في الازمنة الحديثة.

تمتلئ اذن بياضات النص بمبادئ الاختيار التاريخاني كما تبلورت بكثافة نظرية قوية في النصوص الاولى التي كتبها العروي، نقصد نصي «الايديولوجيا العربية المعاصرة» و«ازمة المثقفين العرب». فقد حضرت معطيات هذه النصوص لان المفكر وهو يدون يومياته كان قد انتهى من بعضها، كما كان بصدد تحرير أو إعادة تحرير بعضها الآخر، انها تحضر في بعض محتويات ونتائج هذه الابحاث والكتب في كلمات قليلة كما تحضر في إشارات نقدية عابرة وعامة.

لقد اصبح بإمكاننا ان نتحدث بعد صدور اليوميات عن نصوص مساعدة في فهم أطروحات العروي، لكن بياضات اليوميات تتقلص بدورها تحت تأثير المحمولات النظرية التي وفرها انتاجه الآخر، ليس فقط الانتاج الفكري الذي تزامن صدوره مع لحظة تدوين الخواطر، بل الانتاج النظري الآخر الذي تواصل خلال حياة الرجل راويا بأسلوبه الخاص سيرة فكر وحياة وضعت نصب عينيها مشروعا في التغيير الفكري والسياسي لم تكتمل حلقات تحققه بعد.

* كاتب وجامعي من المغرب