رحلتي مع الكتاب

د. محمد عبد الرحمن الربيع*: أكثر من أربعين عاماً وأنا أصبح وأمسي وصديقي الكتاب

TT

من الصعب تذكر أول كتاب ثقافي قرأته خارج إطار المقررات الدراسية لكني أذكر أنني بدأت القراءة العامة بشكل منتظم بعد أن اجتزت المرحلة الابتدائية والتحقت بمعهد الرياض العلمي عام 1379هـ، وهو العام الذي بدأت فيه ارتياد «المكتبة السعودية» في حي «دخنة» في الرياض.

وفي البدايـــة قرأت بعـــض السلاســل الأدبية والثقافية التي كانت تصدر في ذلك الوقت مثل كتب سلسلة «إقـــرا» التي تصدر عن دار المعــارف بمصر، وسلسلة «كتاب الهلال» التي تصدر عن دار الهلال، وبعض كتب «أعلام العرب» ثم قرأت في كتب أحمد أمين، وبعض من كتب طه حسين وكتب العقاد على صعوبتها ثم قرأت في كتب الشيخ محمد الغزالي وخالد محمد خالد بالإضافة إلى القراءة في كتب التراث كعيون الأخبار والأغاني والعقد الفريد ونهاية الأرب ثم قرأت بعضاً من الكتب المترجمة كقصة الحضارة لول ديورنت وحضارة العرب لفستاف لوبون، وبعد ذلك تنوعت القراءات حسب التوجهات الفكرية والاهتمامات الثقافية لكل مرحلة من مراحل العمر.

وأود أن أشير هنا إلى أنني قد ألزمت إلزاما ـ لا اختياراً ـ بقراءات متنوعة عجيبة بعضها بعيد عن تخصصي، ولذلك أسبـــاب منها أني عملـــت لفترة طويلة في «تصحيح التجارب والكتب» في أكثر من موقع منها «معهد الإدارة العامة» فقرأت في الاقتصاد وإدارة المرور والميزانية العامة وإدارة المؤسسات وعلى الرغم من بعد تلك التخصصات عن اهتماماتي فقد استفدت منها كثيراً لأني كنت أقرأ بتركيز شديد من أجل تصحيح الأسلوب واللغة.

ثم قرأت أنواعاً مختلفة بل متناقضة متنوعة عندما عملت لفترة طويلة مستشاراً للإعلام الداخلي بوزارة الإعلام (إدارة المطبوعات) فكان يحال إليّ الغث قبل السمين والممنوع قبل المفسوح وهكذا.

وحتى الجانب العلمي في حياتي كان دافعاً قوياً لي على القراءة المتنوعة فكل حياتي العملية قضيتها في التدريس في المرحلة المتوسطة والثانوية ثم المرحلة الجامعية ثم الدراسات العليا بالإضافة إلى العمل في مراكز البحوث وعمادة البحث العلمي ثم وكالة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي، ولا أنسى هنا ارتباطاتي العلمية والاستشارية بدارة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومركز الملك فيصل والنادي الأدبي في الرياض. ولذلك كله استطيع أن أقول إنني منذ أكثر من أربعين عاماً وأنا أصبح وأمسي وصديقي الكتاب لا أفارقه ولا يفارقني والحمد لله على دوام الصحبة وشرف المهنة وكلما تضايق من حولي من هذا من زوجة أو أولاد تذكرت قول المتنبي : «وخير جليس في الزمان كتاب»، وتذكرت كلمة الجاحظ الخالدة في شأن الكتاب، وتذكرت قبل ذلك كله أن ديننا الإسلامي العظيم هو دين العلم والقراءة: «إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» (العلق1:) صدق الله العظيم.

المكتبـــة التي أثـــرت في حيــــاتي وكان لها فضل كبير في تكويني الثقــــافي وما أزال أذكرها أنا وزملائي هي مكتبة «دخنة» بالاصطلاح الشعبي أو «المكتبة السعودية» حسب التسمية الرسمية ولهذه المكتبة شأن عظيم فهي المكتبة العامة الأولى في مدينة الرياض وكانت في مبنى ملاصق لمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية وفي بناء متميز في وقته. وقد نشأت المكتبة تحت رعاية سماحته وتولى أمر إنشائها وإدارتها عالم جليل واسع الأفق والاطلاع هو الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدا.ً وقد ولدت تلك المكتبة متكاملة بل كانت بالنسبة للوضع الثقافي في المملكة سابقة لعصرها. صحيح أنه لا يمكن مقارنتها الآن بمكتبة جامعة الملك سعود أو مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ولكن عند افتتاحها في السبعينات من القرن الماضي كانت درة في جبين الرياض وكانت ملتقى لطلاب العلم والمعرفة وكانت تشتمل على فنون متنوعة وإن غلب عليها الطابع الشرعي وعلوم اللغة العربية والتاريخ والتراجم وكانت تصل إليها الدوريات العربية من كل مكان وكذلك الجرائد والمجلات وكانت تعمل فترتين صباحية ومسائية وكنت ومجموعة من زملائي نصلي العصر في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم ثم تفتح المكتبة أبوابها فنتسابق إليها فإذا أذن المغرب خرجنا للصلاة في المسجد ثم عدنا إليها فإذا أذن العشاء أُغلقت أبوابها وانصرفنا وفي يوم الخميس وكذا الإجازة الصيفية نأتي إليها صباح مساء.

وأعود وأقول: إن هذه المكتبة كان لها شأن عظيم ودور بارز في التكوين الثقافي لجيل عريض من مثقفي مدينة الرياض ولم يكن لها منافس في وقتها وكان الشباب يقبلون عليها ويتزاحمون ولذلك فقد لا تجد لك مكاناً في الإجازة الصيفية بصفة خاصة وقد انتقلت المكتبة من موقعها السابق وأصبحت الآن ضمن مبنى إدارة الإفتاء.

* وكيل جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي، ورئيس نادي الرياض الأدبي