نكسة 67 أيقظت الضمير الثقافي العربي وجعلته يدرك أهمية الديمقراطية

TT

الآثار السلبية لهزيمة يونيو (حزيران) على الثقافة العربية و.. المصرية بشكل خاص في كتاب «الثقافة ضد الهزيمة» ليسري حسين.

عندما يكتب احد تاريخ الانعكاسات الفكرية والروحية، وبالطبع الجمالية، لهزيمة 1967 العسكرية، على الحركة الثقافية العربية، والانتاج الفكري والثقافي والابداعي في المراحل التي اعقبت الهزيمة، فانه لربما سيضع هذا الكتاب على رأس قائمة مراجعه، ومصدرا من مصادرها الاساسية.

الكتاب اسمه «ثقافة ضد الهزيمة»، وصدر في نيف ومائتي صفحة بلندن قبل ايام قليلة عن دار الحكمة. للكاتب المصري يسري حسين الذي عمل في الصحافة العربية المهاجرة على مدى العشرين عاما الاخيرة.

واهمية الكتاب تكمن في انه يقدم مجموعة من التحليلات الادبية والثقافية والاجتماعية للآثار السلبية لهزيمة يونيو عام 1976، على الثقافة العربية خلال الثلاثين عاما الماضية، وخصوصا تفشي ظواهر مثل العدمية بأشكالها الوجودية والسياسية والروحية، والتي شاعت وذاعت في اوساط مثقفينا في السنوات التي تلت النكسة.

وكان اشتعال نيران «الردة الفكرية» انعكاسا للردة السياسية والايديولوجية التي ازدهرت وترعرعت، وخاصة في مصر أيام السادات، بفعل سياسة الانفتاح، والحراك الطبقي الذي اوشك ان يقصم ظهر الطبقة الوسطى، ويلقي بأغلبية اعضاء المجتمع الى ما بعد خط الفقر، فيما برزت نخبة من الانفتاحيين و«القطط السمان» الذي نشروا قيما سياسية وأخلاقية واجتماعية تعارضت بشكل كامل مع ما آمن به المصريون منذ آلاف السنين، اذ حل مفهوم «الفهلوة» محل قيمة العمل، واستبدل مفهوم التنمية المستقلة بمفهوم «الاستيراد»، والكمبرادور وحيتان التوكيلات، الذين فرضوا ثقافة استهلاكية فارغة محل منظومة من الافكار والقيم التي تحترم العمل باعتباره قيمة وطنية وإنسانية.

وغاب مفهوم الاستقلال الوطني بعد «العلاقات الخاصة» مع أميركا مقابل المساعدات الاقتصادية.

وتقوقع الكثيرون حول مكتبة صغيرة من كتب التراث التي انتجت في العصور الوسطى، لينشأ تيار سياسي رأى الحداثة، وقيمها، وهي تصاب في مقتل على رمال سيناء والجولان، فحمل كل ما خالفها من قيم. بل وسعى الى فرضها على المجتمع بالارهاب، وكان ذلك كله انعكاسا للهزيمة، وثمرة من ثمارها المرة.

تلك هي ملامح الوجه المظلم الذي يتفق عليه الكثيرون، بمن فيهم المؤلف نفسه، للهزيمة.

فماذا عن الوجه الآخر للهزيمة؟

أليست هي ظاهرة انسانية، قادرة على فرز نقيضها كما كل الظواهر؟

يقول يسري حسين عن هذا الجانب: «من فضائل نكسة 1967 انها هزت العقل العربي وايقظته من ثباته الطويل.. لقد فجرت النكسة قنبلة داخل قبيلة المثقفين، وجعلت الجميع يلتفت حوله ، ويعيد من جديد النظر في مجمل افكاره واتجاهاته. واذا كان البعض قد سقط في قبضة الغموض والعبثية فان البعض الآخر وضع يديه على مكمن الداء، وعلى الاسباب الحقيقية التي كانت وراء نكسة مدوية ما زالت تتفاعل احداثها ونتائجها على ساحة الصراع العربي ـ الاسرائيلي».

ويعود المؤلف، الذي كان من قادة الطلبة المصريين الذين خرجوا في مظاهرات واسعة عام 1972 مطالبين السادات وقتها بتجاوز الهزيمة وخوض الحرب ضد الاحتلال الاسرائيلي، ليقرر: «النكسة مسؤولة عن حالة الوعي والانتعاش التي تغمر حاليا الدراسات والاتجاهات الفكرية الجادة. فهذه المدارس كانت تعيش، قبل 76 حالة من الوعي المسلوب الذي أفقدها الرؤية، واعماها عن متابعة ما حولها. هذه الهزة العنيفة جعلت اهل الفكر يبحثون عن الاسباب الجذرية التي جعلت الامة تسقط امام التحدي الاسرائيلي بسهولة وفي ساعات معدودة».

مذبحة الصحفيين ويرصد المؤلف في الفصول الاولى للكتاب اهم العوامل التي ادت الى النكسة، ويكاد يرجعها الى عامل واحد، وهو غياب الحرية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وانفراد الاوليجاركية البيروقراطية باتخاذ القرار، بدون رقابة شعبية، مما اسفر عن مجموعة من الكوارث التي كادت ان تقضي على انجازات المشروع الناصري، واول هذه الكوارث هو «النكسة». ففي فصل بعنوان «مذبحة الصحفيين»، وهو من اكثر فصول الكتاب احكاما، يحلل يسري حسين، ابعاد معركة الصحفيين والكتاب المعروفين بميولهم الديمقراطية مع السلطة الناصرية عام 1964، عندما امر حلمي سلام رئيس تحرير الجمهورية بفصل 39 كاتبا وصحفيا من جريدة الجمهورية من بينهم طه حسين، وتوزيعهم على المجمعات الاستهلاكية وشركات الاحذية.

يقول المؤلف عن علاقة «الكاهن والفرعون»: «طلبت الحكومة من حلمي سلام تطهير جريدة الجمهورية» من تيار ديمقراطي راديكالي، ولم يكن امامه سوى القيام بهذه المهمة. وعندما تأكد من الضوء الاخضر لاعلان حملة التطهير، قام هو نفسه بضم اسماء الى القائمة، لا يريد ان تكون في مؤسسة يقودها، فعمل على التخلص من شخصيات منافسة له، ولم يفكر للحظة في قوانين الزمالة او حتى الاخلاق المهنية..

لقد تحرك سلام بدوافع ذاتية، وتحركت الحكومة بدوافع سياسية، والتقى الطرفان على القيام بالمذبحة، وعندما يقول، انه بريء، وانه مجرد منفذ للاوامر، وان الحكومة هي المدانة لوحدها، فلا اعتقد ان احدا سيصدقه».

معركة الطيب صالح واذا كان الاستبداد وغياب الديمقراطية من اهم اسباب النكسة، فان «الانغلاق الفكري والاصولية السلفية الظلامية والفساد» من امر ثمارها، وعبر رصد واسعة للظواهر الثقافية وارتباطها بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها مصر والامة العربية، من خلال الادب والسينما والمسرح في السبعينات والثمانينات ، سواء انتجه مصريون او عرب.

فمثلا يحلل المؤلف المعركة التي خاضها الناقد رجاء النقاش عندما كان رئيسا لتحرير سلسلة روايات الهلال في السبعينات، من اجل نشر رواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة للشمال»، ضد النقاد السلفيين والمحافظين الذين اعتبروا الرواية جريئة اكثر من اللازم ، يقول: «..وتكونت (جوقة) ظلت تندب ندبا مستمرا حتى تمكنت من محاصرة الرواية ومصادرتها داخل مصر، الا ان البيئات العربية الاخرى تولت حمايتها، بعد ان وجدت طريقها الى مطابع بيروت، التي تولت توزيعها في الاقاليم العربية التي حمت شروط الابداع، ووفرت المناخ الملائم له بعيدا عن قبضة الغوغائية الفكرية التي لا تؤمن بفكرة التعددية على ساحة الادب والفن. واظن ان رجاء النقاش عوقب من السلطات المحافظة على هذه الخطوة الجريئة، فقد كان الرجل ينشر ادبا فحاسبوه بمنظار الجمود، وعاقبوه بمنطق السياسة».

ومن أدونيس ونزار قباني والبياتي والقشطيني وبلند الحيدري وسعدي يوسف وحتى صلاح عبد الصبور وحجازي وامل دنقل ويوسف ادريس ونجيب محفوظ ويوسف شاهين ومحمود السعدني، الذي اهداه كتابه، يرصد اهم الظواهر الفكرية والادبية والنقدية التي شهدتها ثقافتنا الحديثة بعد النكسة، وكيفية ارتباطها بالتحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الامة وخصوصا في مصر، مما جعل الكتاب بمثابة عملية جرد فكري وجمالي ونقدي تكاد تكون شاملة للنتاج الثقافي العربي في الثلاثين عاما الاخيرة. ويبقى ان كتاب «ثقافة ضد الهزيمة»، بلغته العذبة الصافية، واتساع مدى موضوعاته وشمولها من الكتب التي تشي بان شمس الثقافة الموسوعية لم تأفل بعد. =