أكتب لأجرب الموت أو هكذا تخيل فرناندو بسوا

مي التلمساني

TT

جاءت من باريس واستقرت في مصر الجديدة عام 1952، خمسون عاماً مضت منذ ذلك التاريخ. اليوم، شاخت مكتبة أبي.

* ما الفرق بين أن تقرأ «ألف ليلة وليلة» في صيف عام 1980، وأن تقرأ «دليل المرأة الذكية»، «لبرنارد شو» في صيف العام التالي، طالما أنت تعرف أن التاريخ لن يكتب باسمك أبداً؟

* الكتابة الأتوماتيكية دافع عنها بعض السورياليين، والبعض الآخر تبرأ منها. ماذا يعنينا نحن من مشاحنات السورياليين الدامية سوى أن الثورات مضيعة للوقت؟

* أول كذبة. أول قبلة. أول كتاب. أول ثوب قصير. أول خيبة أمل. أول جائزة. أول رحلة. أول رجل. أول عثرة. لن تبلغ آخر القائمة إلا عند موتك. هكذا تعود الانسان أن يرجئ الأسئلة المحيرة.

* سأكون ذكية. سأضع قائمة تضم الأسماء اللامعة وحدها. وسأفتش عن الكلمات الرصينة ذات الهوى الأدبي. سأدعى أني أتضاءل أمام العمالقة وأن اللغة تعاندني. سأكون كاتبة من هذا الجيل الشكاك، المنفوخ بنصر هزلي.

* لو كنت صديقي، لا تسأل.

* «جيل دولوز» ـ يعود «جيل دولوز» ليبرهن. أني تلك الذكية ـ يقول: القولُ نجس أما الكتابة فطاهرة. لذلك، أصمت كثيراً حتى وأنا أتكلم.

* لا بد أن تحكى الحكاية هكذا: ذات مرة، في يوم من الأيام، ذات مساء، كلما حدث هذا حصل ذاك. كل ما أبقت عليه الذاكرة نثار حكايات نحيكها كل مرة بوعي مختلف. وعي الذين ينسون كثيراً ولا يكذبون أبداً، مثلي.

* بمكر، تدعى أنك تعرفني وأنت تطرق الباب لأول مرة.

* نسيت ان أسأل أبي لماذا توقف عن التدخين. كان من الممكن أن أكون الوحيدة في هذا العالم التي تعرف السر، لولا أنه كف عن الكلام، فجأة.

* قال أبي شيئاً لا أذكره وهو يضع بين يدي «ألف ليلة وليلة». لم أكن قد جاوزت الخامسة عشرة، وربما لم يقل شيئاً يستدعي الذكر.

* من قال ان من حقي الآن أن أكتب أسطورة؟ سأترك المهمة للحكائين من بعدي، ولهواة التلصص المشروع.

* هل كان «فرناندو بسوا» يكتب ليجرب الموت، أم هكذا خيل إلي؟

* شبكة من الأغصان الملتفة، وأخرى من الجذور المتعانقة، بينهما جذع شجرة ماتت لتوها. هكذا تقاس المسافة بين الكتابة والكتاب، بين اللهاث المحموم والسكون لراحة مؤقتة. كلنا تلك الجذوع الخشبية الميتة.

* في ما بعد، فقط في ما بعد، أدرك «ابن خلدون» أن عليه أن يقرأ أولاً «جيل دولوز» لتتضح نسبية العالم. كما أدرك «نيتشه» وهو يتصفح «ما الفلسفة؟» انه ليس وحيداً في جب العدم. هل تعتقد أن ثمة مكانا سريا يلتقي فيه هؤلاء المعجزون غير رف مكتبة أبي؟

* بالفرنسية أقيس ذكائى وبالعربية أقيس النبض.

* قليل من الحيطة لا يضر. لا يفصل بين «نيتشه» و«ابن خلدون» سوى حاجز الزمن الوهمي، والمصلحون المتأهبون لفض الاشتباك في رأسي.

* لو كنت صديقي، كف عن البحث عن اسمك هنا.

* باسم قارئ مفترض لا يفصح عن هويته، لعبت دور العارفين زمناً. الآن وقد عرفت أني لا أعرف، اختفى القارئ وصلت صورتي محل صورته. بعد عشرين عاماً من الآن، من يدري؟ ربما أختفي أنا وصورتي في ظل صورة قارئ مفترض يلعب دور العارفين، ثم يعرف أنه لا يعرف.

* استقرت خلف الباب، متحفزة لأول نداء، معبأة بكل طموحات المجد، حقيبة سفر لا تعرف إلا أن تقتل الوقت بين المطارات. ألم يحن الوقت بعد لكتابة قاموس الأفكار المسبقة لدى الكتاب؟

* حلمت بكم جميعاً، أصدقائي، وقد وضعتكم يد العناية الالهية على رف مكتبة في بيتي. لن يعرف الناس أهمية أرسطو الا لأنه يجاوركم هناك.

* لن أبحث كثيراً. اسمه «بول أوستر». ذهبت الى نيويورك وسرت في شوارعها لأجله. (نفتش في الذكرة عن اسم حاضر بداهة نستطيع الاستعانة به عند الحاحة للاشارة لأحاسيس يبدو أننا الوحيدون القادرون على تعاطيها بسخاء). لم يسألني أحد عن اسم كاتبي المفضل، لكني تبرعت بالاجابة لغرض في نفس يعقوب. ألا يبدو هذا جديراً بكاتبة بارعة تصر أن يعرف القارئ أنها قرأت «بول أوستر» وزارت نيويورك؟

* قانون السلعة. انهيار القيمة. الارتزاق بالفن. العهر الثقافي. دعك من هذا الهراء ولا تكن أخلاقياً. ثم لا تصدق أني من هواة الميلودراما. أنا فقط من هواة الانتحار.

* قلت ان الكتابة لا جنس لها لأنفي عن نفسي الأنوثة. الآن، تكتب الاناث عن الجنس فتنفي عن نفسها الكتابة.

* التردد.. التردد... يجب أن تكرر هذه الكلمة باحتقار كما فعلت شجرة الدر.

* فبأي ذنب قتلت.. الكتابة؟

* تتجاور العناوين بحياد، تحتل الكتب مكانها دون تزاحم، فقط حين تمتد يدي الى أحدها، يعلن الآخرون الحداد. ألم يقل أبي اني «دودة كتب»، تأكل قليلاً وتشبع كثيراً؟

* أنا الآن أحترف الكتابة. لماذا لم تقل لي انك تحترف القراءة؟ هل نسيت أن الاحتراف سمة من سمات النهضة؟

* نبات متسلق ذلك الكاتب، من حقه أن يرى الشمس، لكن ويله لو تسلق جذعاً مائلاً.

* سأكتب قاموساً للأفكار المسبقة عن الفن، فأفضل الفكاهة أمرها. الحقيقة ليس لدي وقت لأكتب قاموساً للأفكار المسبقة عن الفن. سأترك المهمة لفلوبير.

* هل سئمت الكذب فاحترفت الكتابة؟

* لن نتعجل الزمن، في المقهى، سنتعجل احساسا بالزهو لاننا محترفو ثقافة. من حق الانسان أن يلعب الدور الذي يراه ملائماً لقيمته، أليس كذلك؟

* هل أعاني؟ مم أعاني؟ لو «نعم»، كيف؟ لو «لا»، لماذا؟ هل أدافع عن قضية؟ ما هي القضية؟ لو «نعم»، كيف؟ لو «لا»، لماذا؟ هل أكتب لأتحرر؟ مم أتحرر؟ لو «نعم»... هكذا نقضي الوقت في ابتكار خدع جديدة تصلح لاجابات جديدة، تليق بحداثتنا.

* «ساعات... أقوم الصبح قلبي حزين»، لا بأس. ففي ساعات أخرى، يغمرني فرح دافئ لأنك معي، أيها الرفيق.