رينيه ماريا ريلكه: البحث عن الانفتاح في قلب الانغلاق

هاشم صالح

TT

عندما يجيء الصيف لا اعرف لماذا تكبر حاجتي الى الشعر. انا بحاجة الى جرعات شعرية من وقت لآخر كما يحتاج المريض الى الدواء. ومنذ زمن طويل اشعر بأني مريض بالشعر، وان الشعر وحده يشفيني. والشيء الوحيد الذي يؤسفني هو اني لا اعرف كل لغات العالم لكي اقرأ كل شاعر كبير بلغته الخاصة. كنت عندئذ سأقرأ طاغور بالهندية، وهولدرلين او ريلكه او نيتشه بالالمانية، ودوستويفسكي او بوشكين بالروسية.. فالشعر المترجم يشعرك وكأنه مخصي. وليعذرني القارئ فاني لا أحب هذه الكلمة. اقول ذلك وانا اعلم ان هناك ترجمات جيدة ومتعوب عليها. وتظل الترجمة ضرورية على الرغم من كل شيء، وانا من مؤيديها. وفي بعض الاحيان تجد النص الاصلي ومقابله النص المترجم كما هو عليه الحال في مجموعة ريلكه هذه. وقد قام بها الناقدان الفرنسيان جان ايف ماسون وغابرييل ألتين. وقدمت لها الكاتبة الشهيرة مارغريت يورسنار، تقول بخصوص ترجمة الشعر ما يلي:

«لم اتعرف على ريلكه شخصيا على الرغم من اني عاصرته الى حد ما. وكتبه لم اطلع عليها الا بشكل متأخر، في سنة موته. وجزء كبير من اشعاره يستعصي عليّ ويغطس في التمتمة والضباب.. وذلك لان القصائد المترجمة ليست الا عبارة عن حمائم قصت اجنحتها. انها عبارة عن جنيات بحرية اقتلعت بالقوة من محيطها الطبيعي. انها تشبه المنفيين على شواطئ اجنبية والذين يتحسرون لانهم ليسوا في وطنهم».

ثم تردف مارغريت يورسنار قائلة:

«ولكن مؤلفاته النثرية او رسائله الشخصية، وبعض القصائد التي كتبها مباشرة بالفرنسية، ثم الحكايات التي رواها لي عنه الاشخاص الذين عرفوه واحبوه، كل ذلك اشعرني نحوه بمودة اخوية، لا نهائية».

كان ريلكه يشعر بانه وحيد في هذا العالم، وموضوع الوحدة من اهم الموضوعات التي ألح عليها كثيرا. كان وحيدا حتى وهو في زحمة البشر، ولكن من بين الكائنات التي كانت تسكن وحدته او تخفف من وطأتها يمكن ان نذكر الله والربيع والطفولة والريح. نعم الريح بشكل خاص، تلك الريح التي مرت فوق اشجار بلدان عديدة قبل ان تصل الينا.. وذكرى ريلكه اصبحت الآن نسمة خفيفة تشبه الريح وتهب علينا من حين الى حين لكي تنعش وحدتنا الكئيبة او قلقنا المرعب. ذلك ان ريلكه كان قلقا بشكل جنوني، مرضي، لا يمكن تفسيره لانه غائص في اعماق الطفولة. وكانت القصيدة هي التي تمتص القلق الداخلي، هي محطة الاستراحة: اي واحة في صحراء الحياة.

كل حياة ريلكه هي عبارة عن توتر او تذبذب مستمر ما بين القلق القاتل، والطمأنينة المنهكة: اي الطمأنينة التي تجيء بشكل اجباري بعد ان يكون القلق قد ضرب بأخطبوطه ووصل الى تخومه القصوى.

لهذا السبب يبدو على قصائد ريلكه طابع السكينة الاستسلامية. يحصل ذلك كما لو ان القصيدة تمثل تعويضا عن الحياة او ترويضا لها او تحاشيا لخطرها. فالقصيدة تمتص قلقنا، عذابنا، همنا. وفي القصيدة نجد الخلاص، ولو مؤقتا، انها محطة استراحة بكل ما للكلمة من معنى، او صمام امان.

فلولا القصيدة لدفعنا القلق الجنوني الى هاوية الحفرة، الى ارتكاب ما لا تحمد عقباه. ولكن اللعبة الجهنمية للقلق تعاود دورتها من جديد حتى تجيء قصيدة اخرى توقفها عند حدها، وهكذا دواليك، فلا القلق ينتهي ولا القصيدة.

اذا كانت القصيدة علاج للشاعر، فإنها علاج للقارئ ايضا. انها عبارة عن مسكن او مهدئ للأعصاب المستوفزة ولذلك فبدلا من ان اذهب الى الصيدلية لشراء عقاقير طبية، فاني اقرأ قصائد شعرية. وكل شاعر لا يساعدنا على تحمل عبء الحياة، بل حتى الفرح بها ولو للحظة، لا يستحق ان يقرأ. كل شاعر لا يضيف مساحة جديدة الى الحياة او لا يفتح ثغرة في جدار الحياة المسدود لا يهمنا امره. الشعر بهذا المعنى عزاء في عالم لا عزاء فيه. ومن هذه الزاوية فهناك علاقة بينه وبين المقدس. فالتشابه واضح بين اللغة الشعرية واللغة الدينية. ولكن هناك فروقات ايضا لا اريد ـ وربما لا استطيع ـ ان اتوقف عندها هنا.

يقول الناقدان في دراسة مفيدة الحقاها بالترجمة: كان موضوع الليل هاجس ريلكه منذ زمن طويل وحتى نهاية ايامه تقريبا. وهو يذكرنا بقصائد نوفاليس: «تراتيل الى الليل». ولكن ريلكه استفاد ايضا من اقامته في اسبانيا نهاية 1912 وبداية 1913. فهناك اتيح له ان يطلع على المتصوفين الاسبان، ثم بشكل اخص على القرآن الكريم. نعم القرآن الكريم! فقد اكتشفه ريلكه لاول مرة اثناء تلك الرحلة. وقد مارس القرآن الكريم عليه تأثيرا حاسما.

ان مجموعة «قصائد الى الليل» تختلف عن ديوانه الشهير «مراثي الدومينو» حيث وصل الى الذروة التي لا ذروة بعدها. ففي هذه المجموعة يتناول موضوعا خاصا ويعمقه اكثر فأكثر، ويستعيده بأشكال شتى. انه يبحث من خلال موضوع الليل او عتمات الليل عن ذلك الشيء الذي سماه في المراثي بالانفتاح او الافق المفتوح، ويمكن ان نقول الانفتاح في قلب الانغلاق. فلولا الانغلاق لما كانت هناك حاجة للانفتاح. والشعر بمعنى ما يعني فتح ثغرة في جدار الانغلاق. الكشف الشعري يعني الانتصار والحرية ولو للحظة. والكلام الشعري هنا ينحصر في عدة كلمات اساسية من نوع: وجه، ملاك، فضاء، ليل، نجوم، قمر. ولكن من قصيدة الى اخرى نلمح بعض الشرفات او النوافذ المضاءة بشكل خافت، وكذلك بعض التلال، المصابيح، الشوارع، قناديل الغاز.. هذا هو الاطار العام للقصائد، وفي هذا الاطار يحصل شيء اساسي لا يمكن الامساك به، شيء له علاقة بالحب: او نقص الحب او الحاجة الى الحب.. الخ.

عندما تنجح القصيدة تبدو وكأنها معجزة، شيء خارق للعادة. هذا على الاقل ما نشعر به عندما نقرأ قصائد الكبار من امثال ريلكه او رامبو او بودلير او رينيه شار او المتنبي او بدوي الجبل.. الخ.

* حلقات الليالي

* لنحاول الآن ان نقرأ بعض قصائد ريلكه، ان نترجمها عن الترجمة! كواكب الليل التي اراها لحظة استيقاظي هل تشرف من علٍ فقط على وجهي، اقصد وجهي الحالي، ام انها في ذات الوقت تشرف على الوجه الكامل لسنواتي، سنواتي، تلك الجسور المعلقة على أعمدة الضوء؟

* من هو ذاك الذي يريد ان يتابع طريقه هناك؟ ذاك الذي انا بالنسبة له هاوية سرير من النهر.

هو الذي مر فوقي هكذا، مشكلا اوسع دائرة، هو الذي يقفز فوقي ويأخذني، كما يأخذ المجنون رقعة الشطرنج، موضحا بالحاح انتصاره؟

وفي مجموعة اخرى بعنوان «كتاب الساعات» يقول ريلكه:

اعيش حياتي في دوائر تتسع وعلى الاشياء تمتد ربما لن يتاح لي ان اكمل الحلقة الاخيرة ولكني سأحاول.

* آه، سقوط الشهب! لُحظت مرة من أعلى جسر لا ينبغي ان لا تنسى. ابدا!

* آه، تحت في الريح، كم من العودات حصلت عبثا.

اكثر من شيء ينبذنا، ولكن فيما بعد، عندما مررنا، راح يفتح لنا ذراعيه مذعورا.

ذلك انه لا عودة الى الوراء. كل شيء يجرفنا معه.

والبيت، المفتوح في ساعة متأخرة.

يظل فارغا.

* ثم هذه القصيدة التي كتبت مباشرة بالفرنسية، وانا اقدم هنا مقطعا منها فقط:

دروب تؤدي الى لا مكان ما بين بريتين دروب نكاد نعتقد انها حرفت عن دروبها دروب لا يوجد في مواجهتها اي شيء، الا الفراغ الابيض والفصول.

* الكتاب: قصائد الى الليل Poemes a la nuit

* الكاتب: رينيه ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke

* دار النشر: فيردييه ـ باريس Verdier - Paris