رحلتي مع الكتاب

ممدوح عزام *

TT

ما أذكره هو أن رواية (بائعة الخبز)، كانت أول كتاب أطالعه في حياتي. كان عمري آنذاك لا يزيد على أحد عشر عاماً، لا أعرف كم مضى من الوقت قبل أن أجد أحد أشقائي يزجرني لأني لا أردّ على نداءات أمي. الحقيقة أنني لم أسمع صوتها، إذ كان كل شيء من حولي قد أغلق برتاج من الكلمات، والجمل، والصور، والحكايات، سوف تشكل في ما بعد، وحتى هذا اليوم، الملاذ الأكثر أمناً لي، من أي مكان في العالم.

بعد أيام، أخذني والدي، (وكنا دخلنا العطلة الصيفية)، إلى بناء أصفر شاحب مقشر على أطراف المدينة (وكان والدي رئيساً لمخفر الشرطة في مدينة المالكية أقصى الشمال السوري) مكتوب على واجهته بخط رقعي: المركز الثقافي وهناك اكتشفت أن مدير المركز هو مدرس اللغة العربية في إعدادية المدينة.

الأبهى من ذلك كله أن الأستاذ (الذي أزجي إليه أينما كان عاطر التحيات) أدخلني إلى غرفة مستطيلة نصف معتمة فيها طاولة بنية لامعة، وكراس خشبية ذات مساند عالية، وقال: المكتبة على حسابك اقرأ ما تشاء، ثم أشار إلى خزانة كبيرة، وقال: هذه هي الروايات إذا أردت، وتعال كل يوم.

هكذا كان الحال: ولد في الحادية عشرة من عمره، وخزائن تضم أكثر من ستة آلاف كتاب (في ذلك اليوم قلت لأمي إن فيها أكثر من تسعمائة كتاب، لأن هذا الرقم كان يعني كثرة لا حصر لها).

كانت (بائعة الخبز) هناك (لا أظن أنها الرواية ذاتها التي عثرت عليها في بيتنا، فأنا اعتقد أنّ تلك كانت تمرّ لتُعاد إلى فتاة يهواها أخي الكبير، ومنذ بضعة أشهر قالت لي إحدى النساء إن أفضل هدية يقدمها لها المعجبون بها هي: «كتاب»، لا، بل قالت: «رواية»، وسوف يكون هذا الاعتراف أحد آخر اكتشافاتي عن فضائل الروايات)، وبجانبها (عدنا إلى بائعة الخبز) وحولها، ومن تحت، ومن فوق عشرات الروايات التي رحت اقرأ عناوينها، وأسماء مؤلفيها بلهفة: «البؤساء»، لفيكتور هيجو.. «وداع للسلاح»، ارنست همنغواي (كانت لا تزال جديدة فتحت أوراقها بمسطرة خاصة زودني الأستاذ بها).. «الأم، طفولتي، حياتي»، مكسيم غوركي.. «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، بداية ونهاية، زقاق المدق»، نجيب محفوظ.. «تحت ظلال الزيزفون، العبرات، النظرات»، مصطفى لطفي المنفلوطي.. «عصفور من الشرق، يوميات نائب في الأرياف»، توفيق الحكيم. متاهة من الأسماء والكتب طفقت أتجول في أروقتها منبهراً، وهي تحكي عن عوالم البشر، وحكاياتهم عن التاريخ، والتقاليد، وقصص الحب والحرب، عن الجوع والبؤس، والمظالم، عن الأمل واليأس، عن الغنى والفقر، عن الكبرياء والذل، ثم إن المكان قادني وفق نظامه، إلى شقيقات الرواية، فعثرت على ملحمة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، والظاهر بيبرس، وتغريبة بني هلال، والشقيقة الكبرى صاحبة الفضائل «ألف ليلة وليلة».

كان الوقت ملكي، وكانت رأسي تثمل بهذه العوالم الغريبة التي يتحرك فيها البشر بحرية حصيفة، خارج حدود الواقع الذي كان يصدمني كلما خرجت إلى الشارع بعد ست ساعات من المطالعة اليومية. وكانت تلك لحظة حاسمة في حياتي الأدبية، حين أدركت أن بوسع الروائي أن يخلق (وهذه كلمة يعاملها بعض النقاد باستهزاء) إلى جانب العالم الواقعي، عالماً آخر تحكمه قوانين مختلفة، هي قوانين الخيال. ففي كل رواية كنت أقرأها، كان الروائي يجترح بشراً، وانتماءات، وأصولا خارج دوائر الأحوال الشخصية، ويبتكر تاريخاً وأحداثاً خارج الزمان الفيزيائي، ويبني جغرافيا تشبه أو لا تشبه جغرافيا الأرض، ويخطط مدناً، وقرى، وشوارع، وساحات، كيفما شاء، ويمكنه الوصول بكل ذلك إلى أقصى حدود الممكن واللاممكن. يمكنه أن يضع مذاهب وتيارات، وأجنحة لا حصر لها. يستطيع متى شاء أن يزوج، ويطلق، ويميت، ويقتل، ويصالح الأفراد والجماعات التي يأتي بها من عالم الخيال. لم أفكر بعنترة أو بجان فالجان (تعرفون الفرق بينهما) كرجلين من لحم ودم (وهما كذلك)، بل كإمكانيتين لا نهائيتين لاتساع خيال الروائي.

حين عدت إلى البيت في اليوم الأول لارتيادي مكتبة المركز الثقافي رأيت جارتنا (الفتاة إياها) تقرأ (بائعة الخبز) عندئذ تعلمت من المرور الخفي لها من رجل إلى امرأة دور الرواية في خلق التواصل بين البشر. أما قلق أخي، وانتظاره المحموم، فقد علّمني مدى خطرها وأهميتها، ومنذ ذلك الوقت بدأت رحلتي معها، يسكنني هاجس أن استطيع ذات يوم كتابة قرين لها.

* روائي وقاص سوري