الجابري: العرب لم يتخلصوا بعد من المرجعية الفارسية التي تمثلها أخلاق الطاعة في السياسة والعمل

TT

عندما نقرأ المجلد الرابع من كتاب نقد العقل العربي وعنوانه: «العقل الاخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظام القيم في الثقافة الاسلامية» نكتشف الاهمية الكبرى التي يقدمها هذا المجلد، الذي يقع في 640 صفحة من الحجم المتوسط، وهو يتجه للاحاطة المرتبة لتمظهرات الاخلاقي في الفكر الاسلامي. كما نكشف أهميته القصوى بالنسبة لأطروحة نقد العقل العربي. فقد مارس الجابري في هذا العمل الموسوعي عملية مسح نظرية تاريخية للخطاب الاخلاقي ونظام القيم في الاسلام. وتعد هذه العملية بالصورة التي أنجزت بها عملا غير مسبوق. إنها تفتح أمام الباحثين قارة كاملة للبحث والتأمل وبلورة الاسئلة المساعدة على مزيد من التفكير في منظومة القيم كما تشكلت في تاريخ الفكر الاسلامي.

إن قراءته التامة والعناية بمقدمات فصوله وخلاصاتها، وكذا الانتباه الى لحظات توقفه عن إصدار الاحكام التي نجد لها موقعا في بياضات خطابه، تجعلنا ندرك المغامرة البحثية الجادة المتضمنة في هذا العمل.

صحيح أنه مثل غيره من أعمال المؤلف الاخرى يتضمن مستويات أولية وعامة في البحث، وهذه المسألة تبدو جلية عندما نلاحظ أن الباحث يلجأ باستمرار الى التذكير بقضايا تبدو واضحة ومتداولة في أوساط المختصين في الفكر الاسلامي والمتخصصين في المجال السياسي الاخلاقي داخل هذا الفكر على وجه الخصوص. إلا أن البنية العامة للكتاب تكشف عن مقاربة شمولية، مقاربة يتقاطع فيها التحليل النصي بالتحليل التاريخي، والمقاربة البنيوية بالتوجه الايديولوجي، وهي الخطوات المنهجية المقررة في مقدمة كتابه «نحن والتراث»، والتي تم التركيز فيها على اللحظة البنيوية بصورة أكبر في المجلد الثاني من رباعية «نقد العقل العربي»، وعنوانه «بنية العقل العربي». أما المواصفات الاخرى التي ذكرنا في بداية هذه الفقرة فانها تفهم ضمن هواجس الباحث التربوية والسياسية، حيث يلجأ في مجمل كتاباته إلى التبسيط والتوضيح ليبلغ رسالته الى أوسع قدر ممكن من القراء والمهتمين.

إن قوة مجلد العقل الاخلاقي العربي، تتجلى في إعادة بنائه لمجال الاخلاق في الفكر الاسلامي، وذلك بضبط حدود وأصول ومرجعيات هذا المجال، وما يدعم مشروعية هذه العودة ويرفع من قيمتها في البحث هو عودتها الى مضان تراثية لم تتم العناية بها في مصنفات تاريخ الفكر الاخلاقي وتاريخ القيم، نقصد بذلك كتابات الترسل المعروفة بكتب النثر الادبي وكتب البلاغة، حيث كان الاهتمام بهذه المصنفات في تقاليد البحث الجارية في الثقافة العربية يتم في مستوى الشكل أي يتم في مستوى البحث في تطور الاساليب البلاغية في التعبير، دون عناية بمحمول الكتابة في أبعاده ومستوياته وطبقاته النصية المختلفة.

يعود الباحث إذن الى الخطب والرسائل والعهود مستقرئا نوعية القيم التي تظهر وتضمر، وبانيا التصورات والمفاهيم الاخلاقية المرسلة في سياقات ومناسبات مختلفة، حيث كانت الرسائل والخطب تقترب من موضوعات ومجالات فكرية سياسية تاريخية متعددة، لكنها كانت في الوقت نفسه تتشكل في إطار مأثور أخلاقي وحكم جارية، وباثة لقيم معينة، إضافة الى نمطيتها التعبيرية الراعية والحاضنة لقيم على حساب أخرى، حيث تصبح الكلمات والجمل المختارة مناسبة لتعزيز قيم معينة على حساب أخرى يتم تناسيها وتغييبها ارضاء لمصالح معينة.

كما عاد الباحث الى كتب الأدب، كتب الجوامع الحافظة لذاكرة الثقافة الاسلامية، مدونات ابن قتيبة في «عيون الاخبار»، وجوامع ابن عبد عبد ربه في «العقد الفريد»، وقد أطلق على هذه المصنفات اسم «قوم القيم» مستعيرا التسمية من المجال الاقتصادي المالي بمختلف الايحاءات التي تتركها هذه التسمية في النص وفي ذهن المتلقي، ليتمكن من وضع يده على سوق القيم الاخلاقي في الثقافة الاسلامية، إذ عملت نصوص الفكر الاسلامي على إعادة انتاج قيم السوق المتداولة في المأثور المنثور بصيغ وأساليب متعددة، وداخل أنماط متعددة من القول كما هو محفوظ ومذكور في التراث الاسلامي.

من ناحية أخرى، تم بناء مجلد القيم في قسمه الاساس، بالاستعانة بآلية التفكير في المرجعية باعتبارها الخلفية النظرية المرتبة لنظام القيم في العقل العربي الاسلامي، وقد عدد الباحث المرجعيات التي وجهت آلية انتاج سلع سوق القيم الاخلاقية كما تم تداولها في التاريخ والمجتمع الاسلامي في الموروثات المركزية الآتية: الموروث العربي «الخالص»، الاسلامي «الخالص»، ثم اليوناني والصوفي والموروث الفارسي، إلا أنه أبرز في نهاية التحليل أن هذه المرجعية كانت تخضع في نهاية المطاف للتأسيس الذي أنجزه كتاب عصر التدوين، ففي هذا العصر بالذات سيمارس ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وكتاب الدواوين في الدولة الأموية والعباسية، الدور الاكبر في تحديد القيم وتحديد مصطلحاتها ومأثوراتها، وما تظهره هذه المصطلحات والمأثورات وما تخفيه من دلالات تشكلت وأعيد تشكيلها خلال حقب التاريخ الاسلامي في تجاوب مع متطلبات الشروط التاريخية المواكبة لها، حيث يقوم السقف الاخلاقي بتدعيم مواقف واختيارات معنية ولغات مخصوصة، ومخاصمة نقائضها.

هناك مرجعية كبرى إذن انتظم في سياقها خطاب الأخلاق ونظام القيم في الفكر العربي الاسلامي، مرجعية تمكنت من التعايش مع مرجعيات قائمة وأخرى في طور النشأة، وثالثة قادمة من أزمنة وقارات أخرى، يتعلق الامر بمرجعية الاخلاق السياسية، والسياسية الاخلاقية الفارسية التي شكلت العمود الفقري المؤسس لسوق القيم في الفكر الاسلامي وبدون منازع.

كانت ملامح هذه المرجعية واضحة في «العقل السياسي العربي»، وقد حدد الكاتب بعناية قسماتها العامة في الفصل الذي عنونه بالايديولوجيا السلطانية. لكنها في «العقل الاخلاقي العربي» أصبحت أكثر جلاء وتحولت الى موضوع مستقل للبحث، موضوع اجتهد الكاتب في فتح أسئلته على مجموعة من الخلاصات، لكنه عندما اختتم كتابه وضع لها عنوانا في صيغة جملة فعلية دالة، «لم يدفنوا بعد أباهم أردشير»، فنقلتنا هذه الخاتمة بعنوانها المثير الى عتبة مقدمة الجزء الاول من رباعية النقد، وخاتمة كتاب «الخطاب العربي المعاصر»، ذلك أنه إذا كنا في نظر الباحث لم نتمكن من التخلص من المرجعية الفارسية التي تمثلها أخلاق الطاعة في السياسة والعمل. فإن معنى ذلك أن معركة نقد العقل ماتزال قائمة ومفتوحة، وهي تصبح غير ذات موضوع عندما تتفسخ لغة أردشير (اخلاق الاستبداد الفارسي التي تمظهرت بها السلطة في التاريخ الاسلامي، وتبناها الخطاب السياسي الاسلامي، خطاب الاداب السلطانية والثقافة السياسية الملوكية) وتتحول الى جثة ثم الى تراب داخل التراب. أما عندما تستمر هذه اللغة حاضرة في فكرنا وسلوكنا الاخلاقي والسياسي فإن هذا الأمر يكسب مشروع نقد العقل شرعيته ومشروعيته التاريخية والنظرية.

يتوقف الباحث، في سياق تحليله المستفيض لنظام القيم التراثي الاسلامي، عند مسألة هامة تتعلق بما أطلق عليه تغييب الفرد في الأخلاق الاسلامية، ومعنى هذا أن القيم الكسروية المدعمة لأخلاق الصبر والطاعة، ظلت تستبعد الفرد مانحة صفة التفرد الالهي للسلطان وذلك في إطار المماثلة التي ترفع الملوك إلى مرتبة الآلهة، متحدثة عن الخاصة والعامة، وخاصة الخاصة والدهماء، مغيبة ومستبعدة الكيان الذاتي المفرد، هذا الكيان الذي يتحدد ميلاده في العصور الحديثة في سياق الاخلاق الحديثة والفلسفة السياسية الحديثة، حيث يصبح «مواطنا» معبرا عن الطفرة التاريخية التي حققتها الازمنة الحديثة في مجال النظر الى الانسان والمجتمع، ثم في مجال النظر إلى السياسة والاخلاق.

* تتكامل مباحث رباعية نقد العقل العربي، في مستوى وجهتها النقدية العامة، وتبني أطروحة فكرية هامة في الفكر المغربي والفكر العربي في مجال قراءة التراث. وهي في شكلها ومحتواها تقدم مغامرة بحثية مشفوعة بحماسة دعوية، ووعي تاريخي يتمتع بمواصفات البحث التاريخي والفلسفي الملتزم بمقدمات معينة، والهادف إلى بلوغ مرامي ومقاصد مرسومة سلفا، وهو أمر يبرز بجلاء معادلة تحويل المواقف النقدية من التراث إلى مواقف قابلة للاستيعاب داخل فضاء البحث عن سبل النهضة العربية، الموصولة بشرطها الذاتي، والمستوعبة في الوقت نفسه لمكاسب الآخرين وفي كل المجالات. فالكاتب يلح على أن المعطى التراثي ملك جماعي، وإذا كان البعض يستعيده باللغة المعادة المكرورة وبحس تقليدي ودوغمائي، فان جهود الجابري قد أعلنت بجلاء أن المكون التراثي قابل للاستخدام في معارك الحاضر السياسية، إذا ما تمت قراءته بوسائل منهجية جديدة، وإذا ما نظر اليه في تاريخيته حيث تتقلص شحنته المتعالية، لتفسح المجال أمام دلالته المشرعة على أكثر من أفق، وأكثر من نظام في التعقل والفهم والتأويل، وفي هذا السياق قد لا يكون الامر محرجا ولا مانعا للتقدم إذا ما أطلقنا مشاريع في كشف أبعاده واكتشاف مجاهله، لنتمكن من محاصرة الفهم التقليدي الذي يرهن التاريخ الاسلامي في معيارية لا تاريخية، ويحول منتوجات التراث الى أقانيم محركة للتاريخ من خارج التاريخ، وهذه المعركة في نظر الباحث ستظل دائما معركة مطلوبة وملحة، ولن تنفع فيها المواقف المتعالية أو الرافضة، أو المواقف الداعية الى القطيعة باطلاق دون تفجير ولا محاصرة نقدية لمحدوديته التاريخية والنظرية.

* «العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظام القيم في الثقافة الاسلامية» * المؤلف: محمد عابد الجابري * الناشر: المركز الثقافي العربي في بيروت 2001

* كاتب وجامعي من المغرب