فضل ذوات الخراطيم على بني البشر

ما قامت به الفيلة من تحويل الغابات إلى سهول كان شرطا أساسيا لظهور الجنس البشري وتوفير المواد الأولية

TT

بالنسبة للأميركيين ليس هناك سوى مكانين يمكن فيهما الالتقاء بفيل، وهذان المكانان هما حديقة الحيوان والسيرك. ويتميز كلا الموقعين بطبيعتهما الصناعية المحضة، حيث يمكن مشاهدة حيوان رائع كهذا وهو يحرك خرطومه يمينا ويسارا داخل حظيرة صغيرة. وكل ذلك لا يترك في نفس المشاهد الا مشاعر الأسى والغضب.

مع ذلك، من يستطيع مقاومة الرغبة في مشاهدة حيوانات مثل الفيلة؟ بالتأكيد ليس إريك سيغليانو المصاب بولع متطرف بالفيلة إلى الحد الذي دفعه للسفر إلى أماكن عديدة في العالم تتميز بامتلاكها لتاريخ أسطوري غني يتعلق بالفيلة، حيث تشارك هذه الحيوانات في العمل أو تعيش في البرية. وهذه الرحلة قادته إلى سري لانكا وماليزيا وتايلاند وبورما والهند. وتتميز الأخيرة بوجود 35 ألفا إلى 40 ألفا فيل بري فيها، وهذا يجعلها ثاني بلد في العالم من حيث عدد الافيال داخل حدودها. (بدون شك يعود بقاء الفيلة إلى تقليد ديني يجعل الهند تستخدم اليوم ما يقرب من 3000 فيل في الاحتفالات).

حصيلة جهود سيغليانو من هذه الرحلة الطويلة كتاب يحمل اسم: «الحب والحرب وعروض السيرك». ويشكل هذا الكتاب دراسة تاريخية وثقافية مدهشة، وعبر هذا العمل استطاع المؤلف أن يتجاوز صنف الكتب العلمية الذي ينتمي له الكتاب ليصل إلى مستوى متقدم آخر حيث ضمّن في طياته العاطفة القوية والبحث والتغطية الصحافية.

بخصوص السيرك يبدو سيغليانو متعاطفا أكثر من أن يكون منتقدا: «أنا واحد من اولئك الأطفال الذين لا يكبرون بحيث يستطيعون الاستغناء عن السيرك، فالأطفال يحبون البهرجة الرائعة التي تتميز بها حلقات السيرك والمناخات المحكومة بالإشارات». ويكتب المؤلف أنه حتى في تلك الحالة المتضائلة التي تؤسر الحواس، يستطيع الجد الأعلى لحيوان الماموث أن يخلق البهجة في نفس أكثر الناس لا مبالاة.

ويقول سيغليانو: «مشاهدة الفيل فقط تكفي أن تترك هذا التأثير، حتى في العصر الذي أصبحت فيه الصور المحكية تصلنا عبر البث الرقمي وفق متطلبات التحكم والتلاعب التي يفرضها عصرنا التكنولوجي، فالمشاهدة الحية للفيل توسع مداركنا الحسية للممكنات القائمة في عالمنا الحالي. وبالتأكيد هذا يمكن تحقيقه حتى عبر فراشة عث أو عنكبوت حقيقي، فكل هذه الكائنات توسع من حواسنا أيضا، لكن علينا قبل كل شيء أن ننظر عن قرب إليها. الفيل يجبرنا على التمعن فيه».

وبالتأكيد يلعب الحجم دورا في إثارة الاهتمام، لكن القياس لوحده لا يكفي لجلب الانتباه والتفاعل معه. فكيف يمكن تفسير غياب هذا الاندهاش من حيوانات ضخمة مثل الكركدن أو الزرافة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يطرح سيغليانو موقفا استفزازيا فيما يتعلق بعلاقة الجنس البشري المغرقة في القدم بالفيلة: «إنها علاقة فريدة من نوعها على مستوى كوكب الأرض، وأكثر تأثيرا بل هي في بعض الحالات أقرب من علاقة الإنسان بالكلاب أو الخيول أو القطط».

يشرح سيغليانو، الذي كان قد تعلق في فترة طفولته بالفيلة في فيتنام، كيف احتلت هذه الفصيلة من الحيوانات موقعا متميزا في جميع الديانات، فالهندوس يقدسون الفيل غانيشا، وهذا التقديس يمتد للبوذيين واليانيين، ابتداء من أفغانستان وانتهاء باليابان. ويعتبر التايلانديون الفيل تجسيدا لقيم بلادهم عبر صورة «تشانغ فيونك» (أي الفيل الأبيض).

ويعزو بعض العلماء تحول غابات أفريقيا الكثيفة إلى سهول صالحة لعيش البشر إلى الفيلة التي وفرت عبر تكسيرها لبوابات تلك الغابات المغلقة الشرط الضروري لاستقرار الناس في تلك القارة. ويعتبر سيغليانو أن ما قامت به الفيلة من تحويل الغابات إلى سهول كان شرطا أساسيا لظهور الجنس البشري وتوفير المواد الأولية لصنع الأدوات وإبداع الفن.

يعتبر سيغليانو بورما أفضل بلد لعيش الفيلة والاستفادة منها بطريقة صحية، فمع كثافة الغابات الاستوائية فيها هناك عدد كبير من الفيلة البرية لكن في المقابل هناك فيلة أليفة تشارك في العمل بدلا من أن تعيش على الشحاذة. وفي بورما يتم قطع الأشجار بشكل دوري كل ثلاثين سنة، وتستخدم الفيلة لحمل الخشب بدلا من الشاحنات، وهذا ما يجنب الأرض الأضرار الناجمة عن استخدام الشاحنات.

وظل تعاملنا مع هذه الكائنات الضخمة محكوما غالبا بالجشع للحصول على الأراضي والعاج، فمن حملات الإبادة التي تعرضت لها الفيلة في ثمانينات القرن التاسع عشر الذي لم يوازيه شيء سوى إبادة جنس الجاموس الأميركي وانتهاء بتفشي ظاهرة انتشار أعداد قليلة من الفيلة في شوارع العاصمة بانكوك تعيش على الشحاذة. كل ذلك يحفز على طرح السؤال التالي: في اندفاعنا لتوسيع دائرة أرباحنا هل نحن على استعداد لمكافأة حليفنا القديم بتجديد حبنا له وتوفير سكن مقبول له؟ يستنتج سيغليانو عن حق حينما يكتب: «إذا لحق الدمار بحياة الفيلة، فان حياتنا ستتضاءل كثيرا. سيكون العالم صغيرا جدا حينما لا يبقى مكان فيه لأي جنس سوانا».

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»