الكتابة والمقاومة في سيرتين ذاتيتين

يمكن القول إن الكتابة بمعنى التسجيل تمثل هي نفسها درجة من درجات الشهادة

TT

ليس لمعنى المقاومة اي تعريف آخر الا ان يكون، من الناحية اللغوية، شرحا وبناء لمفهومي الانتصاب والمضادة اللذين يردان في المعجم للتعبير عن القوام والمقاومة. ويمكن ان نجد انزياحات لغوية اخرى مثل اقام ضد اجلس، وتقوم واستقام والقائم.. الخ، ولكنها تعبر في الغالب عن الاعتدال والاستقامة. والمقاومة في المجال السياسي الصرف لها شحنة مستمدة من ذلك، وان يكن للحديث عن ابعاد مغايرة تتعلق بالمجابهة والخروج الى الشيء والوقوف في وجهه والتغلب عليه او البلاء في مواجهته. وهي على هذا المستوى من التعبير للاعلام بنزعة والاقرار بتوجه والدفاع عن موقف. كما ان معناها السياسي هذا لا يستقيم الا في خضم المتضادات التي تتعالق معه او تعارضه او تستقر الى جانبه من باب المخالفة. وعلى هذا الاساس فإن المقاومة اكانت ذات تعبير سياسي او غيره، لا تأخذ معناها الكامل الا من حيث هي فعل يضاد فعلا آخر للوقوف في وجهه والانتصار عليه، مع الاعتبار ان هذا الوقوف او الانتصار يرتبطان بما يحققهما من قدرة وتصميم وخطط وتوجه وغير ذلك مما لا غنى عنه في كل مواجهة بين طرفين او اكثر.

وللتعبير عن هذه المعاني المتراكبة سأتناول ثلاثة عناصر من خلال كتابين: العنصر الاول هو المقاومة والاعتقال.

العنصر الثاني هو الشهادة والكتابة.

اما العنصر الثالث فهو الذاكرة والتسجيل.

وقد اخترت، بصورة اعتباطية تقريبا، ان اتعرض لهذه النقط من خلال كتابين هامين هما:

من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب او ايام كولميما لمحمد ابراهيم الكتاني (الرباط 1972).

ومعتقل الصحراء لمحمد المختار السوسي (الطبعة الاولى 1982).

وينبني هذا الاختيار على تقديرين اثنين:

اولهما ان الصلات التي تجمع بين الرجلين، محمد ابراهيم الكتاني ومحمد المختار السوسي، قائمة على عدد من المستويات يمكن ان نذكر منها ثلاثة:

ـ الفقه والعلم الديني شهرة وتدريسا، فقد عرفا بذلك بين اقرانهما من العاملين في الحقل الوطني.

ـ الوطنية، اذ يعتبران من الرعيل الاول الذي ساهمت افكاره في انشاء الحركة العاملة في سبيل التخلص من سيطرة الحماية الفرنسية.

ـ الانتماء السياسي الفعلي للاطر التي ولدتها الحركة الوطنية عندما انتظمت في المواجهة، ومن المؤكد انهما انتميا، في ما بعد، لحزب الاستقلال على قدر معين من الانتماء المصرح به.

ـ الكتابة عن التجربة التي قادتهما الى الاعتقال، مع التنبيه الى ان محمد ابراهيم الكتاني، يتكلم عن تجربة اعتقاله عام 1937 في بداية النشوء المنظم للحركة الوطنية، ولم يكن هو الاعتقال الوحيد، اما محمد المختار السوسي فيتكلم عن اعتقاله عام 1952، ولم يكن الاعتقال تجربة فريدة في حياته، لانه تعرض من قبل للنفي.

ثانيا، اما التقدير الثاني فهو ان الكتابين يمثلان السرية الذاتية لكل واحد منهما، بصرف النظر عن اكتمال هذه السرية من زاوية التعبير عن ما يمكن تسميته بتاريخ الانا. والمقصود بذلك انهما يؤرخان تأريخا ادبيا عاما لتجربة الاعتقال ولبعض اطوار المسار الفردي في تلك التجربة، كما انما يعكسان نوعا من الاهتمام الخاص باهمية التعبير الادبي عن تلك التجربة، فضلا عن قيمة هذا التعبير في اضاءة جوانب مهمة من فترات النضال الوطني ضد الحماية الفرنسية.

ينطلق محمد ابراهيم الكتاني من ان الباعث على الكتابة هو وجوب تسجيل الفظائع التي اقترفتها سلطات الحماية في حق الوطنيين عندما اعتقلت فئة منهم عام 1937 وقادتهم، على نحو ما يذكر من الاهانة والاذلال، الى كولميما انتقاما من نشاطهم الوطني، وكذا في محاولة لابعادهم عن محيطهم الاجتماعي والسياسي والفكري، ثم، ولعل ذلك هو الاساس، تعذيبهم لتحطيم معنوياتهم وتكسير نضالهم.

وقد شرع محمد ابراهيم الكتاني في تسجيل تلك الفظائع في اكتوبر (تشرين الاول) 1940 كما ترسخت في ذاكرته واستقرت في وعيه. فجاء هذا التسجيل على نحو خطي يتابع مراحل الاعتقال منذ بداية نوفمبر (تشرين الثاني) 1937 الى متم اليوم التاسع والاربعين، ذاكرا جميع المراحل التي مر بها الاعتقال، الى جانب صنوف التعذيب اليومي التي لاقاها الى جانب اخوانه من الوطنيين.

ولا يشذ محمد المختار السوسي عن ذلك الا من حيث الوقائع بالطبع وظروف الاعتقال واصناف التعذيب المادي والمعنوي، مع الاعتبار بطبيعة الحال ان محمد المختار السوسي اعتقل في فترة متأخرة (1952)، وان المكان الذي اقتيد اليه هو اغبالو نكردوس، وان الظروف السياسية كانت قد تغيرت على نحو من الانحاء جعلت العمل الوطني اكثر تبلورا ومجاله اكثر انفتاحا والاعتقالات التي مسته اكثر توسعا.

فقد اعتقل محمد المختار السوسي، كما قلنا عام 1952، بعد مظاهرات التضامن مع الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، واقتيد الى تافيلالت ومنها الى تنجداد ومن هذه الى اغبالو نكردوس التي قضى فيها ردحا من الزمن رفقة باقي الوطنيين الذين اعتقلوا في تلك الفترة، وذلك بعد ان كان قد استقر في مراكش منذ 1940، وانتقل الى الدار البيضاء عام 1950.

ومن المفهوم بطبيعة الحال، وعلى ذلك ما يكفي من القرائن المذكورة في سيرته الذاتية، ان اعتقاله كان نتيجة لسلوكه الوطني ورغبة في سلطات الحماية في القضاء على الدور الذي كان يقوم به في المجال الذي انتدب له نفسه او انتدبته له الحركة التي كان ينتمي اليها طائعا.

ومما يؤخذ بالانتباه في ما يرويانه سردا معا، محمد ابراهيم الكتاني ومحمد المختار السوسي، ان الانتماء لحركة العمل الوطني في مرحلته المبكرة او المتأخرة بعض الشيء كان موجبا للاعتقال، والاهم من ذلك ان العمل الوطني في تلك الشروط الموجبة للعمل السياسي او الفكري او التربوي او الاجتماعي، ضمن التوجه الذي سارت عليه الحركة الوطنية، كان بمثابة فعل مقاوم. على ان تفهم المقاومة هنا بالمعنى الذي يفيد الوقوف في وجه سلطات الحماية والانتصاب في طريق اهدافها لاستخلاص القضية الوطنية مما كانت ترسف فيه من عسف او اضطهاد او استغلال.

يفهم من السيرة الذاتية لمحمد ابراهيم الكتاني ان الكتابة عن تجربة الاعتقال تماثل الشهادة بالمفهوم الذي عني انه يؤدي ما عليه من واجب يتمثل في تسجيل الفظائع كما اشرنا الى ذلك من قبل، بل يمكن القول تبعا لما سجله في سيرته الذاتية ان التقاعس عن التسجيل يعتبر خيانة للتاريخ. وهذه درجة مهمة في الاعتبار بما للمقاومة من ضرورات تفرض على من خاض غمارها وكان على قدر من الاعتبار بجدواها ان يسعى الى تأريخها والكتابة عنها. اما الهدف من ذلك فإن لم يفد الاديب، كما قال محمد المختار السوسي، فقد يفيد المؤرخ الذي سيعمل على البحث والدراسة والتوثيق.

ويمكن القول هنا ايضا ان الكتابة بمعنى التسجيل تمثل، هي نفسها، درجة من درجات الشهادة، بل ولا تكاد تستقيم هذه الشهادة، من بعض الوجوه الا بها. هذا مع العلم ان المعنى الديني لمفهوم الشهادة ان تكون خالصة لوجه الله لا يراد منها جزاء ولا شكورا، وانها قد تكون من زاوية الكتابة بمثابة توثيق يراد به الاعتبار.

ولدى محمد المختار السوسي من هذه المفاهيم ما يماثلها، مع خصيصة قل نظيرها بين مجايليه، اعني تلك المتمثلة في الكتابة الفورية التي كان يمارسها السوسي مسجلا بها جميع الوقائع المرتبطة بوجوده أيا كانت قيمتها من الناحيتين الحديثة والرمزية.

ومن هذه الزاوية فقد شهد محمد المختار السوسي على جميع الاطوار التي تقلب فيها اثناء اعتقاله، ساردا مراحل السفر والوصول وما احاط بهما من حوادث، الى المستقر الذي استقر فيه، مع اهتمام خاص، بوصف المكان والعلاقات والطباع والحياة اليومية والحوادث الجارية وسوى ذلك. ومن هذه الزاوية ايضا جاءت الكتابة بمثل سجل حافل بالتفاصيل الدالة على المعاناة جميعها نفسية وسياسية وفكرية.

ولابراز مفهوم الشهادة في بعدها الزمني، يمكن الاشارة الى ان محمد ابراهيم الكتاني شرع في التسجيل بعد اربع سنوات من استعادة حريته، ولكنه اخفاها عن الانظار زمنا حتى شرع في اخراجها من مسودتها بعد ذلك بثلاثين سنة. ويبدو لي ان هذا الحرص يعطي للشهادة والكتابة بعدا جديدا لعله يصيرها امانة لا بد من الايفاء بها حتى يتحرر من التبعات التي قد تحيط بنسيانها او السهو عنها. وهذا الحرص هو ما نجده عند محمد المختار السوسي او اكثر. ذلك ان محمد المختار السوسي انغمس في تسجيل شهادته في ابانها، ولكن لم تظهر مضامينها الا عندما اقدم ورثته على طبع كتابه. وهذا يبدو، بناء على ما ذكرناه في النقطة السالفة، ان الذاكرة بوصفها حافظة للوقائع المروية هي الباعث على ذكر المقاومة، وهي التي تؤرخ لاطوارها، بل ولعلها، اذا ما قدرنا اهمية الذاكرة في علاقتها بالنسيان او التذكر، هي التي «تؤبد» معناها او تلقي عليها ظلالا من الحياة. وفي اساس هذه الذاكرة يقوم التسجيل المذكور اكثر من مرة في هذا العرض.

ان تسجيل الوقائع في هذا المجال الذي تسنده الذاكرة هو الذي يبرر اهمية الكتابة بوصفها ادبا في العلاقة بالمقاومة نفسها، باعتبارها تجربة وفعلا ومكونا من مكونات المسار الشخصي في الحياة.

لعلي بذلك اريد الوصول الى خلاصة مفادها ان الكتابة الادبية، وفي مجال التأريخ للحياة الفردية او الجماعية، على ضوء افعال معينة، قد تكون ذات قيمة رمزية (المقاومة)، هو الوثيقة الوحيدة الممكنة في المعرفة. ذلك انني اعتبر ان ادب المقاومة هو حياتها المتجددة او مستقبلها، وما عدا ذلك قد يكون، في واقع الامر، من باب النسيان الذي يذهب بكل شيء.

* من ذكريات سجين مكافح

* المؤلف: محمد ابراهيم الكناني

* معتقل الصحراء

* المؤلف: محمد المختار السوسي