علماء الأزهر في قفص الاتهام

نابليون بونابارت وضع أسس التعامل مع المؤسسات الدينية وكيفية احتوائها

TT

يتعرض كتاب «الصراع بين المؤسسات الدينية والأنظمة الحاكمة» لمؤلفه هاني السباعي مدير «مركز المقريزي للدراسات التاريخية» بلندن الى قضية بالغة التعقيد تتمثل في مدى أهمية دور المؤسسات الدينية صاحبة القداسة في تحريك المواقف السياسية في مجتمعاتنا وجدية هذا الدور وتطوره عبر السنين.

ويركز السباعي على الصراع بين المؤسسات الدينية ذات الصبغة الرسمية مثل جامع الأزهر، ووزارة الأوقاف، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة الفتوى، ووزارة الدعوة والإرشاد مع السلطات الحاكمة في البلاد العربية.

وكتب مقدمة الكتاب منتصر الزيات محامي الاصوليين الذي يقول: «السباعي من رجالات الحركة الإسلامية بمصر الذين عنوا بالتاريخ وخاصة الإسلامي منه ووعوا حركته، ولقد خبرناه منذ كان معنا في مصر يحدث الشباب في دروسه وخطب الجمعة التي يلقيها حيث يكرس جزءاً كبيراً منها من أجل الإحاطة بدروس التاريخ والاستعانة بأسباب النصر. وفي كتابه الأخير لم يعدل السباعي عن منهجه في البحث والدراسة واستجاشة عبق التاريخ في قضية بالغة الحساسية». أما السباعي فيقول في مقدمة كتابه: « لقد كان للمؤسسات الدينية دور كبير (سلباً أو إيجاباً) في صياغة البنية السياسية والاجتماعية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي بل في صياغة المشروع الحضاري لهذه الأمة على مدار التاريخ. وقد برز هذا الدور منذ أن تم احتواء المؤسسات من قبل الحكام بغية تحقيق أهداف قد تتفق أو تتعارض والشريعة الإسلامية.. ومن ثم كان استخدام الأنظمة المتعاقبة للمؤسسات الدينية ذات الصفة الرسمية». وهو يتعجب « من هذا التناغم الحميم بين السلطة الحاكمة وبين المؤسسة الدينية، رغم تعمد السلطة إهانة هذه المؤسسة الدينية والحط من قدرها بل تسخير بعض الأقلام المأجورة والمقربة للسلطة بغية الإستهزاء والتفكه على علماء هذه المؤسسة مع رسم صورة نمطية عبر وسائل الإعلام لعالم الدين; ذلك الرجل المتقعر، المتشدق، المتفيهق، الذي يتكلم بملء فيه مع تصويره بالغباء والحمق والجهل وإرسال نظراته الجائعة إلى النساء الأجنبيات» كما يقول. وهو يرى أن هناك مفهومين للمؤسسة الدينية: المفهوم الضيق وهي المؤسسات الدينية ذات الصبغة الرسمية مثل جامع الأزهر، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة الفتوى، ووزارة الدعوة والإرشاد... إلخ وهذه مؤسسات «لها صلة مباشرة بالسلطة الحاكمة وتم إنشاؤها بفعل السلطة وقوانينها وتعتبر ضمن المنظومة السلطوية التي تتشكل منها الدولة القائمة».

أما المفهوم الثاني فيقصد به المعنى الواسع ويشمل المؤسسات ذات الصفة الرسمية المذكورة وغيرها من المؤسسات والجمعيات والهيئات الخيرية الإسلامية التي «أقيمت وأسست أصلاً بفعل الجماهير وأهل الخير كالجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة وجماعة الإخوان المسلمين ومن على شاكلتهم».

ويتحدث المؤلف هنا عن النموذج المصري. ويتكون كتاب «الصراع بين المؤسسات الدينية والأنظمة الحاكمة» من عدة فصول.

تناول الفصل الأول: الحملة الفرنسية على مصر (1798 ــ 1801)، وتحدث الفصل الثاني عن فترة محمد علي باشا (1805 ــ 1848). أما الفصل الثالث، فكان موضوعه ما بعد محمد علي باشا حتى وقتنا المعاصر، فيما بحث الفصل الرابع في أسباب تدهور دور المؤسسات الدينية في مصر.

لكن لماذا اختار السباعي مصر فقط كأنموذج؟ يقول: «اخترت مصر لأسبقيتها في طرح هذا الأنموذج باعتبار جامع الأزهر أقدم جامعة إسلامية، فالأزهر حمل لواء الفكر الإسلامي في مصر والعالم الإسلامي أكثر من عشرة قرون و كان فيها حصناً من حصون الثقافة الإسلامية، وقلعة من قلاع الإسلام المنيعة التي استعصت على كل الغزاة، وحفظ التراث الإسلامي ـ علوم دين ولغة ـ من الضياع خلال المحن التي حلت بالمسلمين». ثم تكلم السباعي عن أسباب تهميش دور المؤسسات الدينية في وقتنا المعاصر، وذكر ستة أسباب: السبب الأول: عدم استقلالية علماء الأزهر مالياً وحل الأوقاف الأهلية، مما أضعفهم وجعلهم مرتبطين بالحكومة. والسبب الثاني عدم استقلالية الأزهر علمياً وتدخل الدولة في تعيين شيخ الأزهر. أما السبب الثالث فهو انتشار مذهب الإرجاء وشيوع التصوف في العالم العربي والإسلامي.

وعزا السبب الرابع إلى وجود طابور خامس من العلماء يعملون لحساب النظام مع بث الفرقة ونشر الشائعات عن العلماء الذين لا يسيرون في فلك المنظومة السلطوية. وكان السبب الخامس تركيز وسائل الإعلام الحكومية على رسم صورة نمطية ساخرة لعالم الدين، مما أدى لاهتزاز صورة عالم الدين في قلوب وعقول الأجيال المتعاقبة، وآخر الاًسباب الضغوط الدولية والمؤامرات العالمية بغية إضعاف روح التدين لدى الأمة المسلمة عبر برامج ومعونات منظمة ينفذها أذنابهم المتسلطون في المنطقة العربية والإسلامية.

في الفصل الخاص بالحملة الفرنسية يقول السباعي عن الحملة الفرنسية على مصر سنة 17: «لقد استطاع نابليون أن يجند مجموعة من العلماء لتخدير الأمة ولقتل روح المقاومة والجهاد ضد المغتصب المعتدي تماماً كما تفعل بعض الأنظمة الحاكمة الآن بتجنيد بعض العلماء لتبرير حالة الإستسلام المخزي لأعداء الأمة بغية إماتة روح المقاومة والجهاد لدى الأمة والرضا بالواقع المرير حتى يحافظوا على مناصبهم وعلى وراثة الحكم وانتقاله لأبنائهم وذراريهم».

وتحت عنوان «فرحة علماء الأزهر بسقوط يافا بأيدي الفرنسيين»، يضيف « تأمل، أيضاً ترويج علماء المؤسسة الدينية لاعتداء نابليون على مدينة يافا وفرحتهم بسقوط البلاد بأيدي الفرنسيين. نختار بعض فقرات من هذا البيان: « وقتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار في السيف والبندق، لما وقع منهم من الإنحراف، وأما الفرنساوية لم يقتل منهم إلا القليل، والمجاريح منهم ليس بكثير، وسبب ذلك سلوكهم للقلعة من طريق أمينة خافية عن العيون، وأخذوا ذخائر كثيرة وأموال غزيرة، ومسكوا المراكب التي في الميناء واكتسبوا أمتعة غالية ثمينة، ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفعا، ولم يعلموا (أنه) مع مقادير الله، آلة الحرب لا تنفع، فاستقيموا يا عباد الله وارضوا بقضاء الله، ولا تتعارضوا على أحكام الله، وعليكم بتقوى الله، واعلموا أن الملك لله يؤتيه من يشاء». ويعلق السباعي على البيان المذكور قائلاً: « ألم يعلم هؤلاء المشايخ أن نابليون غدر بأهل يافا وقتل هؤلاء الأسرى بعد أن أمنهم على حياتهم، وأن المرء يعجب من عدم تنديد الجبرتي رغم جلالة قدره وإنتقاده كثيراً لأفعال الفرنسيين الوحشية لم يستنكر هذا الجريمة الشنعاء ولم يعلق عليها لقد اكتفى الجبرتي فقط بنشر البيان المذكور ولم يعلق عليه كعادته». والعجيب في الأمر أن ما فعله نابليون يناقض تماماً ما ذكره العلماء الموقعون على البيان المذكور، فبعد أن فتح نابليون يافا أباح لجنوده المدينة لمدة يومين كاملين يفعلون بها وبأهلها ما يشاؤون من قتل وتعذيب واغتصاب للحرائر ونهب للدور وهتك للأستار.

وعن ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسين يخرج الأزهر بياناً يتهم العلماء والثوار الذين قاموا بالثورة بأنهم أصحاب «فتنة». وتعرض السباعي لقصة سليمان الحلبي الطالب الأزهري الذي قتل كليبر وظلمه العلماء ونددوا بفعلته وتبرأوا منها واتهموه بأنه صاحب فتنة وقد حكم على سليمان الحلبي بالإعدام بأن وضع على خازوق مع حرق يده ثم أخذوا جمجمته وعرضوها في متحف باريس كما يقول هنري لورنس: «لقد ظلم هذا البطل المجاهد ظلماً تاريخياً سواء على المستوى الرسمي للمؤسسة الدينية التي أدانته وتبرأت من فعلته أو على المستوى التاريخي حيث لم ينصفه معظم من كتب في تاريخ هذه الحقبة وكانوا يمرون على ذكره في عبارة تاريخية موجزة فهو مجرد قاتل للجنرال الفرنسي كليبر فقط ويلتزمون الصمت ولا يعلقون على الحدث، لقد ظلموا بحق هذا الطالب الأزهري المجاهد لقيامه بالواجب الشرعي في قتل عدو مغتصب محتل لبلد اسلامي.. فسارعوا في التنديد به وباتهامه بالعمالة لصالح المماليك ولم يترحموا عليه، ولا حتى على المشايخ الذين قطعت رقابهم بتهمة علمهم بمقصد سليمان الحلبي ولم يبلغوا السلطات». ويخلص السباعي إلى النتيجة التالية عن نابليون: «هكذا استطاعت كلاب الربيع ـ حسب وصف أحد المؤرخين لهم ـ (جيوش نابليون) أن تكرس مفاهيم وتضع لبنات في كيفية التعامل مع المؤسسات الدينية وكيفية احتوائها بل واستخدامها لمصلحة السلطة. لقد فعل نابليون في بضع سنين ما لم تستطع أن تفعله الحروب الصليبية على مدار قرنين من الزمان.. لذلك فإن الأفكار البونابرتية كانت المنطلق الأساسي لمحمد علي باشا وأسرته المتسلطة على حكم مصر والشام ردحاً من الزمن». ثم تحدث السباعي عن محمد علي باشا وعلاقته بالعلماء وكيف انقلب عليهم وأقصاهم من الحياة السياسية مستغلاً فرقة العلماء وحسدهم لبعض، فجعل يقرب هذا ويقصي هذا.

وذكر السباعي بعض مواقف لعلماء الأزهر ومنهم: شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري (1929 ـ 1944) الذي كان ينادي بإصلاح الأزهر وله مواقف طيبة لكنه كان متعاوناً مع الملك فؤاد، مما جعل العلماء يتهمونه بأنه فتح الباب لسيطرة القصر على الأزهر وعلمائه. ومن المعروف أن الملك فؤاد قد نكل بالعلماء الذين يعارضون سياساته بالفصل وبالتشريد. وكانت حجته أن هناك احتلالاً إنجليزياً وهناك أحزاباً تتعامل مع الإنجليز فكان ينادي بتبعية الأزهر للملك لا للأحزاب، وكأن الملك لم يكن متعاوناً مع الإنجليز بل وتحت إمرة الإنجليز.

* «الصراع بين المؤسسات الدينية والأنظمة الحاكمة»

* المؤلف: هاني السباعي

* الناشر: مركز المقريزي للدراسات التاريخية