ليس كل مبدع مجنوناً وليس كل مجنون مبدعاً

حالات الانتحار بين المبدعين أقل من نسبتها بين الناس العاديين

TT

هل يرتبط الابداع بالجنون؟في كتابه الصادر عن سلسلة «عالم المعرفة» بعنوان «الحكمة الضائعة» يتناول د. عبد الستار ابراهيم هذا الموضوع، شارحاً ومجيباً عن كثير من اللغط والافكار السائدة، موضحاً ـ وهو المتخصص في علم النفس ـ ان لا ارتباط عضوياً بين الابداع والجنون.

لقد بدل العباقرة امثال جاليليو ونيوتن وداروين وزويل وباخ وموتزارت وبتهوفن وتشايكوفسكي وهندل وغيرهم من المبدعين، مفاهيم البشر عن العالم الطبيعي والبيئة المادية.

تعدت العبقرية احياناً المنجزات التي ذكرنا. فعبقرية شكسبير مثلاً، تجاوزت الآفاق العقلية التي فتحها بمسرحياته الى تطوير اللغة الانجليزية كلمة واسلوباً وآفاقاً لم تعرفها من قبل. وكذلك كان الامر مع نجيب محفوظ وآخرين من المبدعين العرب. وكل هؤلاء لم يكونوا مجانين بأي معنى من المعاني. فالعبقري هو شخص استطاع ان يتجاوز المقاييس العادية من خلال اعماله الخلاقة في الفن والادب والعلم، او اي حقل من حقول المعرفة والنشاط الابداعي.

لكن هناك الكثير من المزاعم المنتشرة في الاوساط الثقافية العامة من ان العبقرية والابداع يقترنان بالجنون، من دون ان يكلف احد نفسه البحث والنظر في عشرات الملاحظات الداحضة والمعارضة لهذا الرأي، فالموهبة الابداعية متروكة لتيارين اساسيين، يغرق احدهما في تعميم نظريات فضفاضة، وتتبنى هذا الرأي طائفة كبيرة من المفكرين والفلاسفة ونقاد الادب والفن وبعض المنتمين الى نظريات التحليل النفسي الفرويدي المبكرة، وتيار آخر يغرق في الاهتمام بجمع وقائع جزئية يتعذر وضعها غالباً في اطار متسق من التفكير والنظر. وجاء علم النفس الطبي ليقدم الكثير من المفاهيم التي ستكون لها نتائج مهمة، في فهم كثير من جوانب الصحة والمرض في حياتنا بشكل عام، وفي حياة المبدعين بشكل خاص. ومن هذه المفاهيم مفهوم الضغط النفسي او الضغط الانفعالي، الذي قادنا لعدم قبول النظر للمبدع على انه مصاب بالفصام والهستيريا او المرض العقلي لمجرد وجود تشابه جزئي في الاعراض التي تصف المصابين بهذا المرض، وكذلك تتملك المبدعين عندما يكونون تحت تأثير الضغوط النفسية التي يفرضها العمل ذاته.

* اضطراب المبدعين

* لقد رسم عباس محمود العقاد مشاعره خلال فترة معاناة حادة في حياته المبكرة في مدينة بأسوان: «يأس وتشاؤم وارهاق واحساس بالركود والاعياء وترحيب بالموت». وكذلك فكر انيس منصور بالانتحار، وعانى روزفلت وتشرشل ولنكولن حالات حادة من التقلب الوجداني، التي كان الاكتئاب، احد ملامحها الرئيسية.

اما الادباء والفنانون فكثير منهم اصيب بالاضطراب النفسي مثل فيرجينا وولف، كافكا، كيتس، وغوته، بل ان منهم من ادخل مصحات عقلية مثل عزرا باوند وفان غوخ وهولدرين وغيرهم كثير. وعلى المستوى العربي عانى العديد من المبدعين نذكر منهم صلاح عبد الصبور وانيس منصور ومي زيادة وعبر الرحمن شكري.ان الشخص المضطرب نفسياً لا يختلف في طبيعته عن الشخص العادي، الا في مقدار ظهور السلوك الذي نعتبره شاذاً او مريضاً.

ويفرد المؤلف صفحات طوالاً يتحدث فيها عن الصلة بين الابداع والمرض النفسي، ويتوسع في شرح مفهوم المرض النفسي والفعلي: عرض لكل ما يوضح السلوك العادي او السليم، الاضطرابات الانفعالية ـ العصبية، الاضطرابات العقلية (الذهان)، اضطرابات الشخصية (النرجسية والاضطهادي)، اضطرابات عضوية مصدرها نفسي، ثم يتحدث عن «الابداع والاضطراب» من منظور علم النفس الابداعي: حركة القياس النفسي للابداع، مقاييس الابداع في ميزان الفوائد العملية والتطبيق، ومفهوم الابداع وصلته بالشخصية والمرض في ضوء حركة القياس النفسي ليخلص الى القول بأن المبدعين (ليسوا مرضى وليسوا عاديين وليسوا اسوياء).

* أخطاء التفسير

* لقد حاول «لامبروزو» و«فرويد» ومن اتبع طريقهما من علماء النفس ونظرياتهما التحليلية ان يثبتوا العلاقة بين العبقرية والابداع والمرض النفسي. ثم جاء العالم الانجليزي الشهير «فرانسيس جالتون» ليرفض ربط لابروزو وانصاره بين العبقرية والجنون على نحو حتمي. ثم بينت دراسة لـ «بوست» ان الاضطراب النفسي والعقلي يشيع في طوائف من المبدعين من دون الطوائف الاخرى. فهو يزداد بين الفنانين اكثر مما هو شائع بين العلماء والباحثين. اي ان الابداع في حد ذاته ليس قريناً للمرض ولكنه يقترن اما ببعض الموضوعات التي تثير بطبيعتها ضغوطاً انفعالية شديدة بسبب ما تثيره من حدة في المشاعر، واما بما تتطلبه بعض حقول الابداع من اساليب نفسية وبدنية خاصة بها. ولكن «بوست» لاحظ ايضاً شيوع مثل هذه الاضطرابات في المبدعين اقل من انتشارها في الناس العاديين.

ويخلص الكتاب الى ان اضطرابات المبدعين لا تصل الى درجة التشوش الذهني والعقلي الذي نلحظة عند المرضى العقليين، ويتميز المبدعون بخصائص ايجابية لا تتوفر للعاديين من الناس.

صحيح ان المبدعين المصابين بالاضطرابات النفسية يعانون من مشاكل اسرية وشخصية كالادمان على الخمور او العقاقير في بعض الاحيان ويشيع بينهم الاحساس بالاحباط، إلا ان ذلك لا يمنعهم في الغالب من مواصلة الانتاج والابداع، لا بل يؤكد الكتاب ان حالات الانتحار بين المبدعين اقل من نسبتها بين الناس العاديين، ويدعو الكاتب الى ضرورة الاعتراف بأن ليس كل مبدع مجنوناً وليس كل مجنون مبدعاً.

* الحكمة الضائعة

* المؤلف: د. عبد الستار ابراهيم

* الناشر: «عالم المعرفة»