تراجيديا ثقافية عراقية

فاضل السلطاني

TT

مجلة «نيوزويك» الاميركية تعد الان ملفا عن المثقفين العراقيين في المنفى. وحين نذكر لها ان حوالي 500 مثقف عراقي غادر العراق في ثلاث سنوات ما بين 1977 و1980، في ذلك الوقت الذي كان فيه صدام حسين «رجلهم، ولو انه رجل سيئ»، تفغر فاها غير مصدقة، وربما عدتها مبالغة عربية على عادتنا.

لم يكتب احد عن هذه الظاهرة التي ستكبر يوما بعد يوم كلما كبر القمع، وتوسعت الحرب الداخلية لتفرخ حربين خارجيتين في عقد واحد، فالجميع، عربا وشرقا وغربا، كانوا يغضون النظر لاسباب مختلفة عن كارثة بعيدة عن حدودهم، لم تمسهم بشيء بعد، ولا تعنيهم بشيء.

غادر هؤلاء بصمت.. وحيدين الى مناف اعتقدوا انها لن تدوم طويلا، وها قد مضى ربع قرن التحق خلاله بهم اخرون بالعشرات ليشكلوا اكبر نزيف ثقافي عرفه بلد ما بعد الحرب العالمية الثانية الى جانب المانيا. والفرق ان العالم كله كان متضامنا مع زملائهم الالمان بفضل هتلر، بينما لم يجد المثقفون العراقيون مثل هذا التضامن حتى من ابناء جلدتهم المثقفين العرب، وما يزالون، بل ان العالم كله لم يعر اهتماما للتراجيديا العراقية الا بعد احتلال الكويت، حتى نكاد نقول: شكرا لهذا الاحتلال! وكأن العالم كان يحتاج لان يفتح عينيه الى كارثة اضافية. لقد سجل المثقفون العراقيون، في ذلك الزمن البعيد، شهادات مرعبة عن القمع والتعذيب والاغتصاب حفظت في ارشيف لجنة العفو الدولية، ولم يسمع به احد لان العالم، عربا وشرقا وغربا، لم يكن يريد ان يسمع، ولا يريد ان يسمع. أما الان، فها هو العراق يتشكل، او في طريقه الى التشكل كما يريدون، فصوت عسكري سابق، او ضابط مخابرات سابق لهو اعلى عشرات المرات من صوت الجواهري او البياتي او سعدي يوسف، وما بينهم اصوات عشرات المثقفين. وها هي ما تسمى بفصائل المعارضة العراقية تتشاور هنا او هناك، وتجتمع هنا وهناك، دون ان نسمع مرة انها اتصلت بهذا المثقف او ذاك، او استأنست في الاقل برأيه في هذه القضية او تلك، ولم نسمع مرة انها خصصت مبلغا بسيطا من الملايين التي تتسلمها لدعم جمعية من عشرات الجمعيات الثقافية العراقية المنتشرة في المنفى.

اي عراق سيتشكل في المستقبل اذا علا حذاء العسكري، كما في العراق الان، على رأس المثقف؟

والسؤال الاخطر: ماذا سيفعل المثقف العراقي في وضع كهذا؟ هل سيعود الى المنفى من جديد لتكتمل كل عناصر التراجيديا المثالية، تماما كما في اية تراجيديا يونانية؟