ما قبل الثورة وبعدها

ما أن يصل الثوار إلى السلطة حتى يطرحوا الشعارات السابقة جانباً

TT

كيف يمكن تصور نتائج الثورات التاريخية في العالم لولا ايمان هذه الثورات بمثال «غير واقعي» غمر عشرات ملايين البشر، ولولا ثقة دعاتها بأن المبادئ التي يدعون اليها والتي تبشر بولادة جديدة للتاريخ ستتحقق مباشرة فور انتصار الثورة؟ سؤال يطرحه الباحث الدكتور نديم البيطار في كتابه «التجربة الثورية بين المثال والواقع» الصادر عن «دار بيسان» ليؤكد ان الطاقات الانسانية التي تحتاج اليها الثورة في تدمير عالم قديم وبناء عالم جديد يمكن ان تكشف عن ذاتها فقط عن طريق مثال يستطيع ان يثير الحماس الكلي والانتماء التام اليه، وليس بحسابات واقعية صرفة تقتصر على ما تسمح به الاوضاع على الارض.

وبالتالي فالتباعد بين المثال والواقع، برأي البيطار، ظاهرة طبيعية في التجربة الثورية لان المحك الاساسي ليس في ما يحققه المثال الثوري ويصنعه، بل في التحول الذي يجريه في الواقع والهدف الذي لاجله يسجل هذا التحول، اي التحفيز المستمر على النضال للاقتراب باكبر درجة ممكنة من المثال وليس تجسيداً تاماً له.

ويرى الباحث ان نقد التجربة الثورية بسبب هذا التناقض بين المثال والواقع يكون مضللاً لانه يهمل الاوضاع النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتاريخية السلبية التي تبرز فيها الثورة فتعرقل سيرها.

والسؤال هل استطاع المثال الثوري ان يأتي بمجتمع جديد قادر على تعزيز انسانية الفرد والمجتمع وشحذ وعي الانسان وتطوير ذكائه وحسه الاخلاقي؟

يجيب الكاتب في هذا الاطار ان الثورات التاريخية تمكنت من تغيير النظام القديم لكنها لم تتوصل الى اقامة مجتمع جديد كما ارادته في مشروعها الاساسي ويدعم المؤلف فكرته بالشواهد التاريخية مكتفياً ببعض التجارب الثورية والايديولوجية التي تتميز برأيه، بأهمية تاريخية خاصة وهي الثورة الفرنسية الثورة الاميركية والتجربة الشيوعية التي يفرد لها فصلاً كاملاً من دراسته.

ويعتقد البيطار ان منجزات الثورة الفرنسية كانت هائلة رغم الانتقادات الحادة والمتلاحقة التي وجهت اليها، لا سيما من قبل الرومانطيقيين الالمان الذين اعتبروا ان مبادئ الثورة تتناقض مع واقعها والواقع الانساني نفسه، وهي مصدر مسؤول عن شرور العصر الحديث غير انها في الوقت نفسه، يضيف الباحث، انتجت وثيقة اعلان حقوق الانسان الذي قاد عقلنة المجتمع الفرنسي ومجتمعات اخرى عديدة وباسمه تحققت تغييرات جذرية، منها اضعاف السلطة الابوية باعطاء النساء حريات حديثة، وتحرير الابناء من هذه السلطة عند بلوغ سن معينة، ونقل مسؤولية التعليم من العائلة والكنيسة الى الدولة. كما قضت الثورة على النظام الاقطاعي، وعلمنت المجتمع، وغيرت النظام القانوني والاقتصاد والعلاقة بين اصحاب العمل والعمال واوجدت رغبات في مراتب اجتماعية جديدة ونزعت عن فرنسا قواعدها المسيحية واحلت محلها نظرة ليبرالية نفعية وتعددية والغت النظام الملكي، واقامت مكانه نظاماً جديداً يقوم على قاعدتين اساسيتين القاعدة الجمهورية والقاعدة القومية.

لكن منجزات الثورة كانت بحسب الكاتب هي في قدرتها على الغاء ما ارادت الغاءه ونقضه وليس في اقامة ما ارادته من مشروع اساسي، لانها لم تتوصل الى ايجاد مجتمع يحقق العقل والحرية الفردية والمساواة والتقدم. ولكن الثورة كانت تجد تبريرها بأن العقل سينمو ويزدهر عندما يتحرر من القيود الطبيعية العدائية والمؤسسات الاجتماعية القمعية وبالتالي يتكون وضع يسمح بالتعبير عن الحرية والتقدم الانساني.

اما بالنسبة للثورة الليبرالية وتحديداً الاميركية، فيبين البيطار التناقض الجذري بين المثال الليبرالي الثوري والواقع الذي ترتب عليه من خلال الاستعانة باستفتاء اجراه بعض الطلاب في احدى الجامعات الاميركية لتقييم وثيقتي الثورة (وثيقة اعلان الاستقلال والدستور). فقد قدم الطلاب عريضة احتجاج حول احد جوانب الحياة في الجامعة ولكنهم دمجوا في العريضة بعض الفقرات من هاتين الوثيقتين، في حين رفض الكثير من الطلاب الموافقة على العريضة بسبب هذه الفقرات تحديداً، لانهم اعتقدوا انها تدل على ان العريضة كانت شيوعية. وهو المضحك المبكي في امر هؤلاء الطلاب الاميركيين. ومع ذلك يؤكد الباحث ان منجزات الثورة الاميركية لا يحدها حصر، فهي ثورة غيرت وجه التاريخ والعالم.

والتناقض الذي كشفت عنه، الثورة الروسية الشيوعية لا يزال واقعاً نحياه، على حد تعبير الكاتب، الذي يعتقد انه كان من الممكن تجنب النتائج السلبية للثورة لو ان الذين خرجوا منها ادركوا ان الولاء للثورة والدفاع عنها لا يجب ان يرتبط بالتناقض بين المثال والواقع بل بقدرة الثورة على نقل المجتمع الروسي الى مستوى تاريخي جديد فانتقلوا بذلك من ديكتاتورية البروليتاريا الى ديكتاتورية الحزب على البروليتاريا ثم ديكتاتورية الفرد على الحزب وحالياً ديكتاتورية اقلية محدودة من البيروقراطيين على الحزب.

غير ان هذا لا يمنع من ان التجربة الشيوعية التي يعتبرها الباحث اكبر تجربة ثورية في القرن العشرين نجحت كما يقول بتغيير الواقع الاجتماعي السياسي والايديولوجي اكثر من اية ثورة اخرى وبالتالي اسقطت النظام القديم واتجهت الى بناء نظام جديد يمثل قيماًَ ومثلاً جديدة، ولد موجة تفاؤل كبيرة حملت عشرات الالوف من المثقفين الغربيين على تأييدها والانتصار لها ضد الانظمة الغربية التي يعيشون فيها لانهم كانوا يعتبرون ان هذا النظام يعمل من اجل مثال ثوري يعطي التاريخ قصداً ومعنى ويميزه عن المجتمعات الغربية بمكاسب روحية واخلاقية.

ويردف البيطار: «ما كان يثير المثقفين وانتصارهم للاتحاد السوفياتي كانت الجهود الصادقة التي كانت تبذلها التجربة الثورية لتحقيق مثلها ولم يكن يهمهم التناقض بين المجتمع الجديد الذي تحاول الثورة الاتجاه نحوه والواقع على الارض».

لكن الكاتب يوضح كيف ان النزعة المكيافللية «الغاية تبرر الوسيلة» حددت مسار التجارب الثورية التي شهدها العالم مشيراً الى ان الثوار ما ان يصلوا الى السلطة حتى يطرحوا المثال جانباً ويمارسوا سياسة قمع الجماهير التي رفعوا شعارات تحريرها من الظلم والقهر والحرمان.

ويخلص الى ان اهم سبب يدعو الى التنكر للمثال الثوري هو السلطة الثورية التي كانت تتناقض مع قيمه وخصوصاً الحرية والديمقراطية فتمارس الديكتاتورية بابشع صورها مما يجعل تترحم الناس على العهود البائدة.

* التجربة الثورية بين المثال والواقع

* المؤلف : نديم البيطار

* الناشر: دار بيسان ، بيروت