الحداثة الفرنسية والعربية الكتابة الرديئة جريمة لا تغتفر

هاشم صالح

TT

هذا الكتاب الجماعي الصادر تحت اشراف البروفيسور ميشيل جاريتي شارك فيه ما لا يقل عن خمسة من خيرة اساتذة الجامعات الفرنسية. وهو يقدم صورة تاريخية متدرجة عن الشعر الفرنسي منذ أقدم العصور وحتى اليوم. بالطبع فإننا سوف نتوقف عند الجزء الأخير منه فقط لسببين اساسيين: اولهما ان الاحاطة بكتاب كبير كهذا شيء يستحيل تنفيذه في مقالة واحدة. وثانيهما هو أن الشعر الفرنسي الذي يهمنا بالدرجة الأولى، ينحصر بمرحلة الحداثة.

نقول ذلك ونحن نعلم ان الحداثة الشعرية الفرنسية كانت قد اثرت على نشأة وتطور الحداثة الشعرية العربية. ولذلك فسوف أتوقف مطولاً عند الفصل الذي يحمل عنوان: الأزمة (1869 ـ 1897). فمن الواضح ان الحداثة الفرنسية في ما يخص الشعر كانت قد تبلورت، في خطوطها العريضة، آنذاك. هذا يعني ان النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان حاسماً بالنسبة لمصير الشعر الفرنسي، مثلما ان النصف الثاني من القرن العشرين كان حاسماً بالنسبة للشعر العربي. وبالتالي فإن التفاوت التاريخي بين الحداثتين يصل الى قرابة القرن. نعم لقد سبقونا بقرن واحد الى الحداثة الشعرية.

يقول الكتاب بهذا الصدد ما معناه:

لقد شهد عام (1869) ظهور ديوانين سوف يكون لهما تأثير كبير لاحقاً هما: «قصائد نثر صغيرة لبودلير»، و«أناشيد مالدورور» لايزيدور دوكاس المشهور باسم لوثريامون، وبدءاً من تلك اللحظة اندلعت الأزمة التي تعرض لها الشعر الفرنسي وانعطفت به انعطافة هائلة كانت لها نتائج وانعكاسات حاسمة. وكان أبطال هذه الأزمة شعراء من امثال فيرلين ومالارميه، ورامبو ولوثريامون وشاعر اقل شهرة يدعى كوربيير. وكل واحد من هؤلاء الشعراء انخرط في عملية تغيير الشعر ـ أو الكتابة الشعرية ـ بشكل راديكالي، جذري. وهذا المشروع الجديد يتجاوز في حجمه وابعاده المشروع الرومانطيقي السابق له مباشرة، كما ويتجاوز المدرسة الباراناسية والمدرسة الرمزية. انه يشكل قطيعة ليس فقط على مستوى الشعر، وانما ايضا على مستوى الوجود الحياتي اليومي، فالهدف لم يكن فقط تغيير الشعر، وانما ايضا تغيير الحياة فيقول رامبو: فما معنى ان تكتب شعراً جديداً وانت تعيش حياة امتثالية، تقليدية، مملة؟

يقول لوثريامون هذه العبارة الشهيرة: «كل مياه البحر لا تكفي لغسل لطخة دم ثقافية واحدة!» بمعنى ان السخافات الشعرية او الكتابات الرديئة تشكل جريمة حقيقية لا تغتفر. ونحن لا نستطيع ان نتحمل هذه الكتابات المملة التي تقتلنا قتلاً، هذا في حين ان مهمة الشعر الحقيقي تكمن في احيائنا، في ادهاشنا، في زعزعتنا..

لم يكن شعراء الحداثة ينتمون الى مدرسة واحدة موحدة كما فعل شعراء المرحلة الرومانطيقية او الباراناسية. وانما كانوا يشتغلون بشكل فردي وحداني، كل واحد على هواه. وحتى فيرلين ورامبو المشهورة علاقتهما الخاصة والوثيقة كتبا شعراً مختلفاً تماماً. شاعر الحداثة لا يستطيع ان ينتمي الى أي جماعة كائنة من كانت. انه لا يستطيع ان يتصالح حتى مع نفسه. ولكن على الرغم من هذا التفرد والشذوذ فهناك بعض الخصائص المشتركة التي تجمع بينهم.

وأول خصيصة هي التدمير او المرور الاجباري من خلال التدمير، ثم مسألة الغنائية وعلاقتها بذاتية الشعر وكيف تم الانتقال من الشعر الذاتي الى الشعر الموضوعي، ثم مسألة الطاقة النبوئية والاستشرافية للشعر.

وهذه المسألة الأخيرة كان الرومانطيقيون وبخاصة فيكتور هيغو قد احسوا بها وبلوروها. ولكن رامبو راح يعطيها بعداً خاصاً من خلال «رسالة الرائي او الرؤيوي» الشهيرة.

مالارميه يقول: «التدمير كان حبيبتي».. هذه العبارة واردة في رسالة كتبها الى احد اصدقائه عام 1866. في تلك اللحظة كان مالارميه قد اكتشف للتو مفهوم العدم: اي العدم المطلق والنهائي كحقيقة اساسية، أو حتى كحقيقة وحيدة على هذه الأرض، لأنه في نهاية المطاف لن يبقى اي شيء. عندما فغر العدم فاه في وجه مالارميه أحس بفرح لا نهائي واكتشف رسالته الشعرية التي كان يبحث عنها. لقد ارتاح مالارميه وتنفس الصعداء عندما اكتشف تجربة العدم والدمار. في الواقع ان التدمير هو المؤسس أو المدشن لكل كتابة شعرية حقيقية. والتدمير يستهدف اولاً الشعر ذاته، أو تراثه الماضي المتراكم، لا يمكن ان تكتب شعرك الخاص إلا بعد ان تدمر في اعماقك كل أثر للشعر السابق عليك. فلكي تحيا ينبغي اولاً ان تموت.. ينبغي ان تنسى المتنبي وابو تمام وادونيس. ولكن هل تستطيع؟! في ديوانه «نسمة هواء بحرية» يكتب مالارميه: «الجنس حزين وا أسفاه! وقد قرأت جميع الكتب..». وبالتالي فما يريده مالارميه الآن هو ان ينسى كل ما قرأه لكي يكتب بدءاً من نقطة الصفر.

وقد ابتدأت القطيعة الشعرية على هيئة نزعة عدوانية. فشعراء هذه القطيعة ـ وبخاصة رامبو وفيرلين ـ كانوا عبارة عن زعران يثيرون الفضائح في المجتمع والاوساط الادبية، ولم يكونوا يفعلون ذلك مجاناً وانما من خلال منظور متماسك يهدف الى خلخلة القيم وتدمير الماضي تماماً.

ولم يكتفوا بتدمير الماضي القريب، اي الشعر على الطريقة الرومانطيقية ثم الباراناسية، وانما راحوا يدمرون الشعر على مدار تاريخه كله. فالقطيعة ينبغي ان تكون مطلقة او لا تكون. ورامبو معروفة صرخته الشهيرة: ينبغي ان نكون حديثين بشكل مطلق! بل راحوا يدمرون انفسهم في نهاية المطاف. راحوا يتنكرون لأشعار كانوا قد كتبوها قبل ثلاث أو أربع سنوات فقط باعتبار انها اصبحت تراثاً ماضوياً تجاوزه الزمن. ولهذا السبب فإن رامبو طلب من احد اصدقائه تدمير مجموعته الشعرية الأولى التي كان قد أودعها عنده. ولحسن الحظ فإن هذا الاخير لم يفعل... فالشعر بالنسبة لشخص كرامبو هو دائماً مشروع: اي تجريب معرض للنقد او للنقض في كل مرحلة من المراحل، ورامبو في مراحله الاخيرة راح يخجل من نفسه ويعتبر انه كان جباناً جداً في مراحله الأولى. رامبو «الاشراقات» أو «فصل في الجحيم» اراد ان يدمر رامبو الأول تدميراً كاملاً: اي رامبو الغنائي الرائع الذي كان لم يتخلص بعد من الاشكال التقليدية الموزونة للكتابة الشعرية. رامبو في حياته الشعرية القصيرة جداً ما انفك يحرق مراكبه الواحد بعد الآخر حتى صمت اخيراً وبشكل نهائي. لم يعد للشعر من معنى بعد ان وصل به الى نقطة لا يمكن تجاوزها، الى تخوم لا تخوم بعدها.. وصمت رامبو هو جزء لا يتجزأ من الحداثة الشعرية وربما كان أهم انجازاتها! ولوثريامون راح يتنكر لديوانه الأول «اناشيد مالدورور» ويدعو القراء الى اعتباره لاغياً لأنه اصبح الآن يتحدث عن الخير لا عن الشر. واحيانا عندما تقرأ ديوانه الأول ثم ديوانه الثاني لا تكاد تصدق ان نفس الشخص هو الذي كتب الديوانين! لقد انقلب على نفسه انقلاباً كاملاً. ولم يكتف بتدمير الآخرين من امثال فيكتور هيغو والفريد دوموسيه وكل شعراء فرنسا في نهاية المطاف، وانما راح يدمر نفسه بنفسه.

بقيت نقطة اخيرة قبل ان اختم هذا المقال. كل شعراء الأزمة ما عدا مالارميه كانوا ناقمين على الحضارة الغربية او يريدون الخروج منها بأي شكل. كانوا عاجزين عن التصالح مع الواقع، اي واقع كان. فديوان «اناشيد مالدورور» لا يخلو من «الصفحات السوداء والمليئة بالسموم» على حد تعبير لوثريامون شخصياً. وهذه الصفحات هي عبارة عن «مستنقعات موحشة» أو صحارى تستعصي على الحضارة. كانوا يحنون الى شيء آخر، بدائي، لا علاقة له بالحضارة. وفي ديوانه «فصل في الجحيم» نلاحظ ان رامبو يحن ايضاً الى عصور البربرية والهمجية ويحلم بمغادرة الغرب. وقد غادره فعلاً.

هذا الموقف من الحضارة قد يفاجئنا كثيراً نحن المثقفين العرب الذين نحلم بالحضارة والحداثة، بالتقدم والرقي. ولكن الشعر هو الشعر ولا يزدهر الا في جو من الرفض بما هو سائد. ولو وضعت الشاعر في الجنة لملَّ منها.

مهما يكن من أمر فإن موقفهم يتناقض تماماً مع موقف فيكتور هيغو الذي كان يتغنى بالرسالة الحضارية أو التحضيرية للغرب. وكان يعتبر ان الشعر هو المكلف نقل هذه الرسالة إلى العالم.

* عنوان الكتاب: الشعر الفرنسي منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا La Poésie fransaise du moyen age jusqu"a nos joure.

* المؤلف: جماعي تحت اشراف البروفيسور ميشيل جاريتي Michel Jarrety

* دار النشر: المطبوعات الجامعية الفرنسية ـ باريس Presses universitaires de france Paris