التنوير مرة اخرى

فاضل السلطاني

TT

المفكر اللبناني علي حرب، احد المشتغلين على مشروع التنوير العربي، بعث برسالة يعقب فيها على كلمة «تنويريون.. ولكن» المنشورة في 13/10 في هذه الزاوية ننقل هنا مقتطفات منها، اغناء للنقاش حول ازمة الفكر العربي وطرائق فهمنا المختلفة لهذه الازمة واسبابها وكيفية تجاوزها.

يقول علي حرب:

«صديقي في المعرفة لقد اثرت في مقالتك مشكلة اساسية تتعلق بازمة المشروع الحضاري والنهضوي العربي بمختلف نسخه التي تتأرجح بين التعثر والمراوحة او بين التراجع والاخفاق.

مثل هذا المأزق الوجودي هو ما حاولت الاشتغال عليه وتفكيكه، كما يتجلى ذلك بشكل خاص في كتابي «الاختام والاصولية والشعائر التقدمية»، وذلك بتحليل العوائق التي تعيد انتاج الازمات والمشكلات ومن بينها المنزع النخبوي الذي يولد عزلة المثقفين وهامشيتهم وقلة فاعليتهم في مجتمعاتهم».

ويضيف حرب: «في كتابي الجديد «العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول»، ثمة تناول للازمة من جديد، ولكن بالتركيز على المستوى الكوكبي، من هنا يشكل الكتاب قراءة في المشهد العالمي، بقدر ما هو خطاب في الازمة المتفاقمة التي تضرب المجتمعات المعاصرة كما بدا ذلك خاصة بعد تفجيرات نيويورك».

والنقطة الاساسية المهمة في كتاب حرب هذا في رأينا ليس التركيز على ما سماه «المستوى الكوكبي» و«قراءة المشهد العالمي»، وانما في دعوته الى تجاوز الدعوات المستهلكة حول المشروع الحضاري والنهضوي العربي، وتجاوز مناهضة المشروع الثقافي الغربي.

فالمجدي الان، كما يشخص بصواب، هو الاشتغال على وقائع حياتنا وجزئيات وجودنا بعيدا عن «وساوس التراث وهواجس الهوية وتهويمات الخصوصية»، والاعتبارات الايديولوجية، وهي، في الجوهر اعتبارات قبلية وفئوية متخلفة قادت الى احترابنا الداخلي طويلا تحت تسميات حضارية، فقد تحدثنا طويلا عن صراع الحضارات كما كتب الزميل عبد الرحمن الراشد في 14 اكتوبر (تشرين الأول) في هذه الجريدة، ولا حضارة لنا، وكتبنا طويلا عن التناحر الطبقي، ولا طبقات عندنا حسب التعريف الماركسي ـ اللينيني للطبقة ـ واختلقنا حربا ضروسا بين التقدميين والرجعيين، دون ان نعرف، ولحد الان لا نعرف، من هم التقدميون حقا، ومن هم الرجعيون حقا.

وكل ذلك جرى، لاننا هومنا طويلا في فضاء الفكر، ونقول هومنا لاننا لم نمتلك يوما بناء فكريا متماسكا يمكن ان نقرأ من خلاله واقعنا. بل اسقطنا مقولاتنا على الواقع، وأردنا له ان يسير حسب هذه المقولات، فتكسرت رؤوسنا، وستتكسر في المستقبل ايضا اذا لم نستطع تأسيس منظومتنا الفكرية والثقافية انطلاقا من واقعنا الذي نعيش. لهذا السبب كان ماركس يكره الايديولوجيا ويمجد العلم الذي يبني ادواته من الواقع نفسه. ولهذا السبب تجاوزت مقدمة ابن خلدون عصرها وما زالت صالحة بجوهرها حتى لعصرنا الحالي في درسنا الذي يدعونا الى نبش حقائق حياتنا ووجودنا.

وعلى الصعيد العملي والسياسي، علينا ان نعترف ايضا بفشل مشاريعنا السياسية والاجتماعية، وتعثر نماذج التحديث والتنمية. ولعل ما اسهم في هذا الاخفاق، كما يقول علي حرب، هو تعاملنا مع شعارات الحرية والديمقراطية والحداثة والتقدم بـ«عقلية طوباوية فردوسية او نخبوية فوقية او قدسية ارهابية. فكانت المحصلة انتهاك القيم والحقوق وانتاج المزيد من التفاوت والتخلف او العنف والتسلط».

كان ابو حيان التوحيدي، الذي احرق كتبه، يقول ان «حسن السؤال نصف العلم». ونعتقد اننا ما زلنا نحتاج الى هذه الحكمة البليغة، وبحاجة الى طرح اسئلة كثيرة حول واقعنا وانفسنا، بشرط ان تكون اسئلة ذكية، لنكسب نصف العلم بدل الايديولوجيا الرمادية التي تصورنا يوما من الايام اننا امتلكناها كاملة، واكتشفنا ربما بعد فوات الاوان انها هي التي امتلكتنا وحولتنا الى رؤوس تدور مترنحة في الهواء بلا اقدام تسندنا الى الارض حيث الحياة الفوارة، الخضراء دائما، وحيث البشر الواقعيون.