عيون المطابع

تدريب على الواقعية

TT

تصدر لي خلال الايام المقبلة، مجموعة قصصية بعنوان «أحلام مومس بلهاء» عن دار النشر المغربية. والمجموعة تضم 15 نصا تتراوح بين طولها وقصرها، وتختلف تيماتها وأشكال بنائها. فبقدر ما كانت مجموعتي القصصصية الاولى «طيور بيضاء» رهانا على تماسك الموضوع، أو وحدة الموضوعات وتقارب الفضاءات وبناء الشخصيات وخط تذويت الكتابة، فان المجموعة قيد الطبع تتأسس على محو هذا التقارب، فالنصوص متباعدة من حيث الموضوعات والفضاءات، فهناك نصوص مكتوبة بضمير الأنا وأخرى بضمير الهو، ونصوص تتغنى بالعالم في جماله وانفلاته، فيما نصوص أخرى تلعن الواقع وقسوته، نصوص عن نساء ورجال وعلاقات مستحيلة في فضاءات مغلقة، نصوص أخرى عن الحب والحلم والفرح.

فـنص «مومس بلهاء» مثلا يتأسس على استحالة التوبة والغفران لامرأة كل ذنبها أنها ولدت فقيرة، مهمشة ولم تعرف عملا غير بيع جسدها... لكنها لم تحلم بغير أسرة دافئة: زوج وأطفال. حتى هاته المتعة (هذا الحلم المشروع لكل امرأة) ليس من حقها لأن سياط الماضي تلاحقها لتدرك في آخر القصة أنها أخطأت حين حلمت أن تكون ربة بيت.. وأما...

هذه القصة واقعية استوحيتها من قصة «سيدة» تعرفت عليها في الصويرة، لكن القصة التي كتبتها أقل قسوة من القصة الواقعية، ففي الواقع السيدة «ربيعة» ستهجر طفليها وزوجها وتعبث في زحام أكادير، حيث الاثرياء والاجانب، وستحول طفلاها الى طفلي ميناء بعد وفاة والدهما من جراء الافراط في الكحول. لا تستعيد القصة المكتوبة كل تفاصيل القصة الواقعية لانها ستكون اكثر قتامة، ولأنني ما زلت احتفظ بقفاز حريري ألامس به الاشياء، لكنها تخدشني رغم ذلك. لهذا فأنا في هذه المجموعة تدربت على الواقعية، وهو ما أثمر «واقعية متوحشة» في المجموعة الاخرى قيد التصفيف «روما سيدي بطاش 2001».

هناك تجريب لتقنيات جديدة في المجموعة القصصية «أحلام مومس بلهاء» هناك لجوء الى الألاعيب الشكلية، الحكي الدائري والتداخل الزمني، لكن هناك رهانا أساسيا وهو الحكاية: لا بد من حكاية، يصطدم بلذتها كل تجريب فني، وهو اصطدام جمالي قادني عبر مسارات جديدة، إلى خلق شخوص مستقلة عني، تنسج قدرها ومصيرها بنفسها. مثلا كما في نص «دردبة» تتصرف الشخصيات بانفصال عني تماما: هناك لقاء بين رجل وامرأة، مغربي وفرنسية، يعيشان علاقة حب جميلة (كل منهما ينتظر شيئا ما دون التصريح به).. الفرنسية (جوزفين) تقيم حفلا طقوسيا مغربيا لـ«كناوة» في البيت، وهو موسيقى شبيهة بالزار المصري، هذا الحفل هو مسرح القصة حيث تفصح كل شخصية عن ذاتها وتتصرف طبقا لنمطها وتصورها للعالم. الفرنسية في لحظة ارتماء في ثقافة الآخر ـ المغربي ـ غذتها قراءات «بولز» تغادر بلدها وثقافتها لتعشق بلدا آخر وتحب رجلا أسمر بشفاه غليظة، فيما «المهدي» صديقها لا يستطيع تجاوز حدود قريته «دوار العرب». وبعد انتهاء الحفل، تربح «جوزفين» شريط فيديو جميل عن «رقصة الشمس» وينصرف «المهدي» لتقطيع اللحم المتبقي وارساله الى أمه واخوته الفقراء.

القصة احتجاج فني على الظلم الاجتماعي والفوارق القاتلة بين الناس والطبقات، الاحتجاج مشروع والالتزام مشروع في الكتابة... ولكن شرطه هو امتلاك الادوات الفنية والجمالية للكتابة. وأعتقد أنني في «أحلام مومس بلهاء» أمسكت بالطرفين معا وقمت بتدريب جميل على الواقعية.

* كاتبة وقاصة من المغرب صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان «طيور بيضاء» عام 1977 عن دار البوكيلي للطباعة والنشر بالقنيطرة.