لماذا اغتالت طالبان الرجل الذي حرر أفغانستان من الروس دون أن يقتل العزل في موسكو؟

الباحث الأميركي مايكل باري ينشر كتاباً عن سيرة أحمد شاه مسعود الحزينة ولكن الآسرة، متناولاً الفرق بينه وبين الأصوليين الآخرين

TT

على عكس معظم الاصوليين الاسلاميين في أفغانستان الذين كانوا يجبرون المرأة على ارتداء نوع معين من الحجاب، منقول عن غطاء رأس الراهبات المسيحيات، إعتبر أحمد شاه مسعود هذا الأمر قرارا شخصيا للمرأة، كما انه لم يلاحق النساء بسبب هذه القضية، كما فعل الاصوليون الآخرون، أو طردهن من وظائفهن، واجبرهن على الانعزال عن المجتمع. ومسعود، الذي انضم للجمعية الاسلامية التي كان يرأسها برهان الدين رباني في مطلع شبابه، كان يؤمن ايمانا كاملا أن على افغانستان أن تحافظ على تراثها الاسلامي، لكنه كان يرفض «الاصولية العصرية» . وبالنسبة له لم يكن هناك ما يسمى «الإسلوب الاسلامي» فكل فرد من حقه ان يعيش اسلامه بطريقته تماما كما تعيش كل امة بطريقتها، وعندما حاول بعض اعضاء الجمعية الذين درسوا في مصر تقديم اعمال سيد قطب، أصر مسعود أن عليهم أيضا قراءة اعمال الكتاب الاسلاميين الآخرين الذين رفضوا التوجهات الدينية المتطرفة لقطب .وبنفس الطريقة حرص مسعود على اخضاع اعمال الصحافي والاصولي الباكستاني أبو الاعلى المودودي للنقد أيضا حتى يتم تحديد اخطائها.

في عام 1988عندما بدأ الاتحاد السوفياتي يستعد للانسحاب من افغانستان، شكلت الأمم المتحدة مجموعة عمل صغيرة مهمتها الاعداد لفترة انتقالية في كابول. ورأس تلك المجموعة صدر الدين أغا خان الذي كان قد شغل منصب رئيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين لسنوات، وقد كنت أنا واحدا من أعضاء تلك المجموعة حيث عملت كمستشار سياسي ضمن المنوط بهم تحديد قادة المجاهدين الذين ستتكون منهم الحكومة الانتقالية في كابول.

ولم يكن من الصعب علي ترتيب عدد من الزيارات بفضل اتصالات صحافية سابقة كنت قد قمت بها من قبل. وكان جميع المراقبين للشأن الافغاني يدركون آنذاك ان زعماء المجاهدين ينقسمون الى ثلاث مجموعات . اولاها تتكون من أولئك الذين يقاتلون من أجل المال وهم يتحولون الى من يدفع أكثر، وثانيتها تتكون ممن لديهم بعض الاراء السياسية لكن بدون معتقدات محددة، فقد كانوا يقاتلون لأنهم يشعرون بأن الشيوعيين وحليفهم الاتحاد السوفياتي جلبوا الخزي لافغانستان وأنهم يحاولون تدمير اسلوب الحياة الافغانية.

وكانت هناك المجموعة الثالثة وهي التي كان تفكيرها يتجاوز مرحلة اجلاء السوفيات عن افغانستان، فقد كانوا يحملون الحلم المستحيل ببلد عصري مع الحفاظ على الهوية الافغانية. وكان أحمد شاه مسعود هو أبرز هؤلاء جميعا، وكان لقائي الأول به في أوائل الثمانينات خلال زيارة قصيرة قمت بها لافغانستان ثم كان لقائي الثاني معه خلال زيارة سريعة قام بها هو لفرنسا.

وقد اجتمعت في مسعود صفات الشخصية القيادية كما لم تجتمع في غيره بقامته الفارعة ووجهه النحيل وسلوكه النشيط وعيونه الغائرة وصوته الرخيم، كما كانت لديه ميزة أخرى دون سواه، فقد نجح في أن يجمع بين صفات القائد العسكري الجاد مع حب للقراءة والاطلاع، وحب الحقيقة. ان الشيء الوحيد الذي كان يطلبه من الذين يرغبون في زيارته هو الكتب.

في 9 سبتمبر 2001، كما هو معروف، قام شخصان تابعان لتنظيم «القاعدة» باغتيال مسعود قبل يومين من الضربات المأساوية على نيويورك وواشنطن، فقد استنتج اسامة بن لادن، أو أيا كان العقل المدبر لـ«القاعدة»، أن الهجوم على نيويورك وواشنطن ستكون نتيجته رد فعل غاضب من جانب الولايات المتحدة، وكان الاعتقاد هو ان اميركا لن تبادر بالتدخل مباشرة في افغانستان لكنها ستحاول الانتقام بدعم مسعود في حربه ضد طالبان، ولهذا فقد كان اغتيال مسعود أمرا ضروريا لتفويت الفرصة على الولايات المتحدة في مواجهة طالبان، ومن تأوي من ارهابيين . واليوم أصبحنا نعرف ان «القاعدة» اساءت الاستنتاج، فربما كان سبب تدخل الولايات المتحدة مباشرة هو انه بغياب مسعود لم يعد هناك معنى لتبني استراتيجية تقوم على دعم قوة افغانية محلية معادية لطالبان وتستطيع التأثير في كابول.

وبكل المقاييس فقد كان مسعود واحدا من أعظم زعماء رجال العصابات الذين ظهروا في القرن العشرين، الى جانب الزعيم الشيوعي ماو تسي تونج، فبدون ان يتلقى أي تدريب عسكري رسمي استطاع مسعود، وهو ابن لكولونيل في الجيش الملكي الافغاني، ان يمتلك اسس التخطيط العسكري والمناورة وأن يمارس فن قيادة الرجال في المعارك وهي المهنة الأصعب في الحياة الانسانية.

وقصة حياة مسعود قصة ساحرة، وليس هناك بأفضل من الباحث الاميركي مايكل باري ليرويها لنا. ولقد نشر باري للتو كتابا عن السيرة الذاتية للبطل الافغاني، بعنوان «مسعود: من الاسلاموية الى الحرية».

وكتب المؤلف، الذي عاش في فرنسا لأكثر من عشرين عاما، كتابه بالفرنسية وستصدر له طبعة بالانجليزية العام المقبل. وباري يتحدث اللغة الفارسية بطلاقة، فهو باحث في الأدب الفارسي،واستطاع أن يترجم الى الفرنسية بعضا من أصعب النصوص الفارسية بما فيها ديوان «الوجوه السبعة لنظامي». وصداقة باري لأحمد شاه مسعود تعود جذورها الى أوائل السبعينيات عندما كان الباحث الاميركي ناشطا مع المنظمات الانسانية بما فيها منظمة «أطباء العالم»التي كانت تقدم المساعدات في أفغانستان.

ومسعود، كما يصفه باري، هو المسلم الورع الذي يؤمن بأن اظهار الشخص لإيمانه دليل ضعف ذلك الايمان، ولهذا فقد كان حريصا على أن يؤدي الصلاة منفردا على عكس قادة المجاهدين الآخرين الذين كانوا يحرصون على الصلاة الجماعية خاصة أمام كاميرات التلفزيون . وعلى مدى فصلين مشوقين يؤكد باري وجهة نظر مسعود في أن الاسلام هو ايمان شخصي وليس برنامجا سياسيا، فهو تطور ايماني عبر النقاش الحر وتبادل الافكار .وكان يرى أن وضع الاسلام في برنامج حزبي سياسي هو تقليل منه ومساواة له بالايديولوجيات الملحدة مثل الشيوعية.

أما المؤلف باري فحزين جدا للمطابقة بين الاسلام والارهاب ومتأثر بشدة بالاسلام كعقيدة وثقافة، وهو يأمل وربما بدون جدوى في اقناع زعماء الغرب بأن مسعود يمثل الاسلام أكثر من بن لادن، وهو يرى أن السبب الوحيد لوجود أصحاب العقول المحدودة، مثل قطب والمودودي، (لم يذكر بن لادن الذي لا يعدو كونه ولدا غنيا يبحث عن مغامرة أكثر منه مفكرا)، هو حقيقة أن أحداً منهم لم يطلع يوما على التراث الفلسفي والأدب الاسلامي الذي كتب بالفارسية والتركية، فقد قرأ المودودي وقطب أعمال الراديكاليين الثوريين بما فيهم الفاشيون، ولم يحاولوا الاطلاع على التراث الاسلامي الخاص فقد اهتما بقشور وكتابات جمال الدين اسد اباد، الذي يعرفه العرب باسم الافغاني، لكن لم يكن بامكانهما قراءة 90% من أعماله المكتوبة بالفارسية. لكن مسعود استطاع ان يصل لمنابع الفارسية والعربية ولم تستغرقه الايديولوجيات الردايكالية الغربية مثل المودودي وقطب. والمؤكد انه لم يدع يوما انه فيلسوف أو ايديولوجي ولم يكن مخططا ارهابيا مختبئا في كهف أو، اسوأ من ذلك، مقيماً في فيلا فاخرة ويأمر الآخرين بالذهاب الى حتفهم في مهام انتحارية. لقد كان رجل فعل، ومحارباً وقائداً مسلماً لحرب عصابات استطاعت ان تهزم واحدة من أقوى الآلات العسكرية التي عرفها التاريخ. والأجمل من كل ذلك انه استطاع ان يحقق انتصاره على أرض المعركة ضد الجيش الاحمر، ولم يخطط يوما لهجمات ارهابية على المدنيين العزل في موسكو أو ليننجراد، فلم يكن من الرجال الذين يزرعون القنابل في صالات الديسكو، ثم يختبئون كالفئران.

والمقارنة بين طريقة مسعود وطريقة بن لادن، وأمثاله من الارهابيين، تكشف الفروق بوضوح، فقد حرر مسعود افغانستان عبر حرب مشرفة، لكن بن لادن أتى بالاحتلال الاميركي لافغانستان لاستخدامه غير المشرف للارهاب ضد المدنيين العزل الابرياء.

ومن الواضح ان باري يأمل في أن يذكر مسعود على أنه نموذج المجاهد الاسلامي وليس ذلك الطفل الثري اسامة، الذي لم يغامر يوما بحياته في أي عمل، عدا شرائط الفيديو التي يرسلها للجزيرة، فمسعود لم يرسل القتلة الذين تنكروا في صورة مراسلين تلفزيونيين ليغتالوا بن لادن، ولم يكن يتمتع بعجرفة بن لادن الممزوجة بالخسة.

وكما يقول باري فقد اغضب اسلام مسعود المجاهدين الباكستانيين الذين كان يشجعهم الجنرال محمد ضياء الحق، الذي كان يتحكم في الحركات الاصولية في العالم الاسلامي في الثمانينات، وبعد تحرير كابول ساندت المخابرات العسكرية الباكستانية بكل ثقلها قلب الدين حكمتيار لطرد مسعود من السلطة، لكن حكمتيار فشل في ذلك وسرعان ما اطاحت به قوة جديدة شكلها الباكستانيون وهي طالبان التي استطاعت بعد عامين فقط من القتال ان تطرد مسعود من كابول. لكن انسحاب مسعود البارع من كابول بكل رجاله وعتاده كان نموذجا مثاليا للخطة الذكية، فقد جاء الباكستانيون في قوة هائلة على أمل القضاء عليه في معركة واحدة وللابد، ولم يصدقوا انه قادر على نقل جيش مكون من 30 ألف رجل مع مئات الدبابات والقطع المدفعية والاسلحة الاخرى والمؤن من كابول الى وادي بانجشير في غضون ساعات قليلة.

والحيلة الذكية التي قام بها مسعود تعكس المبدأ الاساسي في حياة رجل عصابات مثل مسعود، فلا تحارب في الوقت الذي يحدده عدوك، وتذكر دائما ان عليك ان تحتفظ بقوة تكفي للقتال في يوم آخر.

ولا يخفي باري انه مفتون بمسعود، فقليلون هم الذين قابلوه ولم يسحرهم، وربما كانت هذه الفتنة سببا لجعل كتاب باري يتجاوز الحدود المقبولة، فلم يكن هناك أي تحليل للاخطاء التي وقع فيها مسعود خاصة بعد أن حرر كابول من الشيوعيين. واعتقد الباحث الاميركي ان انجازات مسعود كافية لعدم توجيه أي نقد لاخطائه، فهو واحد من الشخصيات التاريخية في التاريخ الاسلامي الذي لا يحتاج لتقديم اعتذار . وبالرغم من أن كتاب باري كتب على عجل ليلحق بالذكرى الأولى لـ 9 سبتمبر الا انه مكتوب بطريقة جميلة وممتعة في القراءة واتمنى لو يترجمه أحد الى العربية حتى يتعرف العرب بشكل أفضل على أحمد شاه مسعود.

ومن جوانب المصداقية عند باري انتقاده للسياسة الاميركية في افغانستان بعد تحرير كابول عام 1992، فهو يعرض كيف ساعدت واشنطن طالبان بشكل غير مباشر وغضت البصر عن المطامع الباكستانية الخطيرة في افغانستان . وحاورت شركات البترول الاميركية طالبان على أمل أن تصل بخطوط انابيبها من وسط اسيا الى المحيط الهندي بعيدا عن الاراضي الايرانية، «فما دامت الخدمات السرية الباكستانية تصل الى الملا عمر زعيم طالبان واسامة بن لادن زعيم «القاعدة» وهما في جانبنا فهذا يخدم الخطة الاميركية في المنطقة».

وكما حارب مسعود الشيوعيين الذين يساندهم الاتحاد السوفياتي كان عليه ان يحارب طالبان التي تساندها اميركا وباكستان ولم تدرك اميركا الا بعد 11 سبتمبر 2001 انها ساندت الجانب الخطأ ضد مسعود.

انها قصة حزينة، يرويها ببراعة كبيرة رجل يؤكد حبه لافغانستان في كل سطر كتبه.

* من هم المتخصصون في الإسلام؟

* يرى المؤلف أن الاصولية خطفت الاسلام، ويسرد بعض النوادر الشخصية حول ذلك ففي احدى المرات اتصل به هاتفيا صحافي غربي في منزله بأحد الأماكن النائية بفرنسا وجرت بينهما المحادثة على هذا النحو:

* الصحافي: هل أنت متخصص في الاسلام؟

ـ باري: نعم.

* الصحافي: حدثني إذن عن الشبكات الارهابية في اوروبا.

ـ باري: منذ جيل مضى كان المتخصص في الاسلام هو الشخص الذي درس العقيدة والحضارة الاسلامية عبر أربعة عشر قرنا من التاريح بتمعن، وهو الشخص الذي تعلم ثلاث أو أكثر من اللغات والاداب، وهو الشخص الذي فهم عددا متنوعا من المجتمعات تمتد من المغرب حتى ماليزيا،وهو الذي يولي عناية خاصة بالأمور الروحية والعقائد المقارنة والتاريخ الثقافي دون ان يغفل بالطبع القضايا المعاصرة المختلفة. لكن اليوم أصبح المتخصص في الاسلام هو الذي يأتي سريعا محملا بخرائط ورسومات عن شبكات المصابين بالاضطرابات العقلية والقتلة لتنشرها بالوعات الصحافة، مع بعض الاقتباسات لبعض الهامشيين المعاصرين من الذين يطلق عليهم اسم «المفكرون الاسلاميون».

* مسعود: من الاسلاموية

* الى الحريةالمؤلف : مايكل باري

* الناشر: اوديبرت،باريس