كتاب مجهول لمعروف الرصافي يبحث في السيرة النبوية

جامعة هارفرد حصلت على نسخة من كتاب الشاعر العراقي في الثلاثينات، ويصدر الآن بعد سبعين سنة من كتابته

TT

ليس هناك أكثر من اهتمام المؤرخين والباحثين في السيرة النبوية، فمنذ زمن أبي بكر محمد بن اسحاق (ت 151هـ)، وعبد الملك بن هشام المعافري (ت 213هـ) والكتب تحبر في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فظهرت السيرة في تاريخ الطبري (ت 310هـ)، وفي تواريخ مَنْ عقبه من المؤرخين كالمسعودي وابن الاثير وابن خلدون، ثم ظهرت السيرة الحلبية لعلي بن ابراهيم الحلبي (ت 1044هـ)، وأصل الكتاب هو «انسان العيون في سيرة الأمين المأمون»، وما كتبه محمد حسين هيكل (ت 1956هـ) في «حياة محمد»، ويكاد لا يخلو كتاب من كتب الطبقات وقصص الانبياء وكتب التفسير والانساب من السيرة النبوية، لكن ما كتبه معروف الرصافي في «كتاب الشخصية المحمدية» أو «حل اللغز المقدس» (دار الجمل 2002) تجاوز «فترة التكوين في حياة الصادق الأمين» و«شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة» لخليل عبد الكريم و«محمد» للباحثة البريطانية كارين ارمسترونج، وما كتبه المستشرقون من القرون الوسطى ولحد الآن، بين منصف ومجحف.

نقول تجاوزها، لأنه كتاب شامل، صريح العبارة لم يلجأ الى التأويل والتبرير والى الايماءة لأجل التقية، ولم يكن مجحفا في سرده للسيرة النبوية من أجل مخالفة المألوف، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وقف عندها، كما تعقب أثر الوحي في كل آية وحدث، داخلا في أحوال نزوله، وما تجمع من معلومات لمواجهة الحدث المستجد بوحي من السماء قد يعترض على النبي والصحابة، وقد يكون العكس، ذلك ان كل آية لها أحوالها وأسباب نزولها.

اشتهر معروف الرصافي (1875 ـ 1945) كشاعر، حتى عرف هو وجميل صدقي الزهاوي بحزبيهما وخلافاتهما، واحتفالات مصالحتهما بحضور أنصار كل منهما، وعرف بمعاندته للحكم حتى اضطر الى بيع السجائر على ارصفة بغداد، وهو في العهد العثماني كان عضوا في (مجلس المبعوثان)، وفي بداية القرن العشرين كان مدرسا بمدارس القدس، وهو القائل في دستور ذلك العهد، وليته عاش لهذا الزمن فما عساه ان يقول! وما حفظناه من شعره في المقرر الدراسي في العهد الجمهوري:

علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف كنا نسمع هنا وهناك أن الرصافي كان مهتما بحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وله رأي مغاير عما كتبه الآخرون، لكن ذلك ظل سراً، ولا أحد يعلم مصير ما كتبه وانجزه عام 1933، وظهر فيما بعد ان جامعة هارفرد حصلت على نسخة من مخطوط الرصافي، ونشرته بنسخ محدودة الانتشار جداً، حفظ واحدة منها السياسي العراقي كامل الجادرجي، لتصدر في هذا العام عن دار «الجمل»، في كتاب استغرق 766 صفحة من الحجم الكبير، والذي يقرأ الكتاب يتنازع في داخله الرصافي الشاعر والرصافي المؤرخ والباحث.

إن قراءة كتاب الرصافي قد تدفع الى اعادة النظر في ما كُتب في المرحلة النبوية، من الولادة وحتى الوفاة، فابن اسحاق وان كتب بتوجيه، أو بموافقة من ابي جعفر المنصور، الا ان سيرته حسب الرصافي تعرضت الى التشويه، على يد ابن هشام، لذا لم يقم الرصافي للتاريخ المكتوب وزنا رغم انه اعتمد السيرة الحلبية، وهي من الكتب المتأخرة جداً على السيرتين المذكورتين، وكم كانت كتابات خليل عبد الكريم ناقدة لكتب التاريخ، وهو الازهري، لكنها تبدو هادئة وتوفيقية اذا ما قورنت بما كتبه الرصافي وما توصل اليه من نتائج ازاء الروايات.

ولعل رأي الرصافي السلبي في كتابة التاريخ جعله يستغني عن مصادر كثيرة، ويعكف على التحليل المدعوم بالبرهان العقلي، فقد كتب تحت عنوان «للحقيقة لا للتاريخ» ما نصه: «باسم الحقيقة المطلقة اللانهائية، وبعد فقد كنت اكتب للتاريخ، وكنت احسب للتاريخ حسابا، واجعل له منزلة يستحق بها ان اكتب». وقال ايضاً: «ولئن ارضيت الحقيقة بما اكتبه لها لقد اسخطت الناس عليّ، ولكن لا يضرني سخطهم، إذ أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليّ، وعلى قلوبهم اكنة من بغضهم إياي... فإن كنت في قيد الحياة فسيؤذيني ذلك منهم، ولكن سأتحمل الاذى في سبيل الحقيقة، وإلا فليس لي ان أهتف باسمها، ولا ان ادعي حبها كما يدعيه الأحرار، وإن كنت ميتا فلا ينالني من سبابهم خير، كما لا ينالهم من خير، فإن سب الميت، لا يؤذي الحي ولا يضر الميت، كما قال محمد بن عبد الله عظيم عظماء البشر» (5 تموز 1933).

وها هو الكتاب يصدر بعد انجازه بسبعين عاما، وبعد وفاة الرصافي بسبع وخمسين سنة، ولم يترك ورثة يؤذون بسببه أو ينتفعون من ريع الكتاب، فقد عاش ومات وحيدا معتزلا، ولخصومته مع السلطات اضطر الى بيع السجائر على الارصفة، كما قلنا، حاله حال الصبيان المشردين.

الكتاب بمجمله كان نقدا وتهذيبا للرواية التاريخية، وما لحقها من خرافات جعلت السيرة النبوية خارج المعقول، وبهذا وضع الرصافي الدعوة الاسلامية بحدودها الدينية والاجتماعية. وكانت الغاية، حسب الرصافي، «من الدعوة الى الله أو من النبوة ليست بدينية محضة، بل يريد ان يحدث نهضة كبرى، أو موجة عربية كبرى تكون دينية اجتماعية سياسية، يقوم بها العرب في بدء الامر على ان تكون لهم السيادة فيها على غيرهم من الناس، ثم يكون نفعها عاماً شاملاً للناس اجمعين» (ص 27).

كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقرب الصورة لقريش ويخط لهم اتجاه الدعوة وهم سيواجهون قوة وكنوز كسرى وعرشه، وقد تذكروا ذلك بعد عودتهم بالغنائم من العراق، غانمين قناطير الذهب والفضة وبنات كسرى الثلاث، وقد آذاهن الأسر، فخفف عنهن بالقول «اكرموا عزيز قوم ذل» بمشورة الامام علي بن ابي طالب رضى الله عنه، فجعل الرصافي هذا الموقف وشيجة تاريخية بين التشيع وبلاد فارس، لكن المعروف ان تلك البلاد تشيعت رسميا في القرن السادس عشر الميلادي، بعد ان تراجعت مصر الفاطمية أمام صلاح الدين الايوبي. وتزوج من بنات كسرى أولاد كبار الصحابة وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن ابي بكر، والحسين بن علي بن ابي طالب.

تابع الرصافي بدقة تحرك المسلمين، وتفاقم أمرهم من قلة ضعيفة بمكة الى دولة تجيش الجيوش وتغزو القبائل والامبراطوريات، راداًَ على أوهام الاخباريين في نقل الاخبار وتفسير المواقف، لافتا النظر الى دور العباس بن عبد المطلب، الذي ظل مشرك الظاهر مسلم الباطن، وهو عكس حالة المنافقين بيثرب تماما، فكانوا يبطنون الكفر ويعلنون الاسلام. فقد ساعد العباس، وهو مع قريش ظاهرا، المسلمين ببدر بمعلومات مهمة.

ومن فصول الكتاب: فصل الحج وتاريخه، وفصل الصلاة وتاريخها عموما، وحروب الرسول، ورايات الإسلام الأولى، كما اطنب عند تفاصيل الدعوة السرية، وحياة أمهات المؤمنين، ونزول القرآن وبلاغته، والذي ينتهي من قراءة «كتاب الشخصية المحمدية» سيرى تأثر الرصافي ببيئته الدينية، ومع ذلك كان يمتلك حرية التعبير، وسينسى القارئ الرصافي الشاعر، ولولا الحرية التي اجلها الرصافي ما كان ليأتي بهذه فيصل ما كتبه الى ذهن القارئ عبر حروف سلسة الصياغة عميقة المعنى، مستلهما من سلفه صاحب «لزوم ما لا يلزم» الكثير، فكان هو الآخر مثيرا للجدل، لا شعرا بل نثرا، فقد دعاه في استشهاداته به بشاعر البشر وشاعر الحقيقة.

* كتاب الشخصية المحمدية

* المؤلف: معروف الرصافي

* الناشر: دار «الجمل» 2002

* عدد الصفحات: 766 من الحجم الكبير