هل كانت «الكويت» كلمة السر في مصرع ملوك العراق؟

يعتمد كتاب «الملك فيصل الثاني آخر ملوك العراق» نظرية المؤامرة في معظم فصوله ويبقي بعض الأسرار على غموضها

TT

على قلة الكتب التي ارخت لنظام الحكم والعائلة المالكة في العراق ونهايتها المأساوية المعروفة، فإن الآراء المتضاربة والمتضادة والمتناقضة احيانا بين كتاب وآخر، تكاد لا تنتشل القارئ المحايد من متاهة الا لتلقيه في متاهة أشد التباسا وعتمة.

يقينا، لا يمكن اتهام الكتّاب الذين أرَّخُوا لفترة الحكم الملكي في العراق بعدم النزاهة او هزال الشعور الوطني او الابتسار المخل، الا ان الافتقار الى وسائل البحث العلمي الدقيق وابعاد نظرية التحليل والاستقراء وضمور او شحة اللقاءات التدوينية الجادة مع صناع الحدث ساعة الحدث وعدم ربط الاسباب بالنتائج بحيدة علمية، بموضوعية وتجرد، كل ذلك لا بد ان يلقي بظلاله الثقيلة على من يكتب وما يكتب.

معظم الكتب اما مع او ضد، فقد قرأنا عن نوري السعيد وطنيا مخلصا، بعيد النظر، داهية.. الخ، وقرأنا عنه انه خائن وعميل واداة بيد الدوائر الاستعمارية، احيانا، يكون الوصي، حكيما، دمثا، اصيل الرأي، واخرى لاهيا، مقامرا زير نساء ضحى بملك ومملكة واستمرأ الجلوس على العرش ملكا غير متوج. وقد نقرأ عن الملك غازي، قوميا غيورا، عدو الاستعمار، متزنا، ثم نقرأه في مكان آخر متهورا وطائشا، لا يخلو من رعونة، يعوزه النضج السياسي والبصيرة البعيدة المدى.

لا يتخلى هذا الكتاب في معظم فصوله عن اعتماد مبدأ نظرية المؤامرة وتطبيقها على ما جرى للعراق وكأنه لا يرضى عنها بديلا.

فحين انست سورية للملك فيصل الاول والتف حوله السوريون يعاضدونه، انتزع منها في الوقت العصيب، وارسل للعراق ليملك لا ليحكم، ولما احسوا تململه عربيا وقوميا، مات حتف انفه في احد مستشفيات الغرب.

بل ان المؤلف، وهو يستقي معلوماته من اكثر من مصدر! يؤكد دون لبس ان مقتل الملك غازي لم يكن صدفة ولا قضاء او قدرا. وان اختيار عبد الاله وصيا على العرش ـ دون الامير زيد او الملك عبد الله او حتى مجلس وصاية من رجالات العراق ـ هو الآخر لم يجئ عبثا ولا بضربة حظ الامير. ويذهب المؤلف لأبعد من هذا فيورد ان فكرة خلع الملك غازي او التخلص منه بحثت على اكثر من صعيد حتى 77 وكانت سابقة على مصرعه بأعوام. ولطالما نوقشت في الدهاليز السياسية الخلفية، سواء من قبل بريطانيا او رجالات العهد الملكي وعلى رأسهم نوري السعيد، الذي دمغ بسياسته المعلنة والمضمرة معظم اوراق العراق الحديث، وحضوره الطاغي، المخضرم منذ اول ايام تأسيس المملكة وحتى آخر يوم من عمرها القصير.

لقد عكست مواقف الملك غازي ـ الحاسمة ـ من الآشوريين، ومن انقلاب بكر صدقي، ومن تبنيه لحركة الفتوة واحتضانه لاراء الضباط الشباب من المعارضين للوجود البريطاني في العراق، ثم مطالبته الصريحة باسترجاع الكويت ثم ظهور ملامح توجهه نحو دول المحور.. كل تلك القضايا عكست مواقف غير مقبولة من جانب السلطات البريطانية من 75. ويعدد المؤلف المحاولات التي جرت لابعاد الملك غازي عن سدة الحكم ويتطرق الى حبكة الرواية حول الوصية المزعومة للملك غازي وهو يلفظ انفاسه الاخيرة. ثم يعرض لمواقف سيطرة الوصي على الملك طفلا ويافعا وملكا متوجا، وابعاده عن تأثير العناصر الشابة الوطنية للحيلولة دون تكرار تجربة والده، وتصويره مسلوب الارادة وعديم الثقة بنفسه لدرجة يسمح فيها بالتدخل في اخص خصوصياته كالزواج، فقد ارتأى نوري السعيد ان يقترن الملك باحدى كريمات الملك المغربي لتمتين الاواصر بين الدولتين، ولتطويق حركة الرفض العربي لحلف بغداد ومحاولة جر دول المغرب لتأييد الحلف، وحين جوبه طلب الخطوبة بالرفض، كان نوري السعيد وراء اختيار عروس تركية، اطلق عليها اسم الاميرة فاضلة قضى الملك نحبه قبل موعد لقائه بها بأيام معدودات.

لم يدخر المؤلف وسعا في الاحاطة بالجوانب الضرورية لمثل هذا الكتاب، فبعد ان يورد تخطيط شجرة العائلة الهاشمية ونبذة عن الاحداث التي حاقت بالشريف حسين وتمرده على الاتراك ومن ثم الانجليز والتعريف بابنائه وادوارهم وملابسات تنصيبهم على عروش الاردن وسورية والعراق، وانتقال التاج الى الملك غازي وظروف نشأته والعوالم التي شكلت شخصيته والمحن التي ظهرت بعد مصرعه، ثم يعرج على الملك فيصل الثاني، فيستعرض مراحل نشأته وتربيته وأثر رحيل امه المبكر عنه، ويسمي بعض اساتذته ومدارسه في بغداد وبريطانيا ويشير الى صفحات من معاناته، وتشظيه بين رغباته الوطنية ورغبات المحيطين به من ساسة ومستشارين، كما يذكر عددا من هواياته، اضافة الى مجموعة من الصور النادرة التي حفل بها الكتاب، ولا يتوقف المؤلف عند المجزرة، انما يورد بعض التفاصيل عما حدث قبيل واثناء وبعد الثورة وما سبقها من تحذيرات الملك الحسين بن طلال باحتمال قيام ثورة في العراق واستهانة رئيس اركان الجيش بالتحذيرات. كذلك استعرض مواقف وآراء رجال ثورة 14 تموز حول تصفية الملك الشاب او الابقاء على حياته، ونفيه وارغامه على التخلي عن العرش.

قد يؤخذ على بعض الفقرات، ورودها كحقائق لا يرقى اليها الشك، في حين اهمل المؤلف اسنادها ـ في المتن والحاشية ـ الى المنابع الموثوقة التي استقى منها المعلومة. وقد لا يكفي ـ سيما في كتب مهمة كهذه ـ ايراد المصادر في اواخر الكتاب، كونها لا تعطي المعلومة الواردة في السياق حقها او مصداقيتها. الكتاب الذي يبدو انه اقر بنظرية المؤامرة ولو ضمنا ولو تلميحا دون تصريح، يتشبث بالنظرية حتى آخر رمق منه.

فهل يمكن الركون لمبدأ الصدفة او سوء الحظ فيما جرى في الرابع عشر من تموز؟ كان الملك يزمع السفر في 7 تموز الى تركيا ثم الى لندن للقاء خطيبته، لكن سفره ارجئ ليومين (ص 235) ريثما يتم توقيعه على قانون توحيد النقد في الاتحاد، وقال الملك ـ مرغما وعلى مضض: حسنا سأتأخر ليوم 9 تموز، وفي اليوم الثامن من الشهر، وردت برقية من شاه ايران الذي كان يزور الولايات المتحدة آنذاك، يذكر فيها انه قابل الرئيس ايزنهاور، ولديه بعض المعلومات يرغب في ابلاغها لاعضاء الحلف ولانه سوف يمر بتركيا في طريقه لايران، فقد طلب في برقيته تأجيل اجتماع الحلف من 9 إلى 14 تموز (ص 236) بذلك يكون سفر الملك قد تأجل مرتين ليضمن وجوده في القصر صبيحة ذاك اليوم الحاسم.

لم تشكل هيمنة السرد التقليدي عائقا يحول دون القارئ وتمتعه بالمعلومة التاريخية او الارشفة الوثائقية التي حواها الكتاب من صور فوتوغرافية ونصوص، انما يؤخذ على الكاتب انه مر على بعض التفاصيل دون ان يفيها حقها من المتابعة والدرس، بل تركها لغزا مبهما على القارئ ان يفضه بنفسه ومنها مثلا ـ لا حصرا ـ ما جاء في الصفحة 224 نصا:

ـ عند العشية ـ يقصد مساء 13 تموز ـ خرج الملك لشرفة قصر الرحاب لتناول الشاي مع خاله عبد الاله وخالته الاميرة عابدية والاميرة بديعة والشريف حسين والاميرة هيام وكذلك صديقتين من انسباء احد كبار الضباط. وفيما هم يتحادثون ويسمرون، لاحظوا سيارة «فولكسفاكن» آتية من جهة المدينة فتوقفت قليلا امام مدخله ثم دخلت ووقفت قرب الباب الرئيسي وترجل منها ضابط يقودها وما لبث ان دخل مرافق الامير عبد الاله يحمل مغلفا قال ان الضابط الوافد جاء به، فسلمه الى الملك ففضه واخرج منه بطاقة. تأمل الملك البطاقة فلم يبد على وجهه اي رد فعل، لقد كان على حداثة سنه معروفا بقدرته على ضبط اعصابه، لكن الملك ظل يتأمل بالبطاقة اكثر من دقيقة، وصمت الجميع ينتظرون، وما لبث الملك ان ناول البطاقة الى خاله، فقرأها هذا بسرعة وفجأة تبدل وجهه، فعلاه الاصفرار وارتجفت يده بينما مسح بالاخرى شعره بعصبية ظاهرة، ثم تطلع الى الملك فيصل ونهض قائلا:

ـ اعذروني.

دخل الامير البهو حيث اتصل هاتفيا بمدير الامن العام ثم استأذن من الحضور قائلا:

ـ انا مضطر للذهاب.

وشوهد الامير ينزل ـ سلالم القصر ـ ويصعد وحده بسيارة الفولكسفاكن الى جانب سائقها الضابط ويغادر القصر باتجاه طريق المطار.

وساد الحضور الانقباض ولكن الملك قال: هيا بنا نشاهد فيلما. وعلى الاثر توجهوا الى قصر الزهور حيث شاهدوا فيلم «لعبة البيجاما» من تمثيل دوريس داي، وعادوا من مشاهدة الفيلم عند الساعة العاشرة تقريبا، وتناولوا العشاء فوافاهم الامير عبد الاله الى المائدة، لكنه لم يفتح فمه طيلة الوقت، بل كان واجما قلقا.

ينتهي الفصل عند هذا الحد ليبدأ فصل جديد آخر عن 14 تموز.

فماذا كان في تلك الرسالة؟ ومن هو حاملها وممن؟ واذا كانت من الخطورة بحيث اصفر لها وجه الوصي وارتجفت يداه، فلماذا لم يأخذ الحيطة ويبعد الملك بأن يجليه عن القصر؟ او حتى يستنفر قوات الحرس والحماية تحسبا لأمر مجهول؟ ولماذا تركت هذه المعلومة المهمة دون اشارة لمصدر او تلميح لمرجع؟ وهل كان الملك فيصل من الغفلة ليتجاهل موضوع الرسالة ويفضل عليها مشاهدة فيلم لدوريس داي؟

هذه الملاحظات، القابلة للتلافي في الطبعات اللاحقة، لا تنتقص من قدرة المؤلف ولا تقلل من اهمية الكتاب ولا الجهد الدؤوب المبذول باعداده ووضعه امام القارئ العربي، والعراقي على وجه الخصوص بعد ان صارت العائلة المالكة في ذمة التاريخ واصبح التاريخ في ذمم من يكتبونه.

* الملك فيصل الثاني

* آخر ملوك العراق

* المؤلف: د. لطفي جعفر فرج

* الناشر: الدار العربية

* للموسوعات ـ 2001