مؤلف كندي يحاول أن يناسب الأفارقة مع اليهود

صحيفة كندية تقول إن موقعا خاصا في الجنة أصبح الآن محجوزا لكُتّاب من أمثال هنري أوبن

TT

يحاول كتاب «إنقاذ أورشليم ـ التحالف بين العبرانيين والأفارقة في عام 701 قبل الميلاد» الذي صدر في كندا مؤخرا عن دار نشر Doubleday Canada للصحافي الأميركي المقيم في مونتريال هنري أوبن Henry Aubin أن يبني فرضية أن الجيش الآشوري بقيادة سنحاريب في عام 701 قبل الميلاد، والذي احتل جميع مدن ساحل المتوسط في فينيقيا وفلسطين واستقر في مدينة لاكيش ثم حاصر أورشليم، تقهقر أمام جيش مصري «كوشي» مؤلف من زنوج نوبيين بقيادة الفرعون ترهاقة الذي، وفقا لمؤلف الكتاب، هب لنجدة اليهود وفتك بالجيش الآشوري وأرغمه على الانسحاب وفك الحصار عن أورشليم. وبذلك، والكلام ما يزال للمؤلف، انقذ اليهود من الانقراض.

ويستند هنري أوبن في اختلاق هذه الفرضية إلى ثلاثة مصادر في التوراة (سفر اشعياء وسفر الملوك وسفر الأخبار) التي تورد قصة حصار سنحاريب لأورشليم وعدم تمكنه من احتلالها، لأنه في تلك الليلة، حسب التوراة، خرج ملاك الرب وقتل من عسكر آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا. ويعتقد أن كلمة «مالاخ» أي الملاك التي تحمل بالعبرية معنيين، الملاك والرسول أو المبعوث، يقصد بها الرسول او المبعوث الذي ليس إلا ذلك القائد أو الفرعون ترهاقة الذي يرد ذكره في التوراة أيضا بأن سنحاريب سمع أنه خرج ليقاتله.

ويمضي المؤلف الذي يعمل صحافيا في جريدة The Gazette اليومية الصادرة بالانجليزية في مونتريال، في بناء فرضياته ويقول في مقدمة كتابه انه مقتنع بأن الأفارقة السود انقذوا بهذه المأثرة البطولية التي لا مثيل لها في التاريخ، الشعب اليهودي من الفناء والانقراض، ولولا ذلك لما كانت قد ولدت الديانتان المسيحية والإسلام، ثم «لما كانت اسرائيل ظهرت إلى الوجود من جديد».

ويزعم الكاتب أن الأحداث المفترضة هذه التي يتحدث عنها كانت موجودة في النصوص التاريخية حتى أواخر القرن التاسع عشر. إلا أن علماء التاريخ الغربيين شطبوها من المدونات التاريخية تزامنا مع الاستيلاء على افريقيا واستعمارها.

وللتأكيد على صحة هذه الافتراضات يعتمد مؤلف الكتاب على تحليل مصادر منتقاة تخدم غرضه ليفترض ما يشاء بينما يتغافل عن حقائق المدونات التاريخية ولا سيما الحوليات الآشورية ودراسات المؤرخين الثقاة عن تلك المرحلة.

في الحقيقة أن معظم المصادر التاريخية المعروفة في هذا الشأن بما فيها اليهودية لا تؤكد مزاعم مؤلف الكتاب وفرضيات المشوشة، ولا تشير إلى أي أساس لها، عدا إشارة واحدة من التوراة ضمنا إلى أن حزقيا قد طلب العون فعلا من مصر، استنادا إلى انتقاد اشعيا له على ذلك واتهام الوفد الآشوري المفاوض لحزقيا عن لسان الملك بانه اتكل في عصيانه عليه على «عكاز هذه القصبة المرضوضة» وتشير التوراة إلى أن المقصود بها مصر «التي من إتكأ عليها نشبت في كفه وثقبتها» (سفر الملوك الثاني 18/21). وتذكر لنا كتابات سنحاريب على جدران قصره في نينوى ضمن اخبار حملته على فلسطين أنه فعلا واجه جيشا من المصريين والأحباش وانتصر عليه قبل احتلاله لأكيش وارسال جيشه لحصاره أورشليم، وليس بعد ذلك كما يدعي أوبن. من جهة اخرى كان ترهاقة فرعوناً من السلالة الخامسة والعشرين، ومن اصل حبشي (وليس نوبياً كما يذكر المؤلف) ومن هنا لقبه «ملك كوش». ووفقا لحواشي ترجمة اورشليم الفرنسية للكتاب المقدس التي نقلت منها المكتبة الشرقية في بيروت طبعتها العربية (ص 713) فإن ترهاقة المولود في عام 715 قبل الميلاد حكم من 690 إلى 664 قبل الميلاد، ولم يكن ملكا في السنة 701 قبل الميلاد، ولم يكن في سن يمكنه من قيادة جيش (كان عمره 14 عاما فقط بينما يذكر أوبن أن عمره كان 20 ـ 21 عاما حتى يجعله مؤهلا لقيادة جيش). وهناك افتراض أن الرواية التوراتية التي تأتي على مجرد ذكر اسم ترهاقة تضع جنبا إلى جنب رواية حملتين قام بهما سنحاريب، الأولى في 701 قبل الميلاد وهي تروى في حولياته، والأخرى في 689 ـ 688 قبل الميلاد وهي غير مذكورة في أية وثيقة آشورية، وإن لم يسلم إلا بحملة واحدة في السنة 701 ق.م، فمعنى ذلك، والنص لحاشية الكتاب المقدس الفرنسية، أن ذكر ترهاقة خطأ يعود إلى شهرته بأنه فاتح عظيم.

أما بالنسبة لملاك الرب الذي قتل من عسكر آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا فتقول حاشية الكتاب المقدس الفرنسية الأصل «إن العسكر أبيد بضربة من عند الله، لربما كان الطاعون». وترشدنا الحاشية نفسها (ص714) إلى آيات من سفر صموئيل الثاني التي تقول «فبسط الرب الطاعون في اسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل وبسط الملاك يده إلى أورشليم ليدمرها، فندم الرب على الشر وقال للملاك المهلك الشعب: كفى، فكف الآن يدك»، أي أن الطاعون اصاب مناطق خارج أورشليم فأوقفه الرب عند أبواب المدينة. ويؤكد بيروزيوس في «العصور اليهودية القديمة» وإل. دولابورت في «ميزابوتاميا ـ حضارة بابل وآشور والكثير من المؤرخين القدامى والجدد رواية الطاعون، بينما يعتبر هيرودوتس سبب الوفاة «قطيع من الفئران القارضة». ثم إن اسم ملاك، بالعبرية «مالاخ» ليس تسمية لطبيعة المسمى كما يحاول المؤلف تفسيرها لغويا، انما تسمية لوظيفة تعني الرسول. فالملائكة حسب الكتاب المقدس هم «ارواح مسخرون للخدمة يرسلون من أجل خير الذين يرثون الخلاص» (عبرانيين 1: 14) وليس هناك أي مجال لجعلهم بشرا حقيقيين.

ارتباطا بذلك لا يعير أي من المؤرخين اهمية لرواية التوراة عن ملاك الرب، فيؤكد المؤرخ المتخصص بالآشوريات هنري ساغس في كتابه «جبروت آشور» أن «حزقيا دفع الجزية كعلامة خضوع فنجت أورشليم بأعجوبة كما يزعم النص التوراتي، ولكن النظرة المتزنة تثبت أن ذلك حصل حين أصبحت عودة الجيش الآشوري إلى بلاد الرافدين إلزامية بسبب تدهور الوضع في بابل، لأن مردوخ بلادان كان يحيك هناك الدسائس بغياب الجيش الآشوري» (ص 153). ومن المنطقي أن نتساءل هنا: إذا كان ترهاقة قد دحر الجيش الآشوري فكيف تمكن سنحاريب أن يأخذ جزية كبيرة من حزقيا الذي توجب عليه أن يقدم «ثلاثين طالنت من الذهب وثمانمائة من الفضة وكل اصناف الكنوز الثمينة إضافة إلى بناته وحريمه وموسيقييه من الإناث والذكور» وحتى نهاية الحكم الآشوري كما جاء في حوليات الملك سنحاريب؟

وهناك عشرات الأمثلة والشواهد التاريخية الأخرى والاثباتات التي تفند الفرضية التي اختلقها مؤلف الكتاب وخصص لها 464 صفحة وغلافاً سميكاً في طبعة أنيقة لا يسع لها المجال هنا.

لكن ما أود الإشارة اليه هو أن الكتاب الذي من المفروض أن يصنف كبحث تاريخي، كُتب بنزعة سياسية آيديولوجية ودعائية بعيدة عن الامانة العلمية، وغايته أن يثبت لمأرب في نفس يعقوب صلات لا وجود لها اصلا بين الأفارقة السود واليهود تاريخيا. وأن الأفارقة السود أنقذوا اليهود من الفناء الذي كان يحدق بهم بسبب الخطر الآشوري القادم من الشرق، من العراق، بما معناه أن هذا الشعب المهدد أيضا بالفناء في الوقت الحاضر على أيدي العراقيين أنفسهم لا بد أن يهب رسول أو ملاك آخر من الرب لينقذهم، ولهذا بدأ الكتاب الصهاينة يطبلون ويزمرون للكتاب في كندا حال صدوره، فخصصت The Gazette المونتريالية المتعاطفة معهم نحو صفحة كاملة لعرض الكتاب من قبل بيري ليفي استاذ الدراسات اليهودية وعميد كلية الدراسات الدينية في جامعة ميكجيل والذي أطرى عليه واعتبره عملا جريئا في الدراسات التوراتية، إضافة إلى نشر فصل كامل من الكتاب على صفحاتها، بينما كتبت جريدة «غلوب أند ميل» التي توزع في عموم كندا «ان موقعا خاصا في الجنة أصبح الآن محجوزا لكُتّاب من أمثال هنري أوبن، أولئك القادرين على التعامل بحق مع القضايا والأحداث الكبيرة»، لتكتمل بذلك قواعد اللعبة من تشويه للتاريخ وبناء فرضيات على اوهام ووفقا للوصفة السياسية المطلوبة.

* إنقاذ اورشليم: Rescue of Jerusalem

* المؤلف: هنري أوبن

* الناشر: دبلداي كندا Doubleday Canada