الشعراء حلموا بقصيدة النثر طويلا قبل أن يجرؤوا على كتابتها

هاشم صالح

TT

لا تزال قصيدة النثر تشغل الباحثين والنقاد في فرنسا على الرغم من ان عمرها يقارب القرن ونصف القرن في ثقافتهم. وهذا يعني انها حدث في تاريخ الشعر او جرح او قطيعة لم تهضم ولم تستوعب إلا بعد مرور فترة طويلة ككل قطيعة ثورية. بالطبع فإن الشيء الذي ساعد على رسوخها او بالاحرى شرعيتها هو انها كتبت من قبل شعراء كبار لا يشك احد في قدرتهم على الشعر المنظوم:

من امثال بودلير او فيرلين او مالارميه او بالاخص آرثر رامبو. وحتى لوتر يامون الذي لم يكتب قصيدة موزونة واحدة في حياته من يستطيع ان يشك في شاعريته؟

يناقش هذه المسألة ومشاكل اخرى عديدة كتاب صادر في باريس مؤخرا. ومؤلفه هو جوليان روميت استاذ الادب الفرنسي في جامعة «تولوز» وهو يستعرض فيه منذ البداية الاسباب التي ادت الى ولادة قصيدة النثر. يقول بما معناه: في كتابه «امثال من الجحيم» يقول الشاعر الانجليزي ويليام بيك بان يقينيات اليوم هي احلام الامس. فالشيء يبتدئ كحلم اولا وبعدئذ يتحقق. ويبدو ان الشعراء حلموا بقصيدة النثر لفترة طويلة قبل ان يتجرأوا عليها، قبل ان تتحقق كأمر واقع ويعترف الجميع بشرعيتها، ما عدا بعض «الرجعيين» الذين يحنون الى الماضي باستمرار. وهناك رجعية في الشعر مثلما هناك رجعية في الفكر او السياسة او اي شيء آخر. واكبر دليل على ذلك المعركة التي دارت حول الشعر الحديث او الحر في العالم العربي بعد الستينات.. فقد رأوا فيه انتهاكا للمقدسات، وليس فقط قضية شعرية محضة. فالشكل القديم اصبح مقدسا من كثرة ما تكرس. مهما يكن من امر فإن قصيدة النثر، كما يقول المؤلف، مرتبطة بالحلم. انها مكلفة بالتعبير عن الاحلام الرؤيوية المتعلقة بالحاضر. وقد ساهمت الى حد كبير في تشكيل نظرتنا عن عالم الغد، العالم الحديث، انها بالطبع انتفاضة ضد الاوزان الشعرية المكرورة منذ مئات السنين سواء في الجهة الفرنسية او الاوروبية او العربية.

والواقع ان العالم الحديث الذي ولد في القرنين التاسع عشر والعشرين في اوروبا انعكس في قصيدة النثر وبالتالي فهي استكشاف لفضاءات الحياة الحديثة من خارجية وداخلية.

ففي الخارج هناك المدن الكبرى التي صدمت الشاعر بضخامتها وشكلها الاخطبوطي ومظاهرها الصناعية والتكنولوجية. وفي الداخل هناك فضاءات المشاعر السوريالية او اللاواعية التي عبر عنها افضل تعبير هنري ميشو. انظر ديوانه: «فضاءات الداخل» او «فضاءات في الداخل»..

ويرى المؤلف ان الطابع المتمرد والاستكشافي لقصيدة النثر هو الذي جعل منها الشكل الاكثر حرية للتعبير الشعري، ولكنه شكل متزعزع، غير مستقر. انه شكل فردي يخص كل شاعر على حدة. وبالتالي فهناك قصائد نثرية مختلفة بقدر ما هناك من شعراء. ولذلك فلا ينبغي التحدث عن قصيدة النثر، وانما عن قصائد النثر. فكل شاعر يمارسها على طريقته الخاصة.

في الواقع انه لا يمكن اختزال الشعر الى شكل واحد كما اوهمنا التقليديون. ولا يمكن سجنه داخل الشكل الموزون او المنظوم والمقفى. والدليل على ذلك انه من كثرة ما سجن داخل هذا الشكل اصبح عبارة عن لعبة او حلية او حيلة مملة فعلا. وبالتالي فإن شعراء قصيدة النثر يقولون لك: كل تعبير لغوي يمكن ان يكون شعريا بشرط ان يراعي التناغم الداخلي او الاستلهام الخلاق. وسجن الطاقة الشعرية داخل الوزن التقليدي مثل العاطفة ويخنق الابداع. بهذا المعنى فإن الشعر الموزون المقفى اصبح عقبة في وجه الابداع الشعري. لقد اصبح مصطنعا، متكلفا، لا ماء فيه ولا روح. وكانت الثورة عليه تشبه الثورة على الطقوس الاصولية او الدينية التي كانت تشل الروح الاوروبية قبل التنوير. وبالتالي فهناك تزامن بين الثورتين.

وكنتيجة للانقلابات الفكرية والسياسية والمادية التي حصلت في اوروبا بعد الثورة الفرنسية فإن الشكل الشعري الموروث اصبح يبدو قديماً بالياً. وبالتالي فلا يمكن فصل الحداثة الشعرية عن الحداثة كظاهرة كلية او كليانية. وكما ثار المفكرون على النظام الاقطاعي اللاهوتي القديم واطاحوا به فإن شعراء الحداثة ثاروا على الشكل القديم الموزون واطاحوا به، بل ويقول لك بعضهم بأن العودة الى بعض اشكال الوزن ما كانت ممكنة الا بعد تحطيم هذا الشكل المقدس والجبروتي للشعر. والآن، اصبح بعض الشعراء يمكن ان يكتبوا شعرا غنائيا او موزونا الى حد ما دون ان يخجلوا من انفسهم، لماذا؟ لان هذا الشكل التاريخي لم يعد يفرض نفسه بالقوة او من فوق لم يعد مرتبطا بطابع ارهابي كما كان يحصل سابقا. لقد اصبح شكلا من جملة اشكال اخرى وبالتالي فيمكن التعاطي معه بحرية.

في الكتاب فصل كامل عن انجازات بودلير في هذا المجال باعتباره اول من اخترع مصطلح «قصيدة النثر» في فرنسا ولكن بعده مباشرة يجيء فصل بعنوان: «الثورة الشعرية. اشراقات رامبو». ولكن قبل ان نتوصل الى ذلك سوف نتوقف عند هذا الرد الصاعق والاستفزازي لهنري ميشو على احد الاسئلة التي طرحت عليه:

«انا لست شاعرا، ولا اعرف ان اكتب القصائد، ولا أجد شعرا كثيرا في قصائدي، ولست آخر من يقول ذلك. الشعر سواء كان آهة او ابداعا او موسيقى هو دائما عبارة عن شيء غريب يمكن ان يوجد في اي نوع ادبي. الشعر هو اتساع مفاجئ للعالم..».

اما رامبو فبعد ان كتب «القارب السكران» وبعض القصائد الموزونة الاخرى احس بالحاجة الى الانفلات الكامل من كل قيد او شرط. وهذا الاحساس كان جارفا وتحريريا الى درجة مذهلة. وربما لم يشعر شاعر بهذه الحاجة الى الدرجة القصوى التي شعر بها رامبو. من هنا الطابع الاخاذ والجاذبية التي لا تضاهي لشعره. ففي رسالته الشهيرة التي ينظر فيها للحداثة الشعرية يقول بكل استذة واقتدار: «قلة: ينبغي على الشاعر ان يكون رائيا، رؤيويا».. ثم يعيب على الشعراء الرومانطيقيين الكبار الذين سبقوه مباشرة الى جيل اساتذته، في الواقع انهم ظلوا اوفياء للشكل التقليدي للشعر.

صحيح انه يعبر عن اعجابه بلامارتين ويصنفه في فئة الشعراء الذين رأوا شيئا ما، ولكنه يلومه لانه كان مخنوقا من قبل الشكل القديم المهترئ للشعر الفرنسي. ثم يعيب على فيكتور هيغو، وكان آنذاك في اوج مجده، شيئا مشابها. فشعره كان مثقلا بالمرجعيات القديمة، بالصياغات المكرورة والمستنفدة بالاشياء التي فطست من كثرة ما استخدمت.. لاحظ تعبير فطس، يفطس، ومدى قوته او شحنته الايحائية هنا.

وحده بودلير ينجو من شره باعتباره ملك الشعراء. ولكنه من هنا نلاحظ انه يردف المديح بلكمة خفيفة، عابرة، باعتبار ان بودلير قدم ايضا تنازلات مجانية لهذا الشكل البغيض القديم الذي يشل الشعر.. وحده هو استطاع ان يكون الشاعر الحديث بشكل مطلق. ان اول من تجرأ على الخروج من القفص بشكل كامل والتنفس في الخارج، في الهواء الطلق. في الواقع انه ما عاد بالامكان ان تعبر عن العالم الحديث وكل الانقلابات التي طرأت عليه من خلال الشكل القديم الذي اصبح يثير الضحك او الشفقة او الرثاء.

ولكن هذا لا يعني ان رامبو كان موافقا على كل ما جاءت به الحداثة الاوروبية. فالواقع انه كان يكره الجانب القمعي والطغياني فيها. ثم اكثر ما كان يكرهه هو العقلية النفعية والانانية الضيقة للبورجوازية ـ الفرنسية الصاعدة آنذاك. وبالتالي فشعر رامبو ثوري على كلا الجهتين الشكلية والمضمونية وليس فقط الشكلية. كان مفعما بالغضب والتمرد ويكاد ينفجر به انفجارا. من هنا ايضا الطابع الجذاب لشعره. كان يتحدث عن «البربرية الحديثة» التي تتجلى في مدن صناعية ضخمة كلندن وباريس، حيث يشعر الشاعر بالغربة، بعالم لا شفقة فيه ولا رحمة. وهنا يمكن ان نتذكر وان ضمن سياق آخر ديوان احمد عبد المعطي حجازي:

«مدينة بلا قلب».. وفي قصيدة بعنوان «ديمقراطية» نلاحظ ان رامبو يدين بكل عنف البلدان الاستعمارية والدموية كفرنسا. وكانت قد انتهت للتو من سحق تلك الانتفاضة الشهيرة باسم «كومونة باريس» والتي سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى وملأوا بجثثهم شوارع العاصمة الفرنسية.. ثم كانت تستعد للانخراط في المغامرات الاستعمارية بعد نجاحها في استعمار الجزائر عام 1830.

وبالتالي فرامبو يدين كل ذلك عندما يقول: «نحن نمزق الانتفاضات المنطقية!»، «نحن نجيش الجيوش لخدمة ابشع انواع الاستغلال الصناعي والعسكري».

وكرد على هذه الحضارة البربرية المتوحشة راح رامبو ينضم الى الطرف الآخر: اي الى من يدعوهم العالم المتحضر بالبرابرة او بالمتوحشين!. ففي ديوانه «فصل في الجحيم» راح يجد نفسه في الزنجي المستعمر ضد الانسان الابيض. راح يرفض قيم هذا المجتمع الذي يقدم نفسه كحضاري، ولكنه باسم هذه الحضارة مستعد لارتكاب ابشع انواع الاعمال. والدليل على ذلك كل المجازر التي ارتكبها الاستعمار في البلدان التي فتحها. يضاف الى ذلك ان هذه الحضارة تجارية بلا قلب. كل شيء يباع ويشترى، بما فيها العواطف والمشاعر الانسانية.. وفي الشعر الذي «لا يشترى ابدا» تريد البورجوازية ان تدجنه، ان تقلم اظافره، ان تشتريه بالفلوس.

وبالتالي فرامبو لم يكن متصالحا لا مع الوزن التقليدي للشعر، ولا مع المضمون السائد للعصر. رامبو كان ضد العصر شكلا ومضمونا وكان يحلم بالبعيد، البعيد: بالسفر الى اي مكان، الى لا مكان.

* عنوان الكتاب: قصائد النثر Las Poemes en Prose

* اسم المؤلف: جوليان روميت Julien Roumette

* منشورات: ايلّيبسس. باريس Ellipsas. Paris