مثقفون مزدوجون

فاضل السلطاني

TT

في سنة 1982، على ما نذكر، حين كان الخراب الثقافي العراقي في منتصفه ولم يبلغ بعد حده الاقصى، بالمقاييس العراقية، دعي الروائي الجزائري الطاهر وطار الى مهرجان المربد الشعري، فأجاب في رسالة نشرت في الصحف المحلية الجزائرية بانه لا يمكن ان يحضر مهرجانا ثقافيا يعقد في بلد يضطهد كتابه وشعراءه. كان موقفا شبه يتيم، ضاع، مثل كثير من المواقف الجميلة وسط السعار القومي ضد «العدو الفارسي» في عز الحرب العراقية ـ الايرانية التي اعتبرها صدام حسين فيما بعد فتنة شيطانية.

لم يكن الطاهر وطار ينطلق من موقف ايديولوجي، وانما من منطلق بسيط جدا، لا يحتاج الى كبير ذكاء، وتنظير ممل حول الضمير المهني والانساني: كيف احضر مهرجانا شعريا في بلد خيرة شعرائه مشردون في الأرض، وكيف ادخل بلدا طرد زملائي منه، لا لشيء سوى احترامهم لكلماتهم، التي ندعو الى الحفاظ على شرفها ليل نهار في كتاباتنا وقصائدنا.

هذا الموقف البسيط، غاب تماما عن اذهان كثير من زملائنا العرب، وما زال غائبا للأسف.

فبعد عشرين سنة من كلمات وطار، وبعد ان اكتملت دائرة الخراب تماما، ودارت الدنيا عشرين دورة من الموت العراقي، شد عشرات من الكتاب العرب رحالهم الى بغداد لحضور مهرجان المربد إياه، الذي سيعقد بعد ايام. وذهبوا هذه المرة بخجل اكبر، وصخب أقل. فلم نقرأ قوائم في الصحف، ولا اعلانات في المزادات العلنية، ولا نعرف العدد الحقيقي. ولكن علمنا من احد الزملاء ان الوفد السوري وحده يضم خمسين كاتبا وشاعرا. وقسم كبير من هؤلاء مثقفون بارزون، ومناضلون ايضا من اجل تحقيق المجتمع الوطني، وسيادة القانون، والديمقراطية والتعددية بالطبع. وهم يعرفون بالتأكيد الى اي مأتم ثقافي هم ذاهبون. ويستطيعون هناك وهم يستمعون الى قصائد المديح والانتصار، ان يسمعوا، اذا اصاخوا السمع جيدا، أنات زملائهم في المهنة: صفاء الحافظ، وصباح الدرة، وعزيز السيد جاسم وغيرهم العشرات من الذين لم يخرجوا من السجون التي أفرغت من مجرمي الشوارع.

لم نطلب منهم ان يسألوا عن مصير هؤلاء، ولا ان يفعلوا ما فعله الالماني غونتر غراس في اليمن حين رفض ان يتسلم وساما من الرئيس علي عبد الله صالح، الا بعد ان يأخذ عهدا منه بالسماح بعودة احد الكتّاب اليمنيين الى بلاده. ولن نحدثهم، مرة اخرى، عن المذبحة العراقية المتواصلة لانهم يعرفونها جيدا، ويعرفون ضحاياها جيدا.

من اين تنبع هذه الازدواجية القاتلة عند مثل هؤلاء المثقفين؟ كان الباحث الاجتماعي علي الوردي يحيل ازدواجية الشخصية الى تداخل عناصر البداوة المترسخة في الاعماق مع عناصر الحضارة التي لم تترسخ بعد بحيث تصبح قادرة على ازاحة الاولى. وسرعان ما تطرد هذه العناصر الوافدة من قبل العناصر الاولى عند اي مواجهة، مهما كانت بسيطة، تتطلب موقفا، اجتماعيا كان ام سياسيا ام ثقافيا. وكان الوردي يتحدث بالتحديد عن طبيعة العراقيين في كتابه الشهير «طبيعة المجتمع العراقي». ولم يعمم هذه الظاهرة على المجتمع العربي لانه، كأي عالم حقيقي، كان يتحدث عن المادة الموجودة في مختبره، التي خبرها جيدا.

ووقف ضد هذا التفسير لظاهرة الازدواجية فريقان: اليسار الذي يفسر كل شيء تفسيرا طبقيا، والقوميون الذين يحيلون كل شيء الى الاستعمار. ونعتقد انه آن الاوان لرد الاعتبار لهذه النظرية وتعميمها، ودراستها في مختبراتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، والا سيصيبنا الجنون أمام ظواهر لا نعرف كيف نفسرها. وعلينا الآن ان نعترف بان المثقف العربي، وعذرا على التعميم، مثقف مزدوج العقل والضمير ايضا، بدل قولنا المعتاد ان المثقف ضمير العصر، ومسؤول عن كل جريمة، كما علمنا سارتر في زمن طيب مضى.

وعلينا ان نعتاد على مصطلح «المثقف المزدوج» بدل «المثقف العضوي» الذي اوهمنا به غرامشي، حتى نكون اكثر انسجاما مع انفسنا وحالتنا في هذا العصر العربي الذي نعيش.

في آخر عروضه في مسرح البولشوي، وقف الراقص الروسي الاشهر نجنسكي، وكان في اوج صعوده، صامتا لنصف ساعة امام جمهوره المأخوذ الذي جاء ليستمتع برقصه الأخاذ. ثم قال فجأة:

حسنا، سأرقص لكم رقصة الحرب التي لم تفعلوا شيئا لمنعها.. واختفى للأبد.

وبالطبع ليس كل المثقفين، وخاصة العرب، مثل نجنسكي، ولا احد يطلب منهم ان يرقصوا رقصة الاضطهاد الذي لم يفعلوا شيئا لمنعه. وكل ما مطلوب منهم هو ان يصمتوا في الأقل، ويتركوا الناس تدفن امواتها، ما داموا لا يستطيعون ان يرفعوا اصواتهم ضد الطغيان بنصف ربع القوة التي يرفعون فيها اصواتهم بالتضامن مع «البلد الشقيق»، فلا اكثر وجعا على الضحية من مصافحة قاتلها دليلا على التضامن، ورفع يد جلادها علامة على الانتصار.. حتى لو كان انتصارا على اميركا.