«السندباد» والإثم المحرم

نادر السباعي *

TT

ما تزال صورة «الكتاب المدرسي» طاغية في نفسي، كانت رحلتي مع الكلمات طويلة، لم استطع ان أفسر سر انجذابي اليها. وبعد ان تعلمت القراءة لم يعد الكتاب المدرسي يكفي نهمي لمطاردة سحر الكلمات، لأني كثيرا ما وجدت نفسي ضعيفا أمام الكتاب، خاصة أمام كتاب التاريخ، هذا العشق المبكر له جاء بفضل الخيط السردي للحكاية أو القصة أو الواقعة، في هذه المرحلة من العمر، ارتبطت عندي متعة القراءة مع متعة الاكتشافات: ماذا تعني القراءة بالنسبة لطفل ينمو خياله باستمرار؟

أجد جوابا شافيا في حينها، لأنني كنت أجد نفسي تواقة لقراءة أي شيء. في تلك الايام لم تكن موجودة تلك الكتب المتخصصة للاطفال والفتيان المنتشرة بحلتها الراقية! أذكر المجلة الوحيدة المتيسرة التي تخاطب خيال الطفل آنذاك، كانت مجلة «سندباد» التي يشرف عليها «عادل الغضبان» اذ كانت تصدر عن دار المعارف بمصر. هذه المجلة كنا نتلقفها كل اسبوع، وكنت اقرأها أنا في السر وكأنني أقترف إثما محرما!.

تلك الحكاية، يمكنني ان أرويها الآن، لأنني ما زلت أذكر اليوم الذي ضبطني والدي فيه وانا اقرأ تلك المجلة مستمتعا بحكايات ألف ليلة وليلة، لقد غضب والدي حينما وجد بين يدي «المجلة» بدل الكتاب المدرسي، وعرفت في وقت مبكر همّ الآباء في ملاحقتنا باصرار على التعلم، ولكن ما حصل ان والدي لم يكتف بدوره في التأنيب، بل استعان في طرح شكواه على اكبر ابنائه الذكور وهو مسرور لمكانته كطالب جامعي. ولكن الجواب جاء على غير ما توقع من ابن طامح ايضا ليكون كاتبا مرموقا في قادم الايام، وفعلا اقتنع والدي ذلك الرجل الطيب برأي ابنه، وسارع الى منحي تلك الحرية، وأدى فضل هذا القرار الديمقراطي الى انجاب كاتب آخر في أسرتنا.

لم تستطع الهوايات والرغبات المتعددة التي تغالب حياة الشباب ان تحتل مكانة الكتاب في حياتي! لقد حدد الكتاب مسار حياتي. عندما تركت التعليم المنظم تحت ظروف طيش الشباب، كان الكتاب هو الصديق الحقيقي الذي صحح مسار حياتي حقاً. لقد اعادتني القراءة النهمة التي تعودت عليها الى متابعة تعليمي بعد انقطاع دام سنوات قليلة. وبعد الانتهاء من الخدمة العسكرية نازعني اختياران في تحديد مستقبلي وبلورة شخصي. كنت اتساءل في مراحل تكون الوعي الذي انتمي اليه وهو ينتمي اليّ: ما هو اثر الكتاب على شخصيتي وانا أمارس مهنة حرة تضطرني الى السفر كثيرا لخارج البلاد، ولكن ذلك الارتباط الوثيق مع الكتابة، دفعني الى تلك المحاولات المبكرة لعملية الكتابة. كان الشعور بأن اصبح كاملا يجعلني اعيد النظر في مسارات حياتي العملية. الـظروف الحياتية تقربني تارة من الحياة الثقافية، وتبعدني تارة أخرى. أنا انتمي لذلك الجيل الذي ظهر في أواخر الستينات في مجلة الاديب اللبنانية، ومجلة الثقافة الدمشقية، وكانت محاولاتي متقطعة وخجولة. هناك مفاصل عديدة في حياتي اثرت في عملية القراءة وجعلتني اعيد النظر في كل شيء! ومع تنوع مصادر الثقافة والمرحلة التي نعيشها، وتحت وطأة المتغيرات التاريخية والسياسية التي اثرت كثيرا في الحياة الثقافية ومصير الأمة، توصلت الى قناعة في ضرورة اعادة القراءة، اعادة قراءة كل شيء للمرة الثانية، حتى ركزت على قراءة التاريخ البعيد والقريب!.

* كاتب سوري