كيف تسربت قوائم المتعاونين مع جهاز الأمن الوطني في السودان؟

كتاب «معضلات الأمن والسياسة في السودان» يلقي الضوء على ما يجري في الظل

TT

اخطر قرار اتخذ بعد اعلان القيادة العامة للقوات المسلحة الانحياز للشعب واسترداد الديمقراطية الثالثة في ابريل 1985 تمثل في حل جهاز الامن الوطني. لقد كان قرارا متعجلا وخاطئا في حق امن البلد واهله، وادى الى نتائج خطيرة أقلها، وحسبما نقل مسؤول وقتها، أن جهات بعينها استطاعت في دوامة قرار الحل المباغت الحصول على ملفات بالغة الاهمية، وقيل ان السفارة الاثيوبية بالخرطوم عرفت بقوائم مسؤولين اثيوبيين تعاملوا مع جهاز الأمن الوطني وفور وصولها الى أديس ابابا تم اعدامهم وذلك في عهد الجنرال منغستو هيلي مريام.

كما سجل ان مسؤولا امنيا قدم للسودان وفق اتفاقية امنية مع الجهاز فلما جاء قرار حله سارع المسؤول الأمني بتقديم نفسه كرجل بر واحسان وتحدث للأجهزة الاعلامية باعتباره مهتما بأمر المشردين من ضحايا الحرب من ابناء الجنوب، لقد قدم نفسه وكأنه لا يمت بصلة رسمية الى حكومة بلاده ولولا غياب جهاز الامن والغفلة الأمنية السودانية التي احس بها لما كان ذلك ممكنا، فقد كان مندوبا لجهاز بلاده لدى جهاز أمن الدولة السوداني. ونقل رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي بعد انتخابه كرئيس للحكومة المنتخبة في ابريل 1986 في الاكاديمية العسكرية العليا، ان رئيس حكومة الانتفاضة الشعبية الدكتور الجزولي دفع الله، قال له حين سلمه السلطة «اني اعتذر لكم يا سيادة الرئيس مرتين، مرة عن حل جهاز أمن الدولة، والاخرى عن عدم تسليمك جهازا بديلا»، وقال الصادق المهدي في حديث مؤخرا عن اسباب سقوط حكومته «انه لم يكن لديه قرنا استشعار» ويقصد وجود جهاز أمن كفء.

هذا المدخل اثاره كتاب جريء بتقديمه حقائق واسراراً تتصل بـ«معضلات الأمن والسياسة في السودان»، وقد اعده عميد امن معاش حسن بيومي الذي شغل مناصب قيادية كمدير ادارة الأمن الخارجي، ومدير ادارة التحليل والتقييم وكقنصل عام للسودان في اكثر من عاصمة.

وقد تناول قضايا ووقائع هامة في اثني عشر فصلا بعناوين لافتة منها حاكمية مبدأ المعرفة على قدر الحاجة، الامن بين الافراط والتفريط، ايها السادة فتيات وفتيان الفلاشا الموساد قادمون، مغادرة الصادق المهدي الاستخباراتية، الابتعاد عن الوسطية واعتدال المزاج هما سبب انتكاسات البلاد المتوالية، السودان بين دهاء الافارقة ومشقة العبور من نفق الإيقاد الاستخباري، المعارضة المغتربة بين المفاهيم الأمنية ومبدأ المعاملة بالمثل، انظمة الحكم بين البرمجة الاستخبارية وسيناريوهات التركيع والاطاحة، الحوار الوطني ترف سياسي ام آلية من آليات دعم الوحدة الوطنية، الفجوة بين الخطاب السياسي وبين الممارسة الفعلية، السودان ومصاعب العبقرية السياسية، نظم الحكم الشمولي وحاكمية التدابير الامنية، نظم الحكم بين الشرعية ومقتضيات الامن الوطني، دعوة لاعمار العلاقات السودانية ـ السودانية.

قال المؤلف: ان قضية تهريب الفلاشا من اثيوبيا عبر السودان الى عواصم اخرى ليستقروا في اسرائيل هي خطة حبكتها جهات اجنبية، جانب منها تشويه سمعة جهاز امن الدولة السابق الذي جرى حله في ابريل 1985 تمهيدا لتهيئة الاجواء الداخلية لضربه وتشريده. وكشف ان قرار ترحيل الفلاشا جاء بالموافقة من الرئيس السابق جعفر نميري بالترحيل الى خارج البلاد وليس الى اسرائيل.

ووصف المؤلف الفلاشا بأنها قبيلة اثيوبية الموطن منزوعة عن بقية القبائل الاثيوبية الاخرى مثل الأمهرا والتغراي والأتواك وهي يهودية الديانة معزولة اجتماعيا ومنهكة صحيا وخاملة سياسيا ولا توجد مرجعية عن الاصول الحقيقية وان اسرائيل عمدت بأساليب كثيرة لنقلهم اليها ليستقروا بها، وان شباب الفلاشا من الجنسين يستخدمهم الموساد في افريقيا بوجه عام، وعلى الحدود السودانية بوجه خاص حيث يستفاد من سحنتهم الافريقية في مهام واغراض استخبارية. وتناول الكتاب الجوانب الاستخبارية في عملية مغادرة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي لمنزله بامدرمان ثم للسودان ووصوله عبر الحدود المشتركة الى اريتريا، وتم ذلك في اطار تمويه وبدون علم الحكومة.

وعن الملابسات التي صاحبت الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بنظام الرئيس السابق جعفر نميري كشف المؤلف: انه تم استدراجه اي نميري الى خارج البلاد (الولايات المتحدة) في مارس 1985 وعادة ما يتم ذلك من اجل تهيئة المسرح الداخلي والرأي العام الخارجي لتقبل التغيير الذي سيحدث بأقل قدر من المخاطر والانفلات المدني، وقد استخدم اسلوب الاستدراج مع رئيس غانا الدكتور كوامي نكروما حيث وقع الانقلاب ضده وهو في غينيا، وقد حدث ذلك ايضا مع الدكتور ملتوني أيوتي رئيس اوغندا الذي استدرجه رئيس تنزانيا يوليوس نيريري الى خارج بلاده (سنغافورة حيث انعقد مؤتمر دول الكومنولث) وكلاهما صنف بمعارضة او مناوأة المصالح الغربية في افريقيا، وقد كان ملتوني ايوتي ضد بيع بريطانيا الاسلحة للنظام الابيض في جنوب افريقيا. وقال المؤلف: بالنسبة للرئيس السابق جعفر نميري فإن سيناريو ابعاده جاء من واشنطن وطبق معه، باسلوب حضاري احتراما له وتقديراً لمواقفه المؤيدة للمصالح الاميركية في المنطقة واثناء زيارة نائب الرئيس الاميركي جورج بوش للسودان (مارس 1985) بسبب ظاهري هو دعم النواحي الانسانية وسبب خفي هو تكملة الحلقات الاخيرة من سيناريو ابعاد نميري عن الحكم وتغيير الاوضاع في السودان، ووضعها في المسار المرسوم الذي يخدم المصالح الاستراتيجية الاميركية في المنطقة حيث استغل جورج بوش التناقضات التي بدأت تظهر على السطح بين النظام وبين الاسلاميين، واستغل عدم ارتياح النائب الاول (اللواء عمر الطيب) وبعض العناصر المايوية من طموحات الاسلاميين المتنامية، وظهرت في مجالات حيوية مختلفة.

ودخل النظام مرحلة العد التنازلي عندما تراجع في قراراته المتعلقة بالخبز، وضعفت القناعات من جراء عدم القدرة على احتواء الموقف او فرض واقع جديد، خاصة بعدما فقد النظام غطاء التأييد الحقيقي والذي كان يستند اليه في الآونة الاخيرة بعد اعتقالات قيادة الحركة الاسلامية وخروج كوادرها الوسيطة الى الشارع والذي تزامن مع موعد مغادرة الرئيس السابق نميري البلاد في زيارته الاخيرة وهذا ما هدف اليه جورج بوش عندما اوعز للقيادة السياسية العليا بأن هناك مؤامرة داخلية لها ابعاد خارجية تحاك ضد النظام، ولكن الشأن الداخلي برمته كان لا يخلو من شيء من ذلك.