شخص مريب وكتاب خرافي جمعهما «فارس بلا جواد»

الباحث الفلسطيني صقر أبو فخر: «بروتوكولات حكماء صهيون» كتاب مبتذل والترويج له يعطي نتائج سلبية

TT

لماذا تبقى معرفتنا بإسرائيل محدودة رغم اهتمامنا الشديد بفضح ادعاءاتها؟ وهل ضللنا الطريق طوال مئة سنة لنكتشف اننا، في نهاية المطاف، شكّلنا حول هذا الكيان، الذي يقضّ مضاجعنا، صورة لا تشبه الواقع بقدر ما ترضي اوهامنا، واذا كان الحال كذلك، وهذه «مأساة» كي لا نقول «كارثة»، أليس اصرارنا، مثلاً، على عرض مسلسل «فارس بلا جواد» الذي يستند، في جزء منه، الى بروتوكولات حكماء صهيون، هو محض هوس بالخرافة على حساب الحقيقة العلمية؟ والكلام الذي يتردد حول «فطير الدم» و«التفوق اليهودي» و«المؤامرة الكبرى» أليست كلها من نسج الخيال، وتستحق النقض؟ عن هذه الاسئلة يجيبنا الباحث الفلسطيني صقر ابو فخر الذي نشر مجموعة من الدراسات حول الاوهام التي ننسجها ونصدّقها ونبني عليها، وهو يحضِّر لاصدار كتاب في هذا الموضوع، وهنا نص الحوار:

* تعتبر أن ثمة اوهاماً عديدة تحول دون فهمنا لإسرائيل، الذي ما يزال قاصراً، منها بروتوكولات حكماء صهيون او فطير الدم او فكرة التمايز اليهودي، فهل هناك اوهام كثيرة غيرها، وهل لنا ان نتحدث عن بعضها؟

ـ معظم المؤرخين، خاصة القوميين العرب استندوا بفهمهم للتاريخ المعاصر للمنطقة إلى ما يسمى تقرير كامبل بنرمن، الذي يحمل اسم وزير خارجية انجلترا سنة 1907. والرواية تقول ان الرجل جمع عدداً كبيراً من المستشارين والخبراء ووزير المستعمرات وعقدوا مؤتمراً أقروا خلاله أنهم كي يمنعوا النهضة العربية الصاعدة يجب فصل الجزء الآسيوي عن الإفريقي من المنطقة العربية (أي فلسطين) وزرع كيان غريب في تلك المنطقة (اي اليهود) هذا ما ترجم لاحقاً من خلال سياسة بريطانية معينة ضد الدولة العثمانية وتوج بسايكس بيكو ووعد بلفور. ويبني المؤرخون على هذه الرواية منلطقات طويلة عريضة. ونجد في بطون الكتب الكثير من هذه الاستشهادات. ولكن حينما تأسس «مركز الابحاث الفلسطيني» وجاء على رأسه أنيس صايغ، وكان من مهمة المركز منذ البدء جَمْع كل الوثائق التي تخص فلسطين. ذهب الرجل إلى انجلترا وبحث في المتحف البريطاني، ومكتبة الوثائق، وفي جامعة كامبريدج، وفي الاوراق الخاصة لهنري كامبل بنرمن المودعة في احدى المكتبات، ولم يجد اي اثر لهذا التقرير. فراجع جريدة «التايمز» سنة 1906 و1907 و1908، ولم يجد اي خبر ولو صغير عن هذا المؤتمر. إذن، العقل العلمي ماذا يقول؟ لا بد ان هذا المؤتمر لم يوجد، وعلمنا لاحقاً ان القصة كانت قد اختلقت على الشكل التالي: هناك صحافي فلسطيني يدعى انطوان سليم كنعان، كان مسافراً الى انجلترا بالطائرة والى جانبه رجل هندي بقي مجهول الاسم (وكانت انجلترا ما تزال تحت الاستعمار البريطاني). وقد اخبر هذا الهندي كنعان بأن العرب سيتلقون ضربة ساحقة لان مؤتمراً قد عقد برئاسة بنرمن وتقرر خلاله ما ذكرناه سابقاً. والقصة لم تنته هنا لأن كنعان كتب الخبر وعقد ندوة صحافية في دمشق اذاع خلالها معلوماته حول المؤتمر، وبدأ الجميع يتناقل هذه الرواية، وشاعت، دون ان يفكر احد في التحقق من صحتها. بطبيعة الحال، استوطن اليهود في فلسطين، ولكن هذا لم يحدث بناء على المؤتمر المختلق الذي ندّعي حدوثه، وهو ما يدلل على ضعف المنهج العلمي في فهمنا لتاريخنا، وعلى هذا المثال بالامكان قياس الكثير من الروايات عن اسرائيل واليهود.

* هل من امثلة اخرى؟

ـ هناك استشهاد دائم بنابليون، انه حين جاء الى فلسطين دعا الى قيام دولة يهودية. ويعتبر بعض مؤرخينا ان نابليون اول من دعا الى قيام دولة لليهود، برغم انه لا اساس لصحة هذا الكلام والمعلوم بحسب كل التراث النابليوني ان الرجل معادٍ لليهود، فهو من اتخذ في فترة امبراطوريته عدداً من القرارات معادية لهم وكل ما في الامر ان هناك خبراً اذيع في تركيا يقول ان نابليون دعا يهود فرنسا وبلاد الشام الى مساعدته على احتلال فلسطين وانقاذ القدس من ايدي المسلمين، لكن الكتابات تناقلت هذا الخبر، على اعتباره دعوة الى تأسيس دولة يهودية، وان نابليون مساند للحركة الصهيونية منذ البداية.

* اي ان الولع بالثقافة الشفاهية هو الذي يوقعنا في فخ الترويج للحكايات التي تروى؟

ـ نعم بمعنى ان مفهوم التحقق العلمي ما يزال ضعيفاً بين العرب، منهج الشك الديكارتي الذي يدعو الى دوام البحث عن الحقيقة غير مطروح. هناك محاولات جديدة جادة لتصحيح الروايات التاريخية، لكن للأسف ما نزال نلوك بعض الاوهام والخرافات حول تاريخنا واخصامنا وبالتحديد حول الدولة اليهودية.

* من بين الحكايات التي تلهج بها الالسن ايضاً حول اليهود، ما يسمى «فطير صهيون» او خلط الدم بالعجين؟

ـ هناك كتابات عدة حول هذا الموضوع المنسوب لليهود، من بينها كتاب للعماد مصطفى طلاس اسمه «فطير صهيون» ومؤلف من آل نصر الله كتب «الذبائح التلمودية»، وثمة كاتب من آل الكيلاني، على ما اعتقد، كتب عن هذه الحكاية.

* كيف يمكن لهذا الكم من الكتب ان يصدر ليثبت حكايات ملفقة؟

ـ صحيح.. ولكن اضافة الى الكتب هناك فيلم كان يتم تحضيره في مصر. لا اعرف اذا كان قد توقف، استناداً الى رواية تهمة الدم او رواية الدم. لماذا؟ لأنه بكل بساطة العقل العلمي كما قلنا سابقاً غير ناشط بيننا وانما نعتمد ثقافة «الاستناد الى». فبمجرد ان يصدر كتاب يستند اليه الآخرون دون ان يذهبوا الى ابعد من ذلك وتصبح الفكرة في حالة شيوع. تهمة الدم ملفقة، وهذا ليس دفاعاً عن اليهود وانما دفاعاً عن الحقيقة، لنفهم خصمنا الاسرائيلي كما هو لا كما نتخيله. وهذا جزء من الصراع. فمحال علينا ان نتغلب على الاسرائيليين بالوهم. وباختصار فإن الخرافة تقول ان اليهودي يحتاج الى دم مسيحي او غير مسيحي ليستخدمه في تحضير فطير الفصح. والحقيقة ان الدم في التوراة والتلمود يعتبر نجساً. وان فطيرة الفصح يجب ان لا يخالطها اي شيء، ولا حتى الخمائر. اذن من اين اتت التهمة؟ التهمة قديمة اطلقت على الكثير من الشعوب بما فيها الارساليات المسيحية الى شرق افريقيا او الصين، كردة فعل من الشعوب المغزوة لاعتبارها الغازي «مصاص دماء». اليهود التصقت بهم التهمة في اوروبا لانهم عملوا في الربا، اما الذي رسخ الرواية بيننا فهو ما حصل في دمشق عام 1840، حين اتهم اليهود بقتل الراهب الفرنسيسكاني توما الكبوشي، لصنع فطير الفصح، لكن جرت تحقيقات واسعة جداً شاركت فيها الدولة العثمانية والدول الكبرى، كحامية للاقليات في تلك الفترة، وثبت ان الرواية غير صحيحة. وتبين ان الجريمة سياسية وكما هو معلوم فإن اليهود كانوا مرعيين من انجلترا والفرنسيسكان من فرنسا، وحارة اليهود ملاصقة لحارة النصارى في دمشق وكانت بينهم حساسيات. لقد قتل الراهب لا لسبب طقسي وانما بدافع سياسي.

* العرب متهمون اليوم بأنهم آخر من يتمسك بصحة بروتوكولات حكماء صهيون، في ما نبذها العالم وبات متعارف انها ملفقة، فهل هناك كتابات جادة بالعربية تبحث في صحة او كذب هذه البروتوكولات؟

ـ الابحاث قليلة جداً، لان الكتَّاب الذين يفهمون التاريخ اليهودي قلائل، واهتمام العرب بهذا الموضوع حديث، وهناك تاريخ طويل من الريبة في التعاطي مع اليهود. وكتاب البروتوكولات عمره تقريباً مئة سنة. انما هناك كتاب عرب ظهروا في الفترة الاخيرة نقضوا هذا الكتاب مثل د. أنيس صايغ الذي كتب بحثاً مطولاً حول الموضوع. وايضاً د. عبد الوهاب المسيري الذي اصدر موسوعة «اليهود، اليهودية الصهيونية» وهو عمل عظيم بكل المعايير، وله كتاب يفنِّد فيه ويسخّف ما يسمى «بروتوكولات حكماء الصهيون» ككتاب وضعه اليهود للسيطرة على العالم. هناك بعض الابحاث النقدية لكن مقارنة بالكم الكبير للكتابات الخرافية نشعر اننا ما نزال نحفر في البداية. البروتوكولات كتاب مبتذل، واصبح واضحاً انه من وضع المخابرات الروسية. فالحكومة القيصرية كان لها اعداء ثلاثة الشيوعية واليهود والماسونية. وكل من هذه الجهات، كان يحاول اسقاط الحكم القيصري لاسبابه الخاصة. وجزء من الدعاية المضادة للقيصرية تجسدت في هذا الكتاب، الذي وضع على انه حوارات بين حكماء اليهود الذين اجتمعوا واقروا السيطرة على العالم تبعاً لقواعد توافقوا عليها في ما بينهم. وان يتحقق، مصادفة، ما جاء في البروتوكولات فهذا لا يعطيها المصداقية. ولا يعني انها وضعت بأيدي اليهود انفسهم. وهذا الترويج للشائعات لا يقتصر على العرب اذ ان بعض ضعاف العقول بين اليهود يروجون ان هرتزل قال عام 1894: «سنبني الدولة الاسرائيلية خلال خمسين سنة». والمقولة شاعت وتحققت بالفعل ولكن مصادفة، وهناك شائعات كثيرة اخرى لم تتحقق، منها تلك المقولة التي تعتبر ان اليهود سيكونون اكثر من 25 مليوناً وسيستوطنون اسرائيل فور قيامها، وما حدث هو أننا نجد بأن عدد اليهود متناقض وهم لا يبلغون 13 مليوناً، واقلية منهم فقط تعيش في فلسطين. الدخول في مثل هذه المتاهات غير العلمية لا يجدي نفعاً. وفي رأي ان اكثر من يروج لبروتوكولات حكماء صهيون هي التيارات الدينية التي تستهل الامور، ولا تريد ان تبحث، وتفضل ان تأخذ كتاباً يدين اليهود، ويشكك بهم ويخوف البشر منهم، وتروج له. والحقيقة ان النتائج سلبية جداً، لاننا لا نستطيع استخدام هذا الكتاب للدعاية ضد اليهود، لانه مرفوض من الآخرين، ويعتبر في اوروبا شديد الابتذال، وليس له اي قيمة، ثم اننا في صراعنا مع اليهود لدينا آلاف الأمثلة الحقيقية والواقعية التي نستطيع استخدامها ضدهم، من مجازر وتهجير وقتل واغتيال، ان تاريخنا المعاصر مليء بآلاف الشواهد ولسنا بحاجة لاستخدام كتاب خرافي. هذه عقلية سحر المؤامرة والشيء الخفي والغامض التي نستبدلها بالبحث والتفكير، ذلك لأن نقد الوثائق امر متعب وليس متاحاً للكثيرين.

* هناك اعتماد واضح على البروتوكولات في مسلسل «فارس بلا جواد» الذي ما يزال يثير الكثير من الانتقادات من قبل اميركا وغيرها، في ما يعتبر بطل المسلسل محمد صبحي انه يتخذ موقفاً وطنياً وقومياً في تقديمه لهذا المسلسل؟

ـ «المنظمة المصرية لحقوق الانسان» رفضت واستنكرت استناد المسلسل الى البروتوكولات، وحسب ما علمت فإن نص المسلسل هو عبارة عن مزج بين البروتوكولات وقصة حافظ نجيب الذي جعل منه المسلسل بطلاً وطنياً. لكن بالعودة الى مذكرات حافظ نجيب التي نشرت تحت عنوان «اعترافات حافظ نجيب» واملاها بنفسه على احدهم عام 1946 على شكل حوارات، ونشرت في القاهرة عام 1996 يتبين بوضوح ان الرجل أفاقٌ، مخابراتي وانه ليس رجلاً وطنياً، بل اشتغل في الجاسوسية والعمالة المزدوجة. انه شخص طريف لكنه كان قد تورط في مغامرات سياسية واستخباراتية وعسكرية متشابكة، ولا يشكل مجموع تفاصيل حياته ما يمكن ان يكوِّن شخصية البطل التي حاول ان يقدمها المسلسل. ولا بد ان الفكرة كانت مغرية تلفزيونياً لانها جمعت بين شخص مريب وكتاب خرافي. لو كان المسلسل مبنياً على مجرد صور متخيلة لما كان من مشكلة، لكن السوء هو في انه يحاول ان يقول انه مبني على حقائق.

* معلوم بأن التلمود يحتوي على افكار هي اسوأ واخطر مما يمكن ان نجد في البروتوكولات، فلماذا لم يعن العرب بالتلمود على سبيل المثال؟

ـ هذا يندرج ضمن ضعفنا الفكري، فالايديولوجية الصهيونية قائمة، الى حد ما، على الفكر الديني، ونقول، عادة، اننا مهتمون بفضحها، ومع ذلك، لم تدفعنا، الى ترجمة التلمود، لغاية الآن، الى اللغة العربية، وهذا يدل على مدى الانحطاط العلمي العربي، فمنذ مئة وعشرين سنة ونحن في حالة صراع مع الصهيونية، ولم نترجم التلمود، وهو موجود في كل اللغات، وليس كتاباً سرياً. لا يوجد باحث عربي في الشؤون الاسرائيلية قرأ التلمود إلا ربما قلائل من باب الاطلاع. كل ما يعرفه العرب عن التلمود هو شذرات معظمها يتناسب مع الاهواء السائدة. ولو كنا في حيوية ثقافية لكان ترجم هذا الكتاب الذي يقرر ما يجب ان يفعله اليهودي منذ ان يفتح عينيه في الصباح حتى ينام، اضافة الى فصول تتضمن الكيفية التي يجب ان يتعامل بها اليهودي مع الآخرين.

* ما دمت مسؤول قسمٍ في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، لماذا لم يهتم الفلسطينيون، على الاقل، بهذا الجانب، وهم الذين صرفوا اموالاً طائلة لمقاومة اسرائيل؟

ـ «الموسوعة الفلسطينية» كهيئة توقفت ولم تحقق هذا الانجاز، «مركز الابحاث الفلسطيني» كان رائداً قبل ان تنهبه وتدمره اسرائىل، اي مشروع ناضج في اتجاه معرفة علمية باسرائيل لم ينجر. لأن معظم الدراسات، في رأي، انصبت على الجانب السياسي، اي على الصراع مباشرة، وعلى فهم ما يجري الآن، بدل العناية بالجانب الثقافي، العقائدي. اضافة الى ان ترجمة التلمود ونشرة تحتاج الى رأس مال كبير. فالتلمود بالانجليزية حوالي 10 اجزاء كبيرة، وهذه تحتاج الى فريق عمل متكامل، ومن ثم هناك اعباء نشر هذا الكتاب الكبير الذي يحتاج الى دار مجازفة. فالذين كانت لهم القدرات المالية انصبت اهتماماتهم على النواحي السياسية المباشرة.

* لأن الفكرة السائدة هو ان صراعنا مع اسرائيل سياسي، ولا نريد ان ندخل في المتاهات الدينية التي تجرنا اليها اسرائيل. ولربما ذهبنا في نظريتنا هذا حد التطرف الذي صرفنا عن رؤية جوانب اخرى مفيدة؟

ـ نعم، والنتيجة ان جوانب كثيرة ما زلنا نجهلها في المجتمع الاسرائيلي. فالجماعات الدينية المتطرفة في اسرائيل لا تعترف باسرائيل، وهؤلاء بدأ يصير لهم تأثيرات لا بد من اخذها بعين الاعتبار. هناك اتجاهان اليوم، اتجاه يقول ان اليهودية ستقضي على اسرائيل كما هو حال الشخص الذي اغتال اسحاق رابين. وهناك من يقول ان اسرائيل العلمانية ستقضي على اليهودية كعقيدة دينية. ان هذا الصراع يتمحور حول سؤال مهم وحساس مفاده: من هو اليهودي؟ انه مجتمع، على عكس ما تتصور، شديد الاضطرابات وشديد القوة.