هيدغر في فرنسا .. ما قبل «الاغتيال» وما بعده

هاشم صالح

TT

تحت هذا العنوان أصدر الباحث الفرنسي درمينيك جانيكو كتاباً كبيراً بجزأين عن كيفية انتقال فلسفة هيدغر في المانيا الى فرنسا. والباحث المذكور هو أستاذ الفلسفة في جامعة نيس، جوهرة الشاطىء اللازوردي. سقياً لأيام نيس ولكورنيش الانجليز.

ان مشروع البروفيسور جانيكو ضخم ومثير حقا. فهذه هي أول مرة يقوم فيها مفكر ما بدراسة تأثير هيدغر على الساحة الثقافية طيلة سبعين سنة على الأقل.

وفي الجزء الثاني من الكتاب يستجوب المؤلف كل الهيدغريين الفرنسيين تقريباً من كوستاس اكسيلوس، الى ميشيل ديغي، الى جاك دريدا، الى جان بييرفاي، الى عشرات غيرهم. وكل واحد منهم يتحدث مطولاً عن علاقته بهيدغر، وكيف تعرف عليه شخصياً، او قرأ نصوصه لأول مرة. انها مقابلات ممتعة حقاً ولا تمل قراءتها. والواقع ان الاشكالية عامة وتتجاوز حالة هيدغر على الرغم من اهميتها. فالسؤال المطروح هو التالي: كيف يحصل التفاعل الثقافي بين بيئتين مختلفتين او لغتين متباعدتين هما هنا اللغة الالمانية واللغة الفرنسية؟ ما الذي يحصل اثناء عملية الانتقال من لغة الى اخرى أو من ثقافة الى اخرى؟ هل هيدغر الفرنسي هو نفسه هيدغر الالماني الأصلي؟ ام انه طرأت على شخصيته وفكره بعض المتغيرات والتحويرات اثناء عملية الانتقال والترجمة؟

ولكن السؤال نفسه يمكن ان يطرح على الساحة الثقافية العربية. فهل سارتر العربي هو نفسه سارتر الفرنسي يا ترى؟ وهل ماركس العربي هو نفسه ماركس الالماني؟ القارئ العادي يتوهم ذلك، ولكن المختصين المحترفين بتاريخ الفكر يعرفون ان الواقع ليس كذلك بالضبط. بالطبع فإن هذه المقارنة تظلم الساحة الثقافية الفرنسية لأنها اكثر جدية فيما يخص عملية النقل والترجمة. ثم لأن امكانياتها اكبر بكثير فيما يخص عملية التفاعل الثقافي مع المراجع الاجنبية. فهي قادرة على ان تقدم عدة ترجمات لنفس النص الواحد. ونصوص هيدغر ترجمت اكثر من مرة. وهذا الشيء لا تقدر عليه الساحة الثقافية العربية حتى الآن. وعلى الرغم من ذلك فإن البروفيسور جانيكو يعترف بضرر ورداءة بعض الترجمات التي حصلت. يقول بما معناه في المقدمة العامة للجزء الأول من الكتاب: «ان طريقة ترجمة هيدغر بشكل جيد او رديء من قبلنا نحن الفرنسيين مسألة ليست ثانوية. فاحياناً كانت الترجمات ناجحة، موفقة، واحياناً كانت فاشلة، وحتى كارثية! والواقع ان الترجمات تعكس دائماً الخلفيات والنوايا للناس الذين يقومون بها. والمترجمون يشبهون السفراء في العهود القديمة عندما كانوا يستطيعون ان يشعلوا الحرب بين بلدين أو على العكس يحدثون التقارب والوئام بينهما».

هذا يعني انه لا توجد ترجمة موضوعية بشكل مطلق. ولكن استحالتها لا يعني ان كل الترجمات تتساوى! فمن الواضح ان الترجمة الجيدة او المتعوب عليها غير الترجمة الرديئة. والدليل على ذلك ان الناس لا يزالون يذكرون بالخير حتى الآن أول ترجمة تمت لهيدغر بالفرنسية. وكانت من عمل المستشرق المعروف هنري كوربان، مؤلف كتاب «تاريخ الفلسفة الاسلامية». فقد ترجم عام 1938، اي قبل الحرب العالمية الثانية نص هيدغر الشهير: ما هي الميتافيزيقا؟.

واما كتاب هيدغر الأعظم «الوجود والزمان» فلم يترجمه الفرنسيون كاملاً الا مؤخراً. وقد ترجم مرتين من قبل اثنين من المختصين بفلسفة هيدغر، الاولى ظهرت عام 1985 والثانية عام 1986! والواقع انه حصلت منافسة عنيفة بين المترجمين وطرحت آنذاك تلك المسألة الأبدية التي تخص اي ترجمة. ونقصد بها: هل ينبغي ان نترجم النص بحرفيته، ام بروحه وجوهره؟ وانا شخصيا اميل الى الحل الثاني، بل وافضله بشكل قاطع بعد ان مارست عملية الترجمة طيلة ربع قرن، ولا أزال.

مهما يكن من أمر فإن هيدغر اثار عدة زوابع او معارك فكرية حول شخصه في الساحة الثقافية الفرنسية. بالطبع فلم تكن له أي يد في ذلك، وانما المثقفون الفرنسيون هم الذين تطاحنوا حوله من اجل تصفية حساباتهم الداخلية. واحدى هذه المعارك جرت حول ترجمة كتابه الاساسي المذكور سابقاً. ولكن المعركة الايديولوجية الكبرى حصلت حول كتاب فيكتور فارياس الصادر عام 1987 تحت عنوان: «هيدغر والنازية». وعندئذ هاجت الصحافة الفرنسية وقامت بحملة شعواء لا تبقي ولا تذر للإطاحة بهيدغر واختزال كل فكره وفلسفته الى مجرد فلسفة نازية! انه لشيء مخيف تلك العملية المدعوة بحملة الاشاعات المغرضة. انها تمثل عملية قتل لا اكثر ولا أقل. ولكن فكر هيدغر خرج منتصرا من تلك الحملة الهائجة. فلا يزال الناس يقرأونه ويكتبون عنه ويؤلفون اطروحات الدكتوراه الضخمة عن فلسفته وعظمته. وهكذا مرت القافلة والكلاب تنبح.

لا يعني هذا ان هيدغر بدون اخطاء او زلات شخصية. ولكن لا احد يستطيع ان يقتل الفكر والحقيقة عن طريق الاشاعات المكثفة والاكاذيب المبرمجة. ففي كل مرة تكون فيها الدولة الصهيونية في فلسطين في مأزق، تندلع «فضيحة» مفتعلة في الغرب لكي تغطي على جرائم بيغين وشارون وما بينهما. يحصل ذلك كما لو ان محرقة اليهود على يد النازيين ينبغي ان تبرر محرقة الفلسطينيين على يد الصهيونيين! منطق عجيب الشكل لم يسمع به ارسطو ولا افلاطون، ولا ديكارت ولا هيغل ولا هيدغر. انه اللامنطق بعينه، يريدون ان يفرضوه بقوة الباطل على البشرية جمعاء وكأنه حقيقة لا تناقش ولا تمس.

وتستخدم من اجل ذلك كل ترسانة وأبواق الدعاية الغربية. ولكنها عجزت عن طمس الحقيقة حتى بعد خمسين سنة! والدليل على ذلك تلك المعركة الصاخبة التي تحصل حالياً، اي في الوقت الذي اكتب فيه هذه السطور، حول مسألة «الرجعيين الجدد» في فرنسا. وهي معركة تهز الاوساط الثقافية والسياسية الفرنسية على خلفية ما يحدث في فلسطين من جملة مسائل اخرى. يحصل ذلك كما لو ان الحقيقة الفلسطينية القتيلة لا تزال تستصرخ الضمير العالمي ولا تتركه يرتاح. وهل هناك من مثقف يحترم الحقيقة ثم يستطيع ان ينام بضمير مطمئن بعد ان يسمع بمحاولة استئصال شعب كامل من ارضه وقراه ومدنه؟! واذا ما سكت المثقف عن الحقيقة الساطعة سطوع الشمس فهل يعود مثقفاً؟ نعم ان فجيعة فلسطين تقض مضاجع المثقفين الفرنسيين حتى هنا في باريس!.

وهذا يعني ان الحقيقة لم تمت، ولن تموت.

لكن لنعد الى هيدغر وهذا الكتاب الضخم الذي يتجاوز التسعمائة صفحة بجزأيه. ولنقل منذ البداية بأن صورة هيدغر في المانيا تختلف كلياً عن صورته في فرنسا. ففي المانيا اضطهد فكره مع فكر نيتشه بعد الحرب العالمية الثانية وألقيت عليه ظلال من الشك والشبهات. ولم يعد احد يستطيع ان يتحدث عنهما بموضوعية. وذلك لأن العقدة النفسية الالمانية، اي عقدة الاحساس بالخطيئة والذنب، لا تسمح بمناقشة هذا الفكر بهدوء او رزانة. ولكن ربما كانت الامور في طريقها الى التغير بعد ان انفجر شرودر، مستشار المانيا الشاب والقوي، بالغضب ضد ملاحقة الالمان الى نهاية الزمن بالجريمة النازية!. والواقع ان هذه الجريمة اصبحت تستخدم بتدبير جريمة اخرى لا تقل عنها هولاً وفداحةً. ومن قبل من؟ من قبل ضحايا الامس او احفادهم!!. واما في فرنسا فلا يعاني المثقفون من هذه العقدة. ولذلك استقبلوا هيدغر استقبال الفاتحين! وادهشوا بذلك الالمان كل الدهشة. وعندما كان هيدغر يزور فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، او في الخمسينات والستينات، كان يستقبل كرئيس دولة.. وكانوا يحتفون به وكأنه ارسطو او افلاطون. ذلك لأن للفكر قداسته التي تعلو على كل القداسات. ولكن حتى هابرماس اعترف بأن كتاب هيدغر عن «الوجود والزمان» (1927) هو اهم كتاب فلسفي ظهر منذ كتاب هيغل «فينوفيسولوجيا الروح» (1807). ومع ذلك فإن هابرماس لا يستطيع ان يتحدث بموضوعية عن فكر هيدغر او نيتشه لأنه الماني مثلهما وملاحق بعقدة النازية ولا يستطيع ان يقول كلمة واحدة.

من اجل الحقيقة في فلسطين!.. هنا تتبدى المشروطية الرهيبة للفكر، وهي مشروطية تدفع احياناً الى السكوت عن الحقيقة او حتى طمسها. ولهذا السبب يدفع ثمن الحقيقة باهظاً. فاذا كانت هناك قوى رهيبة لا مصلحة لها في قول الحقيقة، فإن من يقولها سوف يعرض نفسه للخطر لا محالة. وبالتالي فالحقيقة محاطة بالاشواك، والخطوط الحمر، والاسلاك الشائكة، سواء اكانت حقيقة فلسطين أو غير فلسطين. يعرف ذلك جيداً اولئك «المجانين» الذين وقفوا يوماً ما وقفة حق أو حقيقة!..

يقول دومينيك جانيكو بما معناه: لقد كان هيدغر في مركز الحياة الثقافية الفرنسية طيلة سبعين سنة على الاقل: اي منذ عام 1930 وحتى عام 2000. ولكنه لم يكن ذلك بشكل متواصل، ولا بنفس الطريقة. فهناك عدة مراحل من استقبال فكر هيدغر والتعامل معه. ولكن يمكن القول بأن هناك مرحلتين اساسيتين: مرحلة ما قبل «اغتياله» من قبل فارياس عن طريق وصمه بالنازية، وما بعدها.

ثم يضيف المؤلف هذا الكلام المعبر:

ان هذين العملاقين للفلسفة، هيدغر ونيتشه، على الرغم من اختلافهما الشديد يتصفان بسمة مشتركة: وهي الاستقبال الحار والاستثنائي الذي لقياه في فرنسا. لقد رحبت بهما الاوساط الثقافية الفرنسية الى درجة انهما اصبحا فيلسوفين فرنسيين بالكامل. لقد انصهرا عندنا الى درجة انهما لم يعودا مثقفين اجنبيين. لقد اصبحا منا وفينا. وهذه ظاهرة مدهشة فعلاً، وبخاصة فيما يتعلق بهيدغر المعروف بنزعته الجرمانية وعنجهيته الفلسفية. فنيتشه كان ينتقد الالمان كثيراً بل ويشتمهم ولا يتورع عن تفضيل الفرنسيين عليهم. وكثيراً ما عبر عن اعجابه بالروح الفرنسية وقارنها بغلاظة الروح الالمانية الثقيلة! وبالتالي فهناك اسباب تدفع بمثقفي فرنسا الى محبته، بالاضافة الى عبقريته الفلسفية والشعرية بالطبع.

ولكن لا يوجد عند هيدغر اي شيء من هذا القبيل فكثيراً ما نظر الى الفرنسيين من فوق، بل واعتبرهم «خفيفين» فلسفياً! وكان يعتقد بأن هناك لغتين للتفلسف في العالم هما: اللغة اليونانية، واللغة الالمانية، ولا ثالثه لهما.. ويكفي الفرنسيين فخراً انهم يترجمون فلاسفة الالمان! وربما كان ذلك كثيراً عليهم... وفي هذا الموقف احتقار كبير للفرنسيين، وعلى الرغم من ذلك فإنهم «يعبدون» هيدغر! بالطبع فإنهم ردوا عليه فيما بعد وذكروه بوجود فلاسفة كبار من حجم ديكارت، او باسكال، او جان جاك روسو.. ولكن هيدغر كان قومياً متعصباً من هذه الناحية. والواقع انه محق الى حد ما، والى حد ما فقط. فمن يستطيع ان ينكر هيمنة الفلسفة الالمانية على العالم الحديث، مثلما هيمنت الفلسفة اليونانية على العالم القديم؟ واذا ما حذفنا اسماء كانط، وهيغل، ونيتشه، وماركس، وفرويد، فماذا يتبقى من الفلسفة الحديثة؟ لا ريب في ان هناك مفكرين مهمين عند الأمم الاخرى، ولكن حظ الالمان كان كبيراً منذ قرنين على الاقل.. اقول ذلك وانا اعتذر ايضا للانجليز.. فلديهم فلاسفة كبار ومفكرون لا يستهان بهم.

هناك نقطة واحدة لم ينغلق فيها هيدغر داخل عصبيته الجرمانية: وهي الشعر، فمن المعروف ان هيدغر في المرحلة الثانية من حياته الفكرية اصبح يولي اهمية حاسمة للكلام الشعري وليس فقط للكلام الفلسفي المنطقي او العقلاني. فالشاعر هو شريك الفيلسوف من حيث بحثه عن البراءة الاصلية، البراءة الاساسية، واستخراجها من مخبوئها والتعبير عنها بالكلمات. الشاعر والفيلسوف يبحثان اذن عن نفس الشيء او يحاولان نفس «المستحيل»، ولكن بطريقتين مختلفتين، او اسلوبين متغايرين. كلاهما يغطس بحثاً عن «كينونة الكينونة»، او عن «جوهر الوجود»، أو عن براءة البراءات ولكن ليس كل شاعر يفعل ذلك بالطبع، او يقدر عليه. قلة من كبار الكبار استطاعوا ان يفعلوا ذلك. وهم في رأي هيدغر الاسماء التالية: هولدرلين، جورج تراكل، رينيه ماريا ريلكه، رامبو، رينيه شار. واثنان منهم فرنسيان. وهكذا اعترف هيدغر بالعبقرية الفرنسية، على الأقل شعراً، يضاف الى ذلك انهم وجدوا على مكتبه دواوين شعراء آخرين من امثال جيرار دونيرفال، بودلير، مالارميه، بول فاليري...

واما فيليب سوليرز فلم يعد يحلف الا باسم هيدغر بعد ان تخلى عنه معظم المثقفين الفرنسيين على اثر تلك الحملة الارهابية الشنيعة التي شنت ضده عام 1987. فسوليرز، يقول بأن هيدغر هو المفكر المعاصر الوحيد الذي يستطيع ان يتحاور مع كبار الشعراء من امثال هولدرلين ورامبو. انه يتحاور معهم في عصر استبيحت فيه الارض من قبل العدمية التكنولوجية، اي من قبل الهيمنة الكاسحة للتكنولوجيا على الطبيعة البكر وعلى كل مناحي الحياة. لقد ماتت النزعة الانسانية وتشيأت في عصر التكنولوجيا والرأسمالية المنفعية. ولم يبق الا صوت الشعر العظيم، صوت رامبو وهولدرلين لكي يذكرنا بأن البراءة الاصلية لم تمت تماماً، بأن الروح لم تهجر الغرب كلياً. انه صوت ترن أصداؤه في لجة الخواء الحضاري!.

* هيدغر في فرنسا Heidegger in France

* اسم المؤلف: دومينيك جانيكو Dominique Janicaud

* دار النشر: البان ميشيل ـ باريس Albin Michel - Paris