سلوبودان ميلوشيفيتش.. الصبي الأنيق الذي أغرق صربيا في بحر من الدم

TT

في ببليوغرافيته التي تتناول حياة سلوبودان ميلوشيفيتش تحدث آدم ليبور الى عدد واسع من شهود ومعارف الزعيم الصربي السابق، من ضمنهم العديد من اصدقاء طفولته وزملاء مراحله الدراسية وزملاء عمله حينما كان يعمل موظفا بنكيا، اضافة الى رفاقه السياسيين القدامى ورجال مباحثه المستقيلين وصديق ابنته وزوجته ماريا ماركوفيتش.

منذ الوهلة الاولى يلمس القارئ، بان هذه الببليوغرافية قد كتبت بعناية شديدة وتتميز بقوة مضامينها ودقة نقل افكار ميلوشيفيتش، يخبرنا الكاتب ليبور بأن ميلوشيفيتش لم يكن شخصا كلاسيكيا او مسلكي النزعة ينتظر حتى تواتيه الفرصة لكي «يتسلق السارية»، فبعد مرحلة مبكرة عمل خلالها كمنظم حزبي سافر ميلوشيفيتش الى اميركا في السبعينات كمصرفي. ان هذه الانتقالة والحماس الذي استقبل فيه طريقة الحياة الرأسمالية في نيويورك لم تكن آنذاك من السمات الشيوعية التقليدية، لكن تلك الخبرة الاميركية عادت عليه في ما بعد بالفائدة والمكاسب حينما اخذ يخالط الديبلوماسيين ورجال الاعمال الغربيين. في ذات الوقت كان مظهره الحديث واناقة ملبسه تحيله الى الجيل الجديد اكثر مما الى محارب هرم قديم ومناضل في حرب الانصار. لهذا حظي ميلوشيفيتش بدعم صديقه وعرابه ايفان ستامبويتش واحتل منصبا حزبيا مرموقا.

عام 1987، ارسل ميلوشيفيتش الى المقاطعة المستقلة كوسوفو لكي يهدئ من روع الاقلية الصربية التي كانت تجد نفسها تحت وطأة ضغوط متزايدة من قبل الالبان. من هنا اخذ ميلوشيفيتش يشعر باهمية نفسه وبانه اصبح مرجعية يعول عليها. ويعتقد ليبور بان ميلوشيفيتش لم يكن صربيا قوميا متطرفا ولا حتى زوجته، وباسلوب مشوق يورد الكاتب قضية طاهر حسنوفيتش، الشاب الاشتراكي الصربي الديناميكي ذو الاصل الاسلامي التركي الذي حاول ميلوشيفيتش عبثا ان يجمع بينه وبين ابنته المشاكسة ماريجا في الثمانينات.

ويؤكد الكاتب بأن حسنوفيتش لم يشعر حتى الآن بأي اثر من آثار العنصرية في علاقتيهما.

وفي كلمات اخرى يبدو ان ميلوشيفيتش استخدم الروح القومية من اجل الاحتفاظ بالسلطة وليس استخدام السلطة لتحقيق البرنامج القومي. واستغل ميلوشيفيتش مشكلة كوسوفو لكي يحل محل ستامبوليتش في الحزب الصربي وفي نفس الوقت غازل المؤسسة العسكرية باتخاذه موقف المدافع عن يوغوسلافيا ضد السلوفيين والكرواتيين المعتدين وقيامه بافعال اخرى لكي يثبت من خلالها سياساته القومية. ويورد ليبور امثلة مهمة تؤكد استراتيجية ميلوسوفيتش المكيافيلية والتلاعب اللغوي المصاحب لها مثل «المفاضلة او التمييز»، (يعني التخلص من الاشخاص غير المرغوب بهم)، «الثورة المضادة للبيروقراطية»، (تأجير غوغاء وارسالهم لارهاب حكومات موذنتنيغفرو وفويفودينا)، «التجمع من اجل الحقيقة»، (مسرحية هزلية تحاكي محكمة نورنبرغ يتعالى منها صراخ وحماس الجماهير حتى يصل الى قمته).

وكما يصوره ليبور يظهر ميلوشيفيتش بانه ذلك الشخص الذي اراد تدمير يوغوسلافيا الاتحادية من خلال تحويلها الى «صربسلافيا» وقد سمح لسلوفينيا ان تنسحب بعد حرب زائفة، لكن الاقلية الصربية في كل من كرواتيا والبوسنة التي كان لديها خوف حقيقي انتهت كل منها الى دولة ذات جنون قومي.

ويعتقد الكاتب بان حملات التنظيف العرقي في كرواتيا، خاصة في البوسنة لم تكن عفوية وانما خطط لها بعناية تامة من قبل بلغراد. واعتمادا على شهادات المشاركين والجزء المتعلق بالاتصالات وعدة مصادر اخرى يعرض ليبور مشاركة ميلوشيفيتش وادارته خلال المراحل الحاسمة الاولى من حملات التطهير العرقي في البوسنة في ربيع وصيف عام 1992.

كل ذلك يخبرنا عنه المؤلف بصورة جيدة ومتكاملة، غير انه على العكس يمر مرورا سريعا على الفصل الاخير الخاص بمحاولات ميلوشيفيتش التطهيرية في كوسوفو ودفاعه المستميت ضد حلف الناتو وفي ما بعد تعرضه للاطاحة خلال الثورة الصربية. ثم يأتي ليبور على ردود افعال الغرب، خاصة بريطانيا واميركا ازاء ميلوشيفيتش ويعتقد بانهم رأوه كما رأوا غورباتشوف كمصلح بلقاني يبحر في سفينة تتجه نحو الغرب ورجل يحافظ على يوغوسلافيا غير المقسمة وبالتالي يوفر عليهم جهود التفكير بما سيحدث بعد الكارثة، واخيرا رأوه، رغم كل اخطائه، الشخص الوحيد القادر على احلال الامن في البلقان، وفي هذا الصدد يذكر ليبور ان احد الموظفين البريطانيين الرفيعي المستوى في مكتب وزارة الخارجية البريطانية اعترف له مرة قائلا: «بالطبع، كنا جميعا نعلم بأن ميلوشيفيتش يمثل الجزء الاكبر من المشكلة ومنذ البداية، لكن الذي استغرق معرفته طويلا هو ان ميلوشيفيتش لا يمكن ابدا ان يكون جزءا من الحل».

وفي استغلاله لثورة الجماهير و«معالجته الحاذقة للحيف القومي» يقارن الكاتب ميلوشيفيتش بالزعيم الايطالي الفاشي موسليني الذي كان وبلا شك يمتلك عقلا مشوها كما يصفه كتاب سيره. غير ان الزعيم الايطالي على الاقل كان على وشك ان يحقق حلمه في تأسيس امبراطورية رومانية جديدة، فيما كان يسعى ميلوشيفيتش لانشاء دولة الصرب الكبرى يبوء دائما بالفشل.

يوعز ليبور ذلك الى ان السلطة السياسية الناشئة والموحدة كانت مدعومة من قبل الاقتصاد اليوغوسلافي المحفوف بالخطر. كذلك فإن تصاعد نسب التضخم والتقلبات الاقتصادية الحادة اوجد حالة من عدم الامان وصعد من الشعور القومي. فالمصانع التي تديرها الدولة كانت مصانع تفتقد لروح المنافسة وعديمة التأثير وقيمة الدينار الذي كان ذات مرة من اكثر العملات مرونة في شرق اوروبا هبطت الى الحضيض. ولم يكن هناك كبير امل في ان تدفع يوغوسلافيا بـ 22 مليار دولار كديون اجنبية تجمعت عليها منذ عام 1987، وخلال سنتين متعاقبتين تخلى ميلوشيفيتش عن التحديث لصالح الاتجاه القومي.

من اللافت في هذه الببليوغرافيا هو ان موضوعها لم يزل حديثا وطريا والشواهد بارزة للعيان ان كانت الدولة اليوغوسلافية او رئيسها السابق ميلوشيفيتش، اذن ليس هناك من فسحة لتشويه الحقائق، خاصة ان ميلوشيفيتش يخضع الآن الى تحقيق يومي خاص في محكمة لاهاي الدولية التي ربما ستطلق معلومات اهم من تلك التي يتناولها كتاب السير. وضمن هذا الاطار يؤكد الكاتب ليبور ويعترف بان كتابه هذا ليس اكثر من «حدث جار» وهو بهذا المعنى يكون اقرب وادق الى الريبورتاج منه الى كتاب ببليوغرافيا.

يذكر ليبور بان ميلوشيفيتش اخضع لعدة مرات في حياته الى العلاج بالصدمات الكهربائية. وحينما كان ميلوشيفيتش لم يزل صبيا صغيرا غادر والده المنزل للعيش في مكان آخر قبل ان ينتحر. وبعد بضع سنوات انتحرت والدته بشنق نفسها وتزوج ميلوشيفيتش من امرأة شجعت رغباته في التحكم بالجذور القومية فيما عملت ما في وسعها من اجل ان تشده الى العش المنزلي.

ويروي ليبور عن ميلوشيفيتش: انه كان من نوع ذلك الصبي الذي تلبسه أمه باناقة ولم يكن يهوى الرياضة ولم يكن يوما صبيا مؤدبا. كان شيوعيا صغيرا، لكنه منضبط ومعروف بين رفاقه بالاسم «لينين الصغير» ونعلم من هذه الببليوغرافيا ان ميلوشيفيتش بعد ان يحتسي قدحا او قدحين من البراندي «يبدأ سلوبو يغني بشكل جميل اغاني روسية شعبية وفرنسية واغاني صربية قديمة».

* الكتاب: ميلوشيفيتش: سيرة حياة

* المؤلف: آدم ليبور

* الناشر: بلومسبري ـ لندن 2002