اسوأ هجاء للشعب الفلسطيني نجده في جملة بن غوريون: «سيموت كبارهم وينسى صغارهم»

«الملهاة الفلسطينية» ثلاثية روائية تمثل «مشروع عمر» ابراهيم نصر الله

TT

صدرت للروائي ابراهيم نصر الله ثلاثية أطلق عليها اسم «الملهاة الفلسطينية»، وهي مكونة من «طيور الحذر»، و«طفل الممحاة» و«زيتون الشوارع»، وقد صدرت الكتب الثلاثة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر». وبهذه المناسبة تنشر «»الشرق الأوسط« بالتزامن مع صدور الثلاثية نصاً لابراهيم نصر الله يتحدث فيه عن دوافع كتابته لـ «الملهاة»، والظروف التي احاطت به اثناء كتابتها، منهجيته التوثيقية التي اتبعها في انجاز هذا العمل الذي يعتبره «مشروع عمر»، ولا بد ان يجد فيه القارىء وجهاً من وجوه الحكاية الفلسطينية، التي «لا بد ان تأخذ مداها في الادب»، وهي لذلك قد تستغرق من ابراهيم نصر الله ثلاث او اربع روايات اخرى. وهنا يكتب نصر الله عن الاسباب والغايات:

ربما كان هذا المشروع الروائي الثمرة المباشرة لما بعد معركة بيروت، التي فرضت حالة من الضياع والتشتت، فاذا كانت المقاومة انتصرت بصمودها فقد كانت هزمت بشتاتها بين ماءين واكثر من صحراء، واذا كانت هزمت بشتاتها فقد انتصرت باحتمالية الصمود التي تحولت الى واقع حرم العدو من ان يكون له نصر كامل، لكننا نحن الذين لم نكن هناك، كانت المعارك ونتائجها تعبرنا بقسوة اخرى، وقد صدف ان قرأت جملة لبن غوريون يتحدث فيها عن الفلسطينيين تقول: سيموت كبارهم وينسى صغارهم. وقد اعتبرت تلك الجملة اسوأ هجاء للشعب الفلسطيني، وهي تكمل تلك الجملة التي لا تقل صهيونية (لو كان الفلسطينيون شعباً لكان لهم ادب).

نعم، هناك حكاية كبرى، هي الحكاية الفلسطينية، يقال انها لم تأخذ مداها في الكتابة الروائية الفلسطينية، والعربية بما يليق بها، وفي هذا القول شيء من الصواب، وشيء من الخطأ بالمقدار نفسه، لأن بعضه يصدر عن جهل، وبعضه استسلم لهذه المقولة منذ اوائل السبعينات ربما، ولم يكلف نفسه عناء اختبار مدى صدقها، لكن السؤال يبقى مشروعاً، حتى لو كتبت هذه الحكاية بما يلبي طموح وشغف المتطلعين لكتابة تسد هذا الفراغ الذي يرونه، لا لشيء الا لأن الحكاية الفلسطينية اكبر من ان يحيط بها عمل واحد، وفي ظني ان اي قضية يحيط بها عمل ابداعي واحد وحيد هي قضية فقيرة، ولا اظن ذلك ينطبق على قضية مثل القضية الفلسطينية.

منذ اواسط الثمانيات، بدأت العمل لانجاز رواية تستطيع قول شيء في هذا المجال، وقد التقيت عدداً كبيراً من الناس وسجلت حوالي سبعين ساعة من الشهادات، وكانت النتيجة اكثر من الفي صفحة شهادات، والى هذه الشهادات التي كنت اوجهها الوجهة التي تحتاج الكتابة اليها، كما لو انني اقوم بعملية مونتاج فورية، اي ان الوعي الفني كان حاضراً ويلعب دوره لحظة بلحظة، هناك عشرات المراجع التاريخية وعشرات المذكرات والدراسات التي تناولت ادق التفاصيل في الحياة الشعبية الفلسطينية ومعتقدات الفلسطينيين من نظرتهم الى بيت النمل الى تصوراتهم للموت والحياة، وكلما كنت اتقدم في المشروع، كنت اراه اكثر اتساعاً مما ظننت، لانني بدأت اعيه اكثر خلال العمل فيه، لا من خلال النظر اليه، من الخارج فحسب. ولذا، فإن اول فكرة حملتها حول هذا المشروع كانت اول فكرة تموت حين بدأت العمل عليه، لأنني تصورت خطأ انني سأكتب رواية واحدة تقول الحكاية، وهكذا تطور الامر واصبحت على قناعة بأن الفكرة الاكثر معقولية ربما، تكمن في وجود عدد من الاعمال الروائية التي تشكل بمجملها هذا المشروع، بحيث يكون لكل رواية شخوصها واجواؤها وشكلها المختلف ومكانها وزمانها ايضاً، وبالقدر الذي وجدت هذا الشكل اكثر امانة للموضوع، فإنني وجدته اكثر تلبية لطموح الكاتب في داخلي، حيث بإمكاني ان اتحرك ككاتب ايضاً بعيداً عن الانحسار داخل شكل روائي، ربما يكون ثلاثية او غير ذلك، بمعنى انه اصبح بإمكاني ان اظل متيقظاً فنياً وعلى مدى سنوات طويلة، ان امارس ذاتي الكاتبة في سعيي لتقديم اشكال جديدة، وسرد مختلف بين رواية واخرى، بدل ان اتكلس لسنوات داخل شكل واحد، لأن عملاً كهذا هو مشروع عمر.

ولعل فكرتي حول شكل الرواية وعلاقتها بالزمان والمكان، املت علي مثل هذا الحل ايضاً، لأنني لا اعتقد ان ايقاع الحياة في الاربعينات والثلاثينات، وايقاعه في الثمانينات وبدايات هذا القرن هي نفسها، وبالضرورة يحتم علينا ايقاع زماننا ووقعه ايضاً ضرورة البحث عن عمل مختلف يكون شكله جزءاً من معناه وليس عالة عليه.

اما اين سيقودني هذا، فأرى انه حتى الآن قادني لكتابة ثلاثة اعمال واذا ما سارت الامور في الاتجاه الذي اتمناه فقد تكون هناك ثلاث او اربع روايات اخرى تصدر ضمن (الملهاة الفلسطينية).

* الخروج من سطوة الحكاية

* في هذه الروايات الثلاثة سعي او محاولة للتحرر من سطوة الفهم العام للحكاية الفلسطينية الذي يعيدها الى مفردات جاهزة، اصبح هناك حذر نقدي وعلى مستوى الذائقة في التعامل معها، كما لو ان المباشرة والتأريخ الفج لفصول هذه التراجيديا الكبرى هو الذي يسم ما كتب او سيكتب من روايات او شعر حولها.

ان اصعب ما في كتابة الحكاية الفلسطينية هو ان عليك ان تكون ضد الذاكرة الجاهزة، والصورة القارة في ذهن الناس عنها، ولا ابتعد كثيراً اذا ما قلت انك تكون مضطراً ككاتب ان تكون ضد الشهادة التي تتكئ عليها، لا من المنظور التاريخي بل من المنظور الفني، بمعنى انك تكتب لتكون احياناً ضد الذاكرة الجاهزة كي توجد ذاكرة فنية، اي ان تحرر الشاهد من شهادته وانت تلقي بكل زوائدها وتقودها لمعناها، وتحرر نفسك ككاتب، لأنك لست في النهاية مدون احداث وسير.

هذه الهواجس لا ابالغ اذا ما قلت انها عذبتني طويلاً، لانك لا تستطيع ان تكون مخلصاً لقضية كبرى كالقضية الفلسطينية وانت تكتب عنها، الا اذا كنت مخلصاً لتاريخ الرواية العالمية العظيم ولمنجزها، ولما يولد اليوم من اعمال كبيرة في مجالات الفنون، وخاصة السينما.

هكذا ذهبت، ربما (طيور الحذر) نحو ذلك الطفل الذي يعلم الطيور الحذر كي لا تقع في فخاخ الاولاد الآخرين عاقداً خلف الطفولة والجناح، وهكذا الامر مع (العريف فؤاد) الجندي في واحد من جيوش الانقاذ العربية في رواية طفل الممحاة، وهكذا الامر مع (زينب) و(سلوى) في زيتون الشوارع، لان ادراك الحياة في الرواية لا يمكن ان يكون الا بادراك التفاصيل، والعلاقات العذبة والجارحة، المضيئة والمعتمة فيما بينها، اما القول الكبير الذي لا يقدم شيئاً رغم اشارته للمكان والزمان بدقة متناهية وكذلك للشخوص فيمكن ان يكون في اي كتاب من كتب التاريخ او اي صحيفة يومية.

ولذا اكتب، ربما، ضد الفكرة السائدة التي تحرم القضايا الكبرى من ان يكون لها تفاصيلها، هذه التفاصيل التي حينما تحضر تكون القضايا الكبرى ظلالاً لها لا غير، سواء كنا نتحدث في الحب او الحرب او الموت او الاغتراب او ما تحتضنه القضية الفلسطينية من اسئلة. لان البشر هم الذين يحضرون، ولان البشر هم الذين يطردون دائماً من كتاب يومهم ومن كتب التاريخ الرسمي، وجوهر معنى وجود الرواية ان يكونوا سكانها.

وفي ظني ان على الكاتب ان يدرك الخيوط الفاصلة بين العمل الروائي والذاكرة المستعادة، واذا لم يستطع ادراك ذلك فيمكن ان يقع في شرك هذه الذاكرة لانها قوية، وجاهزة احياناً. بمعنى لا يلزمها الكثير من الاضافات شكلياً، لكن توظيفها في السياق الفني والفكري للروائي، يؤدي احياناً الى قلب الواقعة، لا لنفيها، بل لتأكيد حضورها اكثر كعمل روائي. فالواقعي والمتخيل هنا يتبادلان الادوار، فقد يكون الواقعي في بعض مقاطع الرواية هو المتخيل، وقد يكون المتخيل هو الواقعي في حقيقة الامر.

ثمة جملة في احد الافلام الجميلة تقول: التاريخ في ذهن السارد، والحقيقة في طريقة السرد. لذلك اعتبرت السرد اهم ابطال الرواية دائماً.

* لماذا الملهاة وليس المأساة؟

* اكثر من مرة وجّه الي هذا السؤال: لماذا الملهاة وليس المأساة؟ اظن ان الامر مرتبط بالمعنى العميق للكلمتين، فكلمة (المأساة) مغلقة بالهزيمة الحتمية لابطالها، بمعنى انها تقفل اي احتمال. ولذا فهي كلمة قامعة، واذا ما عدنا لتعريفها القاموسي: فهي رواية تمثيلية تمثل حادثة خطيرة وقعت بين اناس من العظماء، من شأنها ان تثير الرعب والشفقة.

ولنا ان نلاحظ هنا كلمة (العظماء) ايضاً، والرواية اصلاً لم توجد كجنس ادبي الا لتكون نقيض العظماء هؤلاء، لأنها اعادت البطولة للانسان البسيط، ابن الشارع، ولتاريخه الفعلي. اما كلمة الملهاة، وهي غير موجودة في المعاجم العربية القديمة، لانها محدثة، فهي تحمل في جذورها ظلالاً غاية في التعدد والدلالات المتصارعة، التي يمكن ان يتم تأملها بصورة مقنعة في الحال الفلسطيني، من علاقة الشهيد بوطنه، الى علاقة االشعب بمجمله بوطنه، الى علاقة النظام السياسي العربي بهذه القضية وصولاً الى علاقة بريطانيا بها، ومن هذه المعاني: لها بالشيء، لهوا: أولع به. لها، لهيانا عنه: اذا سلوت عنه وتركت ذكراه واذا غفلت عنه. وقال تعالى (لاهية قلوبهم) اي متشاغلة عما يدعون اليه. وتلاهوا: اي لها بعضهم ببعض. ولهوت به: احببته. والانسان اللاهي الى الشيء: الذي لا يفارقه. واللهوه واللهيه: هي العطية. وقيل: افضل العطايا واجزلها.

واذا ما اخذنا بأن وجود اسرائىل من سخريات القدر، وزلات التاريخ التي لا بد ان يعتذر عنها في النهاية، فإن تعبير الملهاة اكثر عمقاً، رغم انه قد يبدو صادماً للبعض في البداية.