فك الارتباط مع صورة الرئيس

فاضل السلطاني

TT

باولو كوييلو، كما نعرف من اللقاء المنشور هنا، ذاهب لزيارة العراق ليس على طريقة القائد العمالي التاريخي توني بين، الذي وقف كتلميذ صغير لم يحفظ درسه تماماً امام حضرة الدكتاتور، ونسى كل ما ناضل من اجله طوال عمره المديد، وليس على طريقة الكتاب العرب المربديين الذين تلقوا اخيراً دروساً في الوطنية والقومية على يد طارق عزيز. كوييلو ذاهب لهدف آخر. وهو هدف جليل لكنه يحمل في ثنياته كل رعب العالم. يقول لنا انه لا يتصور الشعب العراقي سوى شعب ذي شوارب كثيفة، وان العراق شيء من كاريكاتير وهو ذاهب الى هناك ليتعرف على كتاب وشعراء هذا الشعب، اذ لا بد ان يكون له كتاب وشعراء مثل اي شعب في العالم.

يريد كوييلو ان يقلب المعادلة المرعبة، ويوقفها على قدميها، ويمزق الصورة ليتعرف على الاصل، وهي صورة مؤطرة يطل منها شخص واحد بنياشينه وتقطيب جبينه.. وشواربه. انها صورة لا تحتل فقط جدران العراق، بل جدران العالم كله. وقلما حصل في التاريخ ان ماهى العالم بين شخص وبلد، ورجل ووطن كما يحصل الآن مع العراق.

ولكن اليس هذا هو هدف اي ديكتاتور؟ أنا الأمة، والأمة انا. اختٌزلت الأمة الفرنسية في لويس بونابرت الذي اخذها على حين غرة، حسب تعبير ماركس، وعلّم هتلر الامة الالمانية كيف ترقص على ايقاع الخضوع، كما يقول هايزيش مان.

هل يعرف التاريخ العصاب ايضاً؟ يبدو ان الامر كذلك، ولاحظوا كيف اختفى ضمير الجماعة في الحالة العراقية ليحل محله ضمير الفرد. لم تعد الصورة الاعلامية، التي ستترسخ في وجداننا طويلاً، تتسع لاثنين، بل شخصية واحدة هي الظل والنور، والبؤرة والاطار.

ومن التقط هذه الصورة وثبّتها وأطّرها، يريد ان تبقى هكذا في اللحظة الراهنة على الاقل، ويريد للعالم ان يستقبلها هكذا. انه الدكتاتور من ناحية، واعلام الصورة من ناحية اخرى. لعبة ماهرة تخدم الطرفين.

من يهتم بما يجري خارج هذه الصورة؟ من يمد عينيه خارج الاطار قليلاً ليرى الواقع الفوّار المفجع بملايينه المتأرجحة منذ عقود بين الحياة والموت، وتاريخه المحجوب بالصور الاصطناعية، ونخيله المصلوب، وشعرائه وكتابه الذين يبحث عنهم السيد كوييلو، ومدنه الضائعة؟ ان الفيلم الوثائقي الذي قدمته هيئة الاذاعة البريطانية، القناة الرابعة، اخيرا عن «مدن العراق الضائعة»: بابل ـ التي اعاد بناءها الدكتاتور في محاولة مضحكة للتماهي مع نبوخذ نصّر ـ وسومر وأكد وأور.. هذه المدن المنسية التي غطتها عربياً وعالمياً صورة الرئيس، هي محاولة تلتقي جوهرياً مع محاولة كوييلو: مسح الصورة الطاغية التي تمكنت من عقول ووجدان الناس عن العراق، وفك الارتباط بين شخص وبلد. لقد بكى المؤرخ الانجليزي دان كرويكشانك، الذي اعد الفيلم، وهو يمسك بالتراب، تراب المدن المنسية، وينثره بين يديه، وبكى وهو يسقي الحجر اليابس بالماء، وسيبكي كوييلو حين يكتشف شعراء وكتاب العراق المنسيين، وسيعرف ان البلد ليس كاريكاتير او مجرد شوارب غليظة، طبق الاصل من شوارب الديكتاتور.. وسيمزق حينها الصورة العتيقة.