مدام توسو .. فن تحويل الرعب إلى مادة مضحكة

صاحبة متحف الشمع طبقت فنها أولا على ضحايا المقصلة الفرنسية عام 1789

TT

في احدى قصصه يصف الروائي الانجليزي الكلاسيكي جارلس دكنز، بشكل جميل تماثيل مدام توسو «مجاميع مذهلة من الشمع تقف بهذا الشكل او ذاك، غير ثابتة، على سيقانها، بعيون وسيعة ومناخير منتفخة جدا.. ملامحها تعبر عن دهشة كبيرة، وجميع السيدات والسادة يتطلعون بعمق في اللامكان، ويحدقون بجدية غير اعتيادية في اللاشيء».

اذن، شخصية مدام توسو شخصية مخيفة لأن أشكالها مسكونة بأرواح ميتة مرعبة وهي اشكال شخصيات ميتة وكأنها محنطة. وهي ايضا اشكال تبعث على الضحك لأنها تحتقر القوة وتحيلها دمية. فهذا هتلر الذي ارعب العالم بقسوته وسطوته تنظر اليه وكأنه يكاد ان يتنفس من شدة دقة التماثل، لكنك حال ان تدرك ان كل هذا ليس سوى مادة من الشمع عندئذ لا يسعك الا ان تضحك.

اول اعمال ماري توسو كانت اعمالا من الشمع لأموات عام 1789 عندما كانت تعمل موديلا لصالون فيليب كيرتس الباريسي لاعمال الشمع، كانت تعزل رؤوس الضحايا المقطوعة حديثا بالمقصلة وتنتقي منها الاشهر لتصب عليها قوالب الشمع. عشية الثورة الفرنسية كان على الصالون ان يداري احواله ويتعايش مع السياسة الفرنسية الجديدة، لذا قام صاحبه باذابة كل تماثيل الحرس القديم وبسرعة اخذ يصب اشكال الشخصيات الجديدة. وحين لاحظ كيرتس ان تمثال الماركيز دي لافييه لم يزل معروضا لعدة اشهر بعد الثورة، شعر بالحذر واخرج الموديل الى الشارع ومثلّ قطع رأسه. تقول مؤلفة الكتاب باميلا بلبيم وهي بروفيسورة للتاريخ الفرنسي في كلية رويال هولووي في لندن ان الاعدامات اليومية بواسطة المقصلة في الشارع كانت تمنح الباريسيين اثارة كبيرة اكثر مما لو تحدث على المسرح، اضافة الى انها فرجة مجانية.

تعلمت توسو صب التماثيل وعملت بنجاح كموديل، وعرفت ايضا ان تصبح سمسارة لجمهور متقلب المزاج، وادركت القيمة التجارية التي تأتي بها الشخصيات الشهيرة ومواضيع الرعب. عام 1803 وفي سن الواحدة والاربعين اخذت ابنها الاكبر ذي الاعوام الاربعة ومجموعة من التماثيل الشمعية وغادرت الى بريطانيا، متخلية عن زوجها المبذر للمال وابن ثان لها. وبعد فترة وجيزة من وصولها بريطانيا اصبحت توسو واحدة من انجح سيدات الاعمال في عصرها.

في بريطانيا مطلع القرن التاسع عشر كانت اشكال الشمع تعتبر من الاشكال الشعبية. وكانت هذه الاشكال تعرض في المعارض والاسواق المحلية، وكان تمثال فينوس يستخدم للتشريح في المعاهد الطبية وفي نفس الوقت للمتعة الحسية.

وحينما انهكت توسو من التطواف بتماثيلها الشمعية خلال المدن الانجليزية، قررت التخلي عن اسلوبها التقليدي هذا واستقرت في مكان قريب من «بيكر ستريت» في لندن. وخلال الثلاثينات من القرن التاسع عشر شرعت بجعل اعمال الاشكال الشمعية اعمالا محترمة، لكنها لم تبتعد كثيرا عن الاشكال ذات الطابع الحسي او تلك التي تتسم بالدموية، بل انها في الواقع زادت من حدتها.

ولاغراء الطبقة المتوسطة في المجيء الى معرضها، قامت توسو على ابرازه كعنصر ثقافي يستلهم المبادئ الملكية. وكانت تماثيلها المركزية تتألف من ملوك وملكات انجلترا، ثم وصلت حدا لعبت فيه على جمهورها لعبة علاقتها بالعائلة الملكية الفرنسية وادعت انها عاشت لفترة من الزمن في قصر فرساي. وعلى اثر هذا الادعاء، تلقت عرضا من دوقة يورك، زوجة الابن الثاني لجورج الثالث وراحت تثبت هذا العرض على الملصقات التجارية التي تعلن عن عروضها. كان العرض مؤثرا فالدوقة التي هجرها زوجها الى امرأة اخرى ارادت تمثالا لطفل صغير.

كانت مدام توسو تقوم يوميا بإزالة الغبار المتصاعد من ارض المعرض عن مجاميعها، وتضع موديلاتها في غرف الرسم الانيقة وتعنى بتماثيلها وتنظف وتكوي ملابسها باستمرار. وضمت في ما بعد الى تماثيلها تماثيل الطبقة الدنيا من المجتمع، مثل حفاري القبور بورك وهير اللذين كانا ينبشان القبور ويخرجان الجثث منها، وقد صنعت لهما موديلات خلال ساعات اعدامهما بالمقصلة، ومنذ ذلك الحين واظبت على عمل تماثيل للمجرمين واصبحت صالة الرعب من اشهر صالات توسو.

أكدت ماري توسو كثيرا على مسألة التوثيق منذ ان منحت تماثيلها جوا من الاهمية التاريخية. وبعد معركة واترلو صنعت موديلا جديدا للامبراطور نابليون حصدت منه ثروة كبيرة. وتلاحظ الكاتبة باميلا ان المظهر الخارجي للشخصية هو الذي يهيمن على وعي مدام توسو، كما في روايتها عن عودة نابليون الى باريس في 1799، ووصفها لملابسه «كان يرتدي زي المماليك: سروالا ابيض واسعا، جزمة حمراء، صدرية كثيرة الزخارف، وجاكيتا مصنوعا من المخمل الاحمر». تطابق الصورة المعروفة عنها في تعاملها مع المظهر الخارجي وحبها ان تجعل من نفسها موديلا. وكان آخر تمثال من الشمع صنعته قبل موتها عام 1850، لم يزل ينتصب عند مدخل متحفها، وهي ترتدي زي ارملة في العصر الفيكتوري وثوبا حريريا اسود ذا ياقة مرتفعة وقلنسوة سوداء ذات حاشية بشريط ابيض ونظارتين طبيتين مدورتين.

ترى الكاتبة ان اعمال توسو ظلت شعبية لانها تمثل التاريخ على شكل توثيقي حيث تأتي التواثيق في المقام الثاني بعد التاريخ. ومن هذا الكتاب نعلم كثيرا عن معارض التماثيل الشمعية في باريس اثناء الثورة الفرنسية وانجلترا في العصر الفيكتوري، ونعرف ايضا ان مدام توسو كانت مخلوقة باردة الدم وكل ما لديها من موهبة هي موهبة جمع المال، وظلت حتى بلوغها التسعين عاما تجلس امام بوابة متحفها الشمعي متقرفصة في كابينة خشبية صغيرة في برد الشتاء وهي تجمع مبالغ سمة الدخول الى المتحف.

* مدام توسو وتاريخ تماثيل الشمع

* المؤلفة: باميلا بلبيم

* الناشر: هامبليدون ولندن،لندن 2003