كيف خرجتُ من كهف الظلال؟

محمد الأسعد *

TT

في العقد الاخير من القرن العشرين صادفت بضعة كتب خلال رحلتي بين المواجهة العربية والاجنبية. ولا ادري ان كانت كلمة مصادفة دقيقة في هذا السياق، لأن معرفتي بهذه الكتب جاءت مترافقة مع حدث آخر، وهو اقتلاعي من مكان اقامتي في الكويت بسبب حماقة غزو كانت أسبابه تتهيأ منذ السبعينات. يبدو الامر سببيا، ولكن العجيب ان هذه الكتب جعلتني أعيد النظر في مفاهيم عديدة ليس أبرزها مفهوم السبب والنتيجة، ولا تعاقب الازمان والاحداث، بقدر ما هو مفهوم «المعنى» الاكثر عمقا: معنى ان أكون. هل هي مراجعة أم اضاءة؟ ما قرأته في هذه الظروف، وتحت سماوات متنوعة، ومناخات متفاوتة بين امطار وثلوج وشموس، كان يضيء في الحقيقة تاريخي مع القراءة، ويجعل الجهد المتواصل منذ الطفولة شيئا يستحق الاحترام كان ثمرة لا تتنكر للانساغ، ولا للتافه والضئيل الاهمية، ولا حتى للترجمات الرديئة التي افحمت صبانا وشبابنا، ولا للجهود الفكرية المسروقة التي لم اعرف الا متأخرا انها من غنائم كتّاب عرب طاروا بأرزاقهم المسروقة من موائد الآخرين قبل ان نكتشفهم. كان ثرة تحتضن كل هذا وتتجاوزه الى ما هو أبقى وأنقى. ولأبدأ بكتاب «الطاو» في نسخته الانجليزية. كان هذا الكتاب في متناولي منذ الستينات بترجمته العربية الردىئة عن الالمانية لعبد الغفار مكاوي، ولكنه لم يترك في نفسي سوى احساس غامض بأنه كتاب عظيم تعرض لسوء فهم مترجم. الترجمة الانجليزية وحدها للاستاذ ر. ب. بلاكني حملت لي بشائر تجربة الصيني «لاو تسو» صاحب الطاو في المشهور من القول. ووحدها أثارت في مخيلتي علاقات واصداء لم تكن ملموسة بين الديانات الشرقية، بما فيها الديانة الاسلامية، بسبب جناية المنطق اليوناني وثنائية افلاطون العزيزة على قلوب المبتدئين. ووجدتني اترجم العنوان «طريق الحق والفضيلة» او «طريق الحياة» الى «سواء السبيل والهدى»، مدفوعا باحساس قوي بأن «الهدى» هي اللفظة الدقيقة، وان «سواء السبيل» هو الترجمة الوافية لصورة الكلمة الصينية (القدم الدالة على السير ورأس الانسان الدال على الفكر والنظر). الطاو ليس طريقا او اي طريق، كما جاء في اول سطور هذا النص الديني العظيم، بل هو «الطريق القويم»، واي صفة اجدر به من «سواء السبيل»؟

وتبينت معنى آخر مع كتاب «الاغتراب» للألماني «رتشارد شاخت» وايضا عبر ترجمته الانجليزية لا العربية. فالاخيرة لم تسقط سطورا وفقرات فقط، بل ولوت اعناق المعاني والدلالات ليّا جعل قراءته بالعربية تعذيبا لا يطاق. وللحق اقول، ان كتاب «شاخت» هو الذي اضاء في ذهني غوامض فلسفة هيجل وروحه الكوني الشهير، وماركسية ماركس الانسانية ووجودية سارتر المتجهمة وصوفية اريخ فروم العذبة ومنهجية كارين هورين النفسية ـ الاجتماعية، وعالم مارتن بوبر الماوي، بعد ان كانت قد وصلتني مشوهة في مطلع شبابي على يد مترجمين ادرك الآن حجم الخطايا التي ارتكبوها. فأدركتُ معنى «الاغتراب» الملتبس بين شتى التيارات، من اكثرها جدية (هيجل) الى اكثرها سطحية (سارتر)، ولأول مرة ينكشف لي ان للاغتراب معنيين: الاول اغتراب الانسان عن ماهيته الحقة (وجوده الوطيد) حين ينأى في فرديته وجسيميته منسلخا عن جانبه الموجي، والثاني اغترابه حين يندمج في كلية شاملة تفقده فرديته (الدولة والنظام البيروقراطي) ولم اعرف معنى «الكلية» الجميل الذي حام حوله هيجل الا مع كتاب «المجتمع الكوانتمي» للباحثة دانا زوهار، وهو الكتاب الثالث الذي اضاء ما سبق واضاف اليه: اضاف معنى للتجربة الروحية وعلاقة الجزء بالكل والفرد بالمجموع، باستنباط معنى «الانبثاق» للشخصية من عوالم فيزياء الكوانتم ومتضمناتها الفلسفية. عالم كل ما فيه ممكن ومتعدد ولا يقيني ولا حتمي وحيث السيادة للسياق على المعنى الجاهز، وحيث «يتمثل» الشيء خارجا من بحر ممكنات حاملا آثارها. وفتحت لي هذه المفاهيم مغالق كانت قبل ذلك مبهمة في الثقافة والتاريخ والخلق الفني والعلاقات الانسانية، والاكثر اهمية انها كشفت عن اصل عبوديتنا للحقيقة الواحدة في التصورات البشرية وحدودها لا في الواقع الباطن ذي الوجوه المتعددة، وكشفت عن القيد الحديدي الذي عاشته البشرية بين خيال اما/ أو الميكانيكي الذي اورثتنا اياه الفلسفة اليونانية، ومنحه «نيوتن» اطاراته الحديدية، وحوّلنا به حياتنا الى متاهة مغلقة نتصادم فيها افرادا وجماعات وعقائد وافكارا من دون ان نجد خيطا. وكان كتاب «المجتمع الكوانتمي» خيطي، او خيط «اريادني ـ الاسطورية»، مع فارق ان الوحش الخرافي الذي صار مطلوبا ان نصرعه (الميناطور) قابع في داخلنا، واستيقظت على معنى عبارة «نحن حوار» للساحر «هولدرلن»، ليس كما فهمها «هيدغر» السجين في نقطة ماء، بل كما ادركها هكذا: أنا وأنت وما نملك «حقائق» لا متحدة. يدفع بها حوارنا، علاقتنا، تطورنا، الى ان «تتمثل» من غير سوء، فتجيء من قلب لا تحددنا منبثقة غير مسبوقة. لسنا جاهزين بأي معنى من المعاني، لا بفرحنا ولا رعبنا، لا بحبنا ولا حقدنا، نحن «حوار» اي ممكنات بكل ما يعنيه هذا من احترام لكينونة الكائنات وحقها في الوجود، بدءا من النجم ومرورا بالانسان ووصولا الى الحجر.

هنا، وعند هذه التقاطعات جاءني الكتاب الرابع، كتاب «قصيدة الهايكو اليابانية» لكينيث مايسورا من اليابان، كأني كنت على موعد معه. فجاءت وحدة الكون كما تتمثلها عقيدة الفرق (البوذية اليابانية) في اكثر صور الشعر صفاء، او جاء الشعر في ضوئها بأشد صوره نقاء، وحدة الانسان والطبيعة، والانسان والانسان والارض والسماء بصور حدسية، والصور وحدها، حيث لا يمكن التعبير عن هذه الوحدة العليا التي تعلو على المستوى الظاهر للواقع، وتغوص الى عمقه الباطن الا بالصورة. واضاءت الهايكو ببساطة ما حاولت «السريالية» الوصول اليه عبثا. وتلاشت الثنائية، من افق تفكيري، ولم تعد الاشياء اما هذا او ذاك، بل اصبحت هذا وذاك واشياء أخرى. وما عدت أرى الاشياء الا في شبكة من واقع اعمق، حيث لا داخل ولا خارج، ولا فوق ولا تحت، وبدل ان يجد المطارد والطريدة وفاقهما وتناغمهما بين النجوم كما يقول ت. س. اليوت بعد رحلة ارضية اتبع فيها كل منهما نسقه الخاص به، اصبحت أرى ان من الممكن ان يجدا الوفاق والتناغم على الارض، وان نسق المطارد والطريدة ليس نسقاً انطولوجياً (مبدأ وجود)، بل اختراع ذهني لا تعرفه الارض، الارض التي ابكت «نيتشه» لفرط براءتها.

* كاتب فلسطيني مقيم في الكويت