محاورون «حماميز» وصحف وتخريف ثقافي

عبد الله الناصر يلجأ لفن المقالة لبث هواجسه الثقافية والاجتماعية في «بالفصيح.. كتابات معاندة»

TT

لفت نظري في تاريخ «فن المقالة» العربية ان اساطين «فن المقالة» الذين عرفتهم صحافتنا العربية على مدى ما يزيد على قرن ونصف من الزمان، كانوا، بدرجات مختلفة من كتاب القصة، وخصوصا القصيرة، او ممن حاموا حول حماها، كما كانوا، في غالبيتهم، من أصحاب الرأي والضمير الذين ساهموا بقسط وافر، لا أظنه درس اكاديميا بما يكفي، في تشكيل الرأي العام، وضميره ومحدداته الاخلاقية.

فاذا كان كتّاب مثل طه حسين او عباس العقاد او عبد القادر المازني، او حتى يوسف ادريس، قد خاضوا لجاج القصة، وأصبحوا علامات على مرحلها، واعلاما لمدارسها، فانهم، ايضا، عرفوا بأنهم، جميعا من اساطين «فن المقال»، ومن سادته المبرزين. نفس المنطق ينطبق، لكن بشكل عكسي،على كبار كتاب المقال الصحافي في صحافتنا العربية، إذ ان اسماء، ارتبطت على مدى سنين طوال، بالمقال الصحافي، مثل مصطفى امين وانيس منصور وصلاح عيسى، وغيرهم من كبار الصحافيين، الذين احترفوا كتابة «العمود الصحافي»، كانت لها تجارب روائية وقصصية ما تزال حية في اذهان القراء.

والكاتب السعودي عبد الله الناصر اثبت، بكتابه الاخير الذي صدر في بيروت عن دار رياض الريس للنشر، وحمل عنوان «بالفصيح ـ كتابات معاندة»، انه ليس استثناء، فهو في الاصل كاتب قصة قصيرة من طراز متميز ورفيع (اصدر مجموعتين قصصيتين، هما «أشباح السراب»، و«حصار الثلج»)، وواحد، كما يشي كتابه الجديد، من أساطين» فن المقال.

يضم بين دفتيه عشرات المقالات المتنوعة التي كتبها في ظروف ومراحل زمنية مختلفة، وقسمّها الى خمسة اقسام، أسماها على التوالي: هواجس سياسية ـ هواجس ثقافية ـ هواجس فكرية ـ هواجس اجتماعية ـ هواجس وجدانية.

لكن أهم ما قد يلفت نظر قارئ اجزاء هذا الكتاب الخمسة هو الروح القصصية التي تشيع في جنباته، وقدرة المؤلف الواضحة على اقتناص «الروح الدرامية» للفكرة التي يتناولها، وطريقة بنائها، ولغة صياغتها التي تتسم بقصر الجملة وسلاستها وسهولتها التي تمتنع على كثير من اولي العزم من اهل القلم. فاقرأ مدخل مقالته التي عنونها: «أكفر من حمار»، عندما يقول:

* ألم تر ان حارثة بن بدر ـ يصلي وهو اكفر من حمار

* اذكر ان هذا البيت كان مثار جدل في احدى الجلسات، فقيل كيف يكون الانسان أكفر من حمار؟ والشاعر هنا قد شذّ شذوذا مستنكرا في وصف حارثة بالحمار الكافر. الحمار لا يمكن ان يوصف بالكفر او التقوى. ولم نسمع بأن هناك حمارا ملحدا وحمارا تقيا زاهدا. وقال آخرون بل ان التشبيه جائز، فالحمار بليد نجس يتحمل الاذى، وصوته منكر، واذا شبع داس الاكل برجليه، ونهق ورفس، فهو لا يتمتع بأخلاق الجواد ولا بذكائه.. فهو بذلك كافر أو أشد كفرا من الكافر.

وبالاضافة الى الروح «الدرامية» التي تبدو واضحة في المقالات التي ضمها كتاب الناصر، (وهو كتاب ضخم من 483 صفة من الحجم المتوسط) بين دفتيه، تبدو ثقافتة «التراثية» الرفيعة بادية للعيان، وخصوصا عندما يتوجه بنقده للمجتمع، بشرائحه المختلفة، وهو نقد لم يسلم منه أحد، حتى المثقفون، وادعياء الثقافة، ونجوم الحوارات التلفزيونة الجدد من بينهم، إذ خصص مقالته التي اسماها «الحماميز»، لكشف زيف وكذب وادعاء هؤلاء الذين يطلون علينا من شاشات تلفزيوناتنا كل يوم، وهم يرطنون بكلام بلا معنى، والفاظ طنانة، لا تحمل الا الخواء. والناصر هنا، يستخدم «تكنيكه» القصصي الاثير، ليشد انتباه القارئ، ويبلغه الرسالة برقة ودهاء، يقول: «يحكى ان أحد الخلفاء أو الامراء نادى غلاما له اسمه عبد الله، فلم يستجب لندائه، فغضب الامير غضبا شديدا وسأله: لم لم تجب حين ناديتك؟ فقال: أيها الامير، كلنا عبيد الله، فلم أدر من المقصود فينا. فأعجب الامير الردّ اعجابا جعله يعتقه، ويوليه أحد اعماله، لفطنته وذكائه وسرعة بديهته.

وكان لهذا الامير غلام اسمه حمزة، فناداه ذات يوم فلم يجبه، فغضب منه، وحين سأله قال: أيها الامير كلنا «حماميز» الله، فلست أدري ايّنا تريد غضب الامير غضبا شديدا، وطلب من غلمانه ان يطرحوه أرضا وان يشبعوه جلدا وركلا.

ويستكمل الناصر مقالته، ليدخل في صلب الرسالة التي يريد توصيلها لقارئه، قائلا: «تذكرت هذه الحكاية وأنا أشاهد مقابلة مع أحد أولئك الذين ظلوا طويلا يلمعون انفسهم، ويحاولون الظهور ما بين الفينة والفينة، ويقحمون انفسهم في حوارات ليسوا من أهلها، وليسوا بقادرين على الخروج منها بسلامة.

لقد ضحكت كثيرا من ذلك الشخص وهو يستعمل عبارات وجملا يستخدمها شخص آخر معروف بمقدرته وتمكنه وحضوره القوي في الحوار. ونسي اخونا ان الحوار موهبة، وحضور مسرحي، يشد المشاهد من خلال مقدرة خاصة. اذ ان للحوار شروطه، فليس التأنق في المظهر، وافتعال الحركات، ومد الصوت او خفضه هي مؤهلات المحاور الناجح.

لقد ارتبط «فن المقال» الصحافي، ربما منذ نشأة الصحافة الحديثة بشكلها الذي نعرفه، بالدعوات الاصلاحية، سياسية كانت أم أخلاقية، أم اجتماعية، بل يمكن لكثير من المهتمين بعلم الاجتماع ان يقرروا بضمير مرتاح ان مقالات الصحف والمجلات ساهمت، في عصرنا بقسط وافر، في بناء الضمير الجمعي للمجتمع، ورسم تخومه الاخلاقية، والقيمية. لذلك لم يكن غريبا ان يخصص الناصر الجزء الرابع من كتابه «هواجس اجتماعية»، لنقد الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والاخلاقية، وتحليلها، بل فضحها.

مثلا يحلل المؤلف شخصية «الواشي»، في واحدة من مقالات الكتاب المميزة، التي تكشف عن خبرة انسانية عميقة، وضمير حيّ، وتحمل عنوان «طباع العقرب»: «هناك اناس ابتلاهم الله بقبح عظيم.. ليس القبح في مفهومه الشكلي، فقبح الشكل يعوضه احيانا السلوك الرفيع والعمل الطيب، والخلق الكريم. ولكن القبح هنا معنوي، هذا من اشد انواع القبح، بل اشدها مقتا وكرها، هذا القبح الذي اعنيه هو: حب الاذية، والبحث عن المكائد، والترصد، وتصيد الزلاّت والاخطاء، فيلتقطونها ثم يظهرون موهبتهم الخارقة، وتفننهم في تحويل ذلك كله الى أذى.

ويبقى ان مقالات عبد الله الناصر المعاندة، تستحق صفة «العند»، لروحها القتالية، لدرء، كما قال الناشر في تقديمه للكتاب، «التفسخ السياسي والتخريف الثقافي الذي نشهده في الصحافة العربية والقنوات الفضائية التي أخذت على عاتقها مهمة ترويج الجهل والامية، ومحو الثقافة الاصيلة».

* بالفصيح ـ كتابات معاندة

* المؤلف:عبد الله الناصر

* الناشر: رياض الريس للنشر ـ بيروت