الضحية يكتب سيرة الجلاد

فاضل السلطاني

TT

أمامنا «روايتان» عراقيتان صدرتا في وقت واحد، وبطلهما رجل واحد. الاولى «كتبها» جلاد يروي فيها سيرة حياته كما كان يشتهي ان تكون، والثانية كتبها ضحية، منفي منذ ثلاثين سنة، ويتناول فيها سيرة جلاده كما هي في الواقع. ومن هنا، فالروايتان مختلفتان جدا، ومتشابهتان جدا في الوقت نفسه. فكلا المؤلفين استخدما اسمين مستعارين، الاول عن تعال، والثاني ربما عن خوف ـ من يقرأ الرواية، يعرف اسلوب الكاتب وهو شاعر وروائي معروف ـ واسماء الشخصيات هي نفسها تقريبا مع تحويرات بسيطة. في الاولى، «بطل الرواية» هو فرد مطلق، كما هو في الحياة، وفي الثانية هو شخص يتحرك ضمن واقع فوار بالشخوص الثانوية والرئيسية والمؤامرات والانقلابات والدسائس الكبيرة والصغيرة، مثل اي شخصية روائية حقيقية.

في الرواية الاولى «رجال ومدينة» لـ«صاحبها»، نلتقي بصدام حسين الذي سمى نفسه «صالحا»، ونعرف انه قضى طفولته في رعي الغنم ـ كما كان بعض الانبياء في طفولتهم ـ محاطا برعاية الام وحبها.

واحتفظ «صاحب الرواية» بالاسم الصريح للام وهو «صبحة»، وكذلك بالاسم الصريح للخال «خير الله طلفاح»، واسمي الفخذ والعشيرة «البيجات، والبوناصر»، واسم المدينة تكريت.

لم يتغير سوى اسم البطل من «صدام» الى «صالح»، واستبدلت الرواية بطفولة شقية معذبة محرومة من كلا الاب والام طفولة لا اشهى ولا اعذب، اذ كانت الام تروي له قصص الاجداد، ويداها الحنونتان تمسدان شعره. لا نقرأ شيئا عن هروب البطل وهو في السابعة او التاسعة من عمره من الام هذه وزوجها، الذي هو عمه، ليعيش في كنف خاله خير الله طلفاح.

انه فصل محذوف من رواية حياة يراد تشكيلها من جديد، وتقديمها للتاريخ من جديد على انها الحقيقة. وهي العقدة التي ستتحكم في شخصية البطل الواقعي الموهوم، لتنفجر نتائجها الكارثية في دورة تعيد نفسها دائما كلما حاول البطل صنع ذاته من جديد، مرة على شكل طفولة متخيلة، واخرى على شكل تماه مضحك ومأساوي مع شخصيات تاريخية سكنت خيال ذلك الطفل الذي لم ينضج بعد، او نضج بشكل مقلوب الى حد مخيف.

وهذا ما تلتقطه الرواية الثانية «عالم صدام حسين» التي ننشر فصلا منها في هذا العدد. انها تنطلق من تلك الطفولة المعذبة، المحرومة من كلا الأبوين، لتفسر لنا، او لتعيننا، على فهم ماذا سيحصل بعد ذلك. وهو فصل لم يغفله كل كتاب سيرة صدام حسين، وآخرهم ابراهيم الزبيدي في كتابه «دولة الاذاعة»، الذي نشرت «الشرق الأوسط» فصولا منه قبل أيام.

وبالطبع لا يكفي علم النفس لتفسير ظاهرة صدام حسين، لكن طفولة الطغاة قاسم مشترك في كل الروايات التي كتبت عنهم وخاصة رواية «خريف البطريرك» لغارسيا ماركيز، التي تكاد تقول لنا «ابحثوا عن الأب» او دور غياب الاب، بشكل اكثر تحديدا، في تشكيل اي طاغية.

لكن ماركيز، ومثله ماريو يوسا في رواية «حفلة التيس» صنعا روايات حقيقية، ولم يكتبا سيرة، روايات تستند الى وقائع تاريخية وشخصية، فهذه وحدها لن تصنع رواية، اذا لم ترتفع الى مصاف فني يتحرك ضمن شروط العمل الابداعي ذاتها، وحسب تطور احداثه وشخصياته ومساره الروائي، وهذه ما افتقدت اليه مع الأسف رواية عالم صدام حسين. انها سيرة، وسيرة جميلة، عن العالم الرهيب لهذا الرجل، وأوهامه وقسوته، وصعوده الغريب والسريع من طفل شقي شبه جاهل، وقاتل محترف الى اعلى منصب في الدولة، كما انها تفكيك لمجتمع تسيّره قوى تتحرك في الظلام بلا هدى، مثل قطط سوداء في ليل اسود، مجتمع سمح في لحظة ضعف رهيبة لذلك الرجل ان يتسلق اعلى درجة في سلمه. ومع ان الفارق بينه وبين لويس بونابرت كبير جدا، فلا بأس ان نستعير هنا ما قاله ماركس عنه: لا يغفر التاريخ لأية امة ان يأخذها مثل هذا الرجل على حين غرة.