فيدال في محاولة جديدة للإجابة عن السؤال الذي يؤرق الأميركيين: لماذا يكرهوننا؟

TT

«لماذا يكرهوننا الى هذا الحد؟» كان هذا هو السؤال الذي طرحه الرئيس الاميركي جورج بوش عشية اعتداء الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، بل وطرحه جلّ الاميركيين على أنفسهم. ولقد حاول بوش نفسه ان يقدم إجابة له، بيد ان ما جاء به كان أقرب الى المراوغة والتهرب، وهذا ما أتاح لعدد كبير من المعلقين والكتّاب الاميركيين ليسوقوا إجابات مختلفة بعضها صريح وقاس في صراحته. ومن هذه المحاولات، تبرز على نحو خاص محاولة غور فيدال، الروائي وكاتب المقالة المشهور، كما ترد في كتابه «حرب دائمة في سبيل سلام دائم» الصادر حديثاً.

أهمية كتاب فيدال الجديد تعود الى امرين اثنين: أولاً مكانة صاحبها في الحياة الثقافية والسياسية الاميركية، وثانياً، الربط الذكي والنادر الذي يتوسله الكاتب ما بين هجوم الحادي عشر من سبتمبر وحادثة تفجير المبنى الفيدرالي في «اوكلاهوما سيتي» عام 1995 .

ويُعدّ غور فيدال من كبار الأدباء الاميركيين في القرن العشرين وأشدّهم إثارة للجدل. ورواياته التاريخية وغيرالتاريخية تبدو مجتمعة أقرب الى مشروع كبير ومتعدد الأجزاء لكتابة سيرة الولايات المتحدة منذ الاستقلال وحتى اليوم. فتعرض لبعض أهم الحوادث التاريخية والمواقف الخطيرة التي شهدتها أميركا، من الحرب الأهلية الى الحرب الباردة، هذا بالإضافة الى اختراقها كواليس السياسة وتوغلها في حياة الكبار والخالدين الأميركيين متطرقة الى مسائل حسّاسة ومحرمة، ودائماً بأسلوب ادبي تهكّمي، غير هيّاب او مهادن.

الى ذلك فإن فيدال من ابرز كتّاب المقالة في الولايات المتحدة، وربما في العالم، تتناول مقالاته مختلف جوانب الحياة السياسية والأدبية الاميركية، بذلك الاسلوب الذي لا يخلو من السجالية والتهكم، وهي تبدو وكأنها تتمة لأعماله الروائية، والعكس هو الصحيح، على ما يلمح بعض الخبثاء ممن يشككون في الأهمية الفنية لأعماله الإبداعية.

ولكن ليس دراسة تاريخ الولايات المتحدة، ولا متابعة ما يجري فيها والتعليق عليه، وحدهما ما يمنح أعماله أهمية، وحكمه وزناً. وإنما أيضاً حقيقة انه ينتمي الى طبقة الحكم السياسي. وسواء من خلال علاقة القرابة التي ربطته وتربطه ببعض العوائل السياسية (شأن غور وكينيدي) ام من خلال علاقة المهنة (والده عمل لصالح ادارة الرئيس الأسبق روزفلت، وهو نفسه كان قد ترشّح لمجلس الشيوخ باسم الحزب الديمقراطي، فضلاً على صداقته الشخصية لجون كينيدي) فلقد كان على صلة قريبة بأصحاب القرار السياسي وبالمؤسسات التي يديرونها، مما قيّض له معرفة نفوسهم والدوافع التي تحكم سياساتهم الإدارية وقراراتهم.

مثل هذه الصلة جعلتّه غير متهيّب او متكلف تجاه الطبقة السياسية، وجعلت مقالاته، حتى السجالية منها واللاذعة النقد، متحررة من أي إحساس بالنقص او عقدة التظلم مما نجده عند بعض نقّاد السياسة الاميركية. فهو غالبا ما يتحدث عن زعماء سياسيين بارزين بإلفة، بل ويخاطبهم ببساطة ومن دون ادنى كلفة دبلوماسية.

وعلى رغم نزعتها التهكمية وسخريتها اللاذعة، فإن كتاباته تنطلق من وعي مدني راسخ، ونقده موجّه على الدوام الى شخصيات او جماعات تنتهك الدستور وتسيىء استخدام السلطة المنوطة بها، وهو اذا ما تعرّض للدستور او القضاء فإنما من باب الدعوة الى الإصلاح وليس التدمير والإنقلاب. ولذا فإن لكتاباته صدى واسعاً ومؤثراً، وقد زادت مبيعات كتابه الحالي على 100 الف نسخة خلال وقت قصير على صدوره في الولايات المتحدة.

والكثير مما يقوله فيدال في هذا الكتاب يبدو بمثابة تذكير لما سبق وقاله في مقالاته التي يعود بعضها الى ثلاثة او اربعة عقود. وعلى ما يرى، فلقد سلك أصحاب القرار في الولايات المتحدة سبيلاً في كلا السياستين الداخلية والخارجية أفضى الى ان تصير الحكومة الاميركية، بل الولايات المتحدة نفسها، موضع كراهية عالمية ومحلية على السواء. فكراهية اميركا، والتي كان هجوم الحادي عشر من سبتمبر ذروة التعبير عنها، لا تصدر فحسب عن حركات وشعوب وبلدان في مختلف أنحاء العالم، وانما تصدر ايضاً عن العديد من الاميركيين. وهناك قرابة أربعة ملايين من المواطنين الاميركيين ينضوون في إطار تجمعات وحركات، مختلفة الأيديولوجيات متفاوتة الدوافع، تناهض الحكومة الفيدرالية. ومن هؤلاء ثمة 10% ينتمون الى مليشيات مسلحة تدعو الى مقاومة هذه الحكومة بالعنف. وهو ما أقدم عليه أحد أعضائها، تموثي مكفاي، المسؤول عن عملية التفجير في «اوكلاهوما سيتي».

هذه الكراهية المحلية لا تعود الى تفشي ثقافة العنف والافتتان بالسلاح، على ما يقول البعض، او حتى لانتشار الحركات الدينية والسياسية المتطرفة. إن شيوع مثل هذه المظاهر، على وجه ثقافي او تنظيمي سياسي وديني، كما يعتقد فيدال، ناجم عما آل اليه المجتمع الزراعي في قلب اميركا، والسياسة التي انتهجتها الإدارة الاميركية إزاءه. ففي غضون العقود القليلة الماضية، شهد هذا المجتمع غزواً من قبل الشركات الزراعية الكبرى مما ضيّق على المزارعين المستقلين وأصحاب الملكيات الصغيرة، سبل الرزق والمضي في نمط الحياة الذي ألفوه. وعوضاً ان تهبّ الحكومة الى مؤازرة المزارعين المستقلين، فإنها باركت خطوات الشركات المتحدة الكبرى وأيدت توسعها. فالحكومة الاميركية، سواء كانت السلطة التشريعية منها (مجلس الشيوخ) او التنفيذية (إدارة الرئيس) انما تسعى الى إرضاء مثل هذه الشركات طالما انها (الشركات المعنية) كثيراً ما تكون مموّلة للحملات الانتخابية باهظة التكلفة، فضلاً على كونها صاحبة شركات إعلامية ودعائية.

لم تقتصر سياسة الحكومة الاميركية على الانحياز الى الشركات المتحدة، على رغم ما حلّ بالريف وأفضى الى نشوء مظاهر اجتماعية وسياسية مثيرة للخشية، كنفور ابناء المجتمع الريفي من الحكومة الفيدرالية واقبالهم على حركات سياسية ودينية متطرفة، وإنما عمدت أيضاً الى استخدام القسر ضد بعض الحركات الدينية، ومن دون مبررات مقنعة، كما حدث في «واكو»، تكساس، حيث هاجمت الشرطة الفيدرالية، بمآزرة قوات من الجيش، جماعة «فرع الداووديين»، وهي جماعة دينية أصولية، الأمر الذي أدى الى مقتل 80 شخصاً كان من بينهم 27 طفلاً. ومثل هذا الاستخدام للقوة، فضلاً عما ينطوي عليه من انتهاك للدستور (استخدام قوات الجيش ضد المدنيين)، أثار الغضب في نفس تموثي مكفاي وأمثاله من الاميركيين كما يقول فيدال.

ولئن كان خضوع الحكومة الاميركية لرغبات الشركات المتحدة الكبرى قد أثار عداوة الملايين من ابناء وسط اميركا، فإن إلتزامها ايديولوجيا «حماية المصالح والأمن القوميين» أساساً للسياسة الخارجية الاميركية، كان له الأثر الأعظم في العداء للولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم. وهو يعتبر مقولة «حماية المصالح والامن القوميين» بمثابة أيديولوجية وليست سياسة ذات غرض واضح ومحدد، لأن التدخل الأميركي، العسكري والسياسي، في شؤون البلدان الأخرى، غالباً ما كان بمثابة إستعراض قوة او كتمرين في ممارسة سلطة دولة تمادت في نزوعها الى التسلح والعسكرتارية العدوانية. ومن خلال اللائحة التي يثبتها غور فيدال في طيات كتابه، يتبيّن لنا ان الولايات المتحدة شاركت، وفي بعض الاحيان، أقدمت منفردة، على القيام بمئات العمليات العسكرية منذ نهاية الحرب العالمية وحتى اليوم، وانها كانت البادئة في كثير من الأحيان. ومنذ انتصارها على اليابان عام 1945، ما انفكت الولايات المتحدة ملتزمة سياسة «حرب دائمة في سبيل سلام دائم»، بحسب العبارة الشهيرة للمؤرخ الاميركي تشارلز بيرد، وهي العبارة التي ينتقيها فيدال عنواناً لكتابه.

* سياسة العزلة

* لا شك أن المعارضة التي يبديها فيدال لسياسة التدخل الاميركي في شؤون العالم قد تدعو الى القلق، من بعض الجوانب. خاصة انها تصدر عن انحياز الى سياسة العزلة التي قال بها الكاتب وغيره من الأميركيين لعهد طويل. فليست سياسة التدخل تعبير دائم عن نزعة تسلّط وعدواني. ولا يمكن ان نغفل حقيقة انه لولا التدخل الاميركي في الحرب العالمية الثانية، لكان العالم قد وقع تحت سلطان المانيا النازية او روسيا الشيوعية، وكلا السلطانيين كارثة محققة.

مع ذلك فان معارضة فيدال لسياسة التدخل، ورغم صدورها عن ايثار لسياسة العزلة، غير الحكيمة في حالات عديدة، الاّ انها معارضة تنطوي على نقد أعمق وأبعد للسلطات الداخلية ومسار السياسة الذي انتهجته منذ البداية. وليس ثمة ما يثير معارضته أشدّ من التلاعبّ بالدستور، الذي يخدم القلة الغنية ويستجيب لنوازع النخبة العسكرية، مما يؤدي الى انعدام العدل والمساواة في داخل البلاد، ويولد نزعة توسّع امبراطورية تجاه بقية العالم. وهذا، كثيراً أو قليلاً، جرى منذ عهد الاستقلال وحتى اليوم كما يرا فيدال. فلقد حرص المؤسسون الأوائل، ومن ورثهم من بعدهم، على ارضاء أصحاب الملكيات الكبرى على حساب بقية المواطنين الاميركيين، مما أدى الى تكريس حياة سياسية يتحكم بها حزبان يمينيان (او حزب واحد بجناحين، على حد تعبير المؤلف).

الى ذلك، ثمة نزعة دائمة في سياسة الولايات المتحدة الى التوسع والتدخل في شؤون الغير. وهي نزعة استندت الى دعوتين مختلفتيّ الطبيعة، واحدة أخلاقية، ترى بأن للولايات المتحدة دوراً تبشيراً تجاه بقية العالم الغارق في ضلاله. اما الثانية فنفعية، ترى بأن للولايات المتحدة مصالح أمنية واقتصادية في العالم، تقتضي تدخلها المباشر في شؤون الدول الأخرى ونزاعاتها. وأياً كانت الدعوة الفعلية الكامنة خلف هذه النزعة، فلقد قيّض لها التحقق والرسوخ بدءاً من غزو الفلبين عند منعطف القرن العشرين ومروراً بالحربين العالميتين، وما تلاهما من حرب باردة. وعلى ما يجادل فيدال، فان ما ساهم في تحقق ورسوخ هذه النزعة ليست الحوادث والمخاطر التي جعلت تتهدد العالم بقدر ما هو تكريس المؤسسة العسكرية الاميركية من خلال الانفاق الخيالي على التسلح. وكثيراً ما أُنفقت نصف ميزانية الدولة السنوية، او حتى أكثر من النصف، على المؤسسة العسكرية، وعلى حساب الخدمات العامة والضمانات الاجتماعية. وعلى ما يورد فيدال، فلقد وصل انفاق الخزينة الاميركية على التسلح منذ الحرب العالمية مبلغ 7,1 تريليون دولارـ لربما ما يكفي لحل مشكلة الفقر في العالم أجمع! وكان لا بد لتعاظم الانفاق على التسلح، وتعاظم المؤسسة العسكرية بالتالي، ان يعثر على مبرر لنفسه، خاصة بعد تفاقم الديون. فكان لا بد من حروب تُخاض، حتى ضد عدو وهمي، كما حدث في غير مناسبة واحدة. ومن خلال تكريس آيديولوجية «حماية المصالح والامن القوميين» كأساس للسياسة الخارجية، تجسدت نزعة التوسع، وتحولت الولايات المتحدة من جمهورية ديمقراطية الى امبراطورية توسعية، يعتورها من الفساد والجور ما يبرر كراهيتها من قبل مواطنيها أنفسهم، فضلاً عن بقية العالم.

يعلم غور فيدال، اذاً، لماذا أصبحت بلاده مكروهة الى هذا الحد. غير ان هناك في الادارة الاميركية من يؤثر ادعاء البراءة والدهشة، وفي أحسن الأحوال، الاجابة على سؤال «لماذا يكرهوننا..؟» باجابة هي الى التهرّب والمراوغة أقرب، وبما يؤدي الى الاصرار على سياسة التدخل العسكري والتسلح، على حساب الخدمات المستحقة للمواطنين الاميركيين، وضد شعوب ومجتمعات بعضها فقير معدم. النتيجة: عداء متزايد للحكومة من الداخل، وامعان في كراهية الولايات المتحدة من الخارج!.