أديان ومذاهب في العراق متقاربة تارة ومتنافرة تارة اخرى

معظم المدن العراقية الكبرى مختلطة الأديان والمذاهب وفي مقدمتها بغداد والموصل والبصرة

TT

بعد أن زار البصرة برفقة قاضي القضاة كتب الرحالة ابن سعيد الأندلسي يقول «وجدت ببغداد صاحب أعمال الخليفة المستعصم فانحدرت معه إلى البصرة في دجلة، ورحلتي معه تحتمل سفرا زبدتها في هذا المكان، إنا وصلنا البصرة حللنا بين نهر الأبلة ونهر المعقل، وضرب الصاحب هناك خيمة، وفيها ماء يرتفع ويدور كالأهلة برسم الجلوس للناس، وجاءه الوافدون من المسلمين و النصارى والمجوس والصابئة...». من هنا، من تجمع المسلمين والنصارى والمجوس والصابئة، يرسم الباحث رشيد الخيون صورة الأديان والمذاهب في العراق في كتابه الجديد، وهي صورة ملفتة بتنوعها وثرائها. ففي العراق تتعايش اديان ومذاهب عديدة متقاربة تارة ومتنافرة تارة اخرى لكن تقاربها وتنافرها لم يصل الى حد الالغاء ان كان بالضم او بالهجرة القسرية. لقد حافظ الجميع على وجودهم بقدر ما يسمح به التجاور على بقعة جغرافية واحدة. وماعدا المدن المغلقة، الى حد ما، على ديانة او مذهب مثل النجف وكربلاء والقوش ومانكيش فان معظم المدن العراقية الكبرى مختلطة الاديان والمذاهب وفي مقدمتها بغداد والموصل ولا بصرة وذلك بحكم الدور الذي لعبته هذه المدن الثلاث في تاريخ العراق العباسي والعثماني.

يهتم الباحث بالدرجة الاولى بالاديان الحية فقط من دون الاهتمام بمصطلح الاقلية والاكثرية «لما في مصطلح الاقلية من حرمان والغاء للحقوق التاريخية والشراكة المتوازنة في الوطن الواحد اضافة الى ما يولده هذا المصطلح من شعور بالضعف والاغتراب وبالتالي يصبح الوطن وطن الاكثرية فقط فالمواطنة لا تخضع لمبدأ الاقلية والاكثرية». يرى الخيون ان الدين الصابئي المندائي هو الاقدم بين الديانات العراقية الحية لذا تقدم على فصول الكتاب، فالتسمية (الصابئة) كانت مهيمنة على الديانات العالمية بداية من بابل ومصر الى الرومان والهند ليدخل تحت هذا الاسم كل من جعل التماثيل والرسوم وسيلة للتعبد. اما الديانة الإيزيدية، التي تشغل الفصل الثاني من الكتاب، فهي امتداد لاديان ضاربة في القدم منها الزرادشتية التي كان يعتنقها الاكراد مع وجود اليهودية والمسيحية بينهم. وورد تأكيد تسميتها بالإيزيدية صلة باسم الله القديم لديها يزدان او إيزيد ولإبعادها مما شاب تاريخها من روايات نسبتها الى يزيد بن معاوية فهي إيزيدية وليست يزيدية. وفي الفصل الثالث المخصص للديانة اليهودية حاول الباحث تقصي عاطفة يهود العراق الى ضفاف دجلة والفرات عبر كتاباتهم واحتفاظهم بعاداتهم وتقاليدهم بقوة بعد مرور اكثر من نصف قرن على ترحيلهم.

وشغلت المسيحية الفصل الرابع من الكتاب خاصة محاولة رصد انعطافها الى النسطورية وتعامل الملوك الساسانيين مع المسيحيين وفقا لحالة الحرب او السلم مع الروم البيزنطينيين ثم انتشار المسيحية من العراق الى الخليج العربي والهند. ويدرس المؤلف اليهودية والمسيحية عبر قراءة في اللوائح الاسلامية في التعامل مع اهل الذمة بداية من عهد الرسول والخلفاء الراشدين لهم الى قرارات جعفر المتوكل ضدهم. ويكرس الخيون الفصل الخامس من كتابه للشيعة وليس المذهب الشيعي لأن الشيعة حركة سياسية واجتماعية مذهب فقهي معا، ومفهوم الحركة يستغرق المذهب.

شمل الكتاب في فصوله المتبقية ثلاثة تكوينات سنية الحنفي والشافعي والحنبلي ولم يتعرض لوجود المذهب المالكي والسبب هو انه «لم يكن مذهب العراقيين بقدر ما كان مذهبا لمسافرين وردوا بغداد للدراسة في مدارسها الفقهية».

لم يتسع الكتاب للاديان والمذاهب القديمة سومرية وبابلية وآشورية ومانوية من التي لم يبق لها اثر غير متعلقاتها في اديان اخرى. كما استثنى الطرق والتكايا الصوفية ما عدا المرور السريع على طرق التصوف في السليمانية عبر لقاءات مباشرة مع شيوخ الطريقتين الرئيسيتين النقشبندية والقادرية. والسبب كما يرى الخيون هو ان «التصوف لم يشكل ديانة او مذهبا قائما بذاته وانما الطريقة الصوفية في بغداد او السليمانية او في أي بقعة من العراق هي تابعة للمذهب السائد، فلم يبق التصوف محصورا في المذهب الشافعي فللشيعة صوفيتهم ايضا، الصوفية ممارسة طقسية ليس لها كيان او مذهب. ومع الاقرار بان الشبك لا دين ولا فرقة، علي إلهية او صوفية، انما هي قبيلة كردية مثل غيرها من القبائل الكردية المسلمة توزع اهلها على مذهبي السنة والشيعة الا انها حظيت بفصل خاص من الكتاب وذلك لاهمية مناقشة ما تداول من معلومات خاطئة عنها. الكتاب بفصوله العشرة رصد تاريخي واجتماعي لم يختص بدين او مذهب واحد، حاول مؤلفه الالمام باهم الاحداث مع ابراز التعايش بين الديانات العراقية اثناء فترات الانفراج والتشدد التي غالبا ما كانت السلطات من يتسبب فيها وليس المواطنون. لم يبحث الكتاب في ماهية الاديان والمذاهب بالتفصيل بقدر ما اورد اشارات وافية لطقوس العبادة ويأتي التوسع حسب حاجة البحث مع الالتزام بالتسلسل التاريخي لوجود الدين او المذهب وهو يعيش تارة التقارب وتارة التباعد مع الاخرين، غير ان التنوع الديني والمذهبي على الارض العراقية ظل سمة مميزة للمجتمع منذ القدم. بل ان هناك تداخلا يؤكد عمق التعايش اذ نرى مسلمين يقيمون مجلس تأبين لمسيحي في المسجد وصابئة يزورون ضريح علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ومرضعة مسلمة ترضع طفلا صابئيا ومسيحية تندب مريم العذراء والسيد المسيح والنبي محمد في لحظة سقوط صاروخ اثناء الحرب العراقية الايرانية وتلوذ عائلات مسيحية بصحن الكاظم ايام الحرب لعلمها انها منطقة محرمة على الصواريخ والطائرات ومسلمون لا يفطرون في رمضان الا بعد ان يزودوا جارهم الصابئي من مائدتهم، ووجيه نجفي هو علي بحر العلوم يقيم صداقة عمره مع الشيخ عنيسي الصابئي ويرد على منتقديه من المتزمتين بما كان بين الشريف الرضي وابراهيم الصابئي. بهذا السلوك جعل العراقيون الاديان سبيلا لوحدة البشر وسط تنوعهم في ضوء كتاب تتبع مؤلفه خطى المجتهدين الذين عرفوا بمثابرتهم المخلصة وسعيهم إلى النزاهة والحق.

ـ

* الاديان والمذاهب بالعراق

* رشيد الخيون

* منشورات دار الجمل