فيلسوف فرنسي: الرد الوحيد على (11) سبتمبر العدالة وتأسيس دولة فلسطينية وبلورة فلسفة جديدة للبشرية

هاشم صالح

TT

من يسمع باسم فيلسوف فرنسي يدعى: مارسيل كونش؟ أكاد اراهن على ان عدد العارفين به في العالم العربي لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة. وربما كنت مبالغا في العدد. وانا شخصيا لم اسمع به، الا بشكل خافت ومن بعيد البعيد، دون ان اعرف عنه شيئا. ومؤخرا وقع نظري في احدى المكتبات الباريسية على كتابه هذا فاشتريته ليس بسببه وانما بسبب محاورة الفيلسوف: اندريه كونت ـ سبونفيل. فالواقع ان هذا الاخير معروف ومشهور بالرغم من انه تلميذ للاول ويصغره بحوالي ثلاثين سنة. وهكذا نلاحظ ان الامور معكوسة منذ البداية: فالتلميذ هو المعروف، والاستاذ هو النكرة والمجهول.

في الواقع ان البروفيسور «كونش» كان استاذا للفلسفة في السوربون لسنوات طويلة قبل ان يتقاعد. وهو الآن يتجاوز الثمانين من العمر، ولكنه لا يزال ناشطا في مجال التأليف والنشر والمحاضرات العامة. وقد نشر في السابق دراسات اكاديمية مهمة عن الفلسفة اليونانية القديمة، وعن الفيلسوف الفرنسي «مونتيني» الذي سبق ديكارت وربما أرهص به، كما ونشر عدة كتب شخصية عن الفلسفة نذكر منها: «توجه فلسفي»، «اساس الاخلاق»، «أن تعيش وأن تتفلسف»، «حياتي السابقة»، «قَدَر الوحدة»، «حضور الطبيعة».

ان سبب عدم شهرة هذا الفيلسوف المهم هو ميله للوحدة والعزلة وعدم رغبته في الظهور. فمن المستحيل ان تراه على شاشات التلفزيون مثلا، او ان تسمع له صدى في وسائل الاعلام بمجملها. وهو من هذه الناحية يذكّرنا بموريس بلانشو الذي مات الاسبوع الماضي والذي يعتبر احد كبار النقاد الادبيين في القرن العشرين. ولكن بلانشو بلغ الذروة في الاختفاء الى درجة ان اختفاءه اصبح اقوى من اي حضور! فمن المستحيل ان تجد له صورة شخصية واضحة! لكن الفرق بين مارسيل كونش وبلانشو هو ان بلانشو كان مشهورا جدا على الرغم من غيابه المزمن والمدهش، بل وكلما غاب ازداد حضورا، كما قلنا.

لكن لنعد الى فيلسوفنا المذكور الذي حاوره الفيلسوف الشاب اندري كونت ـ سبونفيل على مدار هذا الكتاب كله. في كل مرة كان «اندري» يرسل له سؤالا، كان «كونش» يرد على هذا السؤال بشكل مسهب قليلا او كثيرا. وفي المحصلة كان هذا الكتاب القيم الذي يُقرأ بدون ملل من أوله الى آخره كالكثير من كتب الحوارات المشوقة. انها لمتعة حقيقية ان تسمع فيلسوفا شابا يحاور فيلسوفا اكبر منه ويُعتبر بمثابة استاذه. يقول اندريه كونت ـ سبونفيل في المقدمة العامة للكتاب:

«هذا الرجل لا يفكر كالآخرين، ولا يتفلسف مثلهم. وذلك لانه يفكر على طريقة فلاسفة الاغريق، اي بشكل راديكالي ومباشر وصريح. انه يتفلسف على طريقته الخاصة، اي بشكل شخصي حر... أنْ تكون اغريقيا، بحسب رأيه، يعني ان تزود نفسك بإمكانيات تحقيق التقدم الوحيد المهم: اي التقدم الذي يجعلنا ننفتح على الطبيعة والحياة، على الآخرين وعلى أنفسنا. انه لا يفترض اي شيء مسبق، ما عدا الكونية. ولا يعتقد بأي شيء ما عدا الحقيقة التي يبحث عنها. ولهذا السبب فهو حر، ولهذا السبب فهو ضروري بالنسبة لنا».

ثم يردف اندريه كونت ـ سبونفيل قائلا:

ما هي الفلسفة بالنسبة له؟ البحث عن الحقيقة بشأن كلّية الواقع، ومكانة الانسان داخل هذه الكلية. فهناك اولا الطبيعة او الواقع الخارجي والمادي الذي يحيط بنا والذي هو موجود قبل ن نُخلق في هذا العالم. وهناك ثانيا مكانة الانسان داخل هذه الطبيعة. والتفكير في كل ذلك يعني: الفلسفة.

والفلسفة تتوجه الى كل شخص بشرط واحد فقط: هو ان يقبل بأن يفكر بحرية خارج أطر كل العقائد اللاهوتية او الآيديولوجية المغلقة التي تعتقد بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وبشكل مسبق غير قابل للنقاش. في رأي مارسيل كونت، تلميذ الاغريق وفلاسفتهم، فإن هذا الاعتقاد الدوغمائي هو بمثابة الخطر المميت على الفلسفة. وفي اي مكان يسود هذا الاعتقاد تنقرض الفلسفة وتصبح محرمة وممنوعة. واذن فالفلسفة تعني التنفس: اي تنفسْ بحرية ايها الانسان اذا استطعت!!.

على السؤال الاول الذي يطرحه اندريه كونت ـ سبونفيل بخصوص تحديد الفلسفة وعلاقتها بالحكمة والحقيقة، يقول مارسيل كونش بما معناه:

انت قلت في «قاموسك الفلسفي» بأن الفلسفة تهدف للتوصل الى الحكمة، ومن ثمَّ الى السعادة. وانا اقول بأن الفلسفة تحديدا تعني: البحث عن الحقيقة بالمعنى المطلق للكلمة. انها ميتافيزيقية: اي تحاول ان تفهم سرّ العالم ومغزى الوجود. وهذا شيء لا يمكن ادراكه عن طريق الاكتفاء بدراسة الظواهر الفيزيقية او المادية المحسوسة، وانما ينبغي ان نذهب الى ما وراءها، الى ما هو ابعد منها: اي الى طرح التساؤلات الميتافيزيقية. الفيلسوف يتأمل ويفكر في ظل فكرة الحقيقة، وذلك بغية التوصل الى خطاب صحيح عن «الواقع» او «العالم المادي» او «الكليّانية». وبالطبع فهذه مصطلحات اشكالية وبحاجة الى تحديد، وربما كان لها اكثر من تحديد.

وبالتالي فإذا كنت تقصد بالحكمة امتلاك الحقيقة، فاني أتفق معك واقول بأن هذا هو هدف الفلسفة بالضبط.

ولكن من يصدق اننا سنتوصل يوما ما الى امتلاك الحقيقة المطلقة؟ الفيلسوف اليوناني أبيقور كان يعتقد ذلك على الرغم من ان «مونتيني» كان يعتقد بأنه لا يعتقد. وهيغل اعتقد ذلك، وربما كان آخر العمالقة الذين سقطوا ضحية هذا الوهم. ولكننا نعلم ان زمن الدوغمائية الفلسفية قد انتهى في اوروبا مثلما انتهى من قبله زمن الدوغمائية اللاهوتية او الدينية المسيحية. وزمن الانظمة الفلسفية. المتكاملة والمغلقة التي تجيب على كل شيء، انتهى ايضا. فلا النظام الديكارتي، او الكانطي، او الهيغلي... الخ، يمثل الحقيقة المطلقة. لا ريب في ان كلا منهما اكتشف جانباً مهماً من الحقيقة والواقع، ولكن جانبا فقط. وكل واحد من هذه الانظمة الفلسفية تجاوزه الزمن بعد فترة. وبالتالي فنحن نعيش في عصر الشك او الارتياب المعمَّم ونعرف ان الحقيقة المطلقة تستعصي على المنال. بدءا من هذه القناعة تبتدئ الفلسفة وتصبح ممكنة الوجود بعد ان ماتت بصيغتها القديمة التوتاليتارية. واذن ماتت الفلسفة! انها لم تمت الا لكي تنبعث من جديد.

وبالتالي فالفلسفة بحسب ما افهمها لا تتشكل الا على اساس التجربة الحية المعاشة من قبل فيلسوف. وفلسفتي هي خلاصة تجربتي في الحياة، وكذلك قراءاتي ومطالعاتي. والحقيقة التي توصلت اليها في نهاية المطاف هي حقيقتي، لا الحقيقة المطلقة. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن هيغل، او كانط، او اي فيلسوف آخر..

واما الحكمة، يردف البروفيسور كونش قائلا، فهي تعني تلك الحالة من الهدوء والطمأنينة التي تتيح لي ان افكر بدون ان يبلبل عقلي اي شيء، بدون ان يعرقل حريتي الفكرية اي شيء. وكل ما يحبّذ هذه الحالة او يساعد على توافرها فهو يدخل في باب الحكمة والتعقّل. ما هي الاشياء التي تبلبل العقل وتبعدنا عن الفلسفة؟ التعلّق بمظاهر هذه الحياة، وحب السلطة، والركض وراء الثروة، والانبهار بالشهرة والتشريفات الرسمية، وكذلك المراتب والمقامات، ثم الركض وراء الجوائز العالمية او المحلية، وقبول الدعوات والمؤتمرات بمناسبة وبدون مناسبة: اي كل ما يشكل مقتل المثقفين. فهؤلاء اذا ما تعلقوا بكل ذلك سوف يفاوضون حتما على مفهوم الحقيقة، وسوف ينتهي بهم الأمر الى الدوس عليه بأقدامهم! وعندئذ يفقدون كل قيمتهم، بل وحتى مبرر وجودهم.

ولذلك اقول واكرر القول: «الفلسفة تعني حب الحقيقة، البحث عن الحقيقة، الوله بالحقيقة، واذا لزم الأمر الاستشهاد من اجل الحقيقة!.» وهذا هو ملخص الكلام مع بعض التصرف في الترجمة.

ثم نجد التطبيق العملي على كلام البروفيسور كونش هذا في جوابه على سؤال يخص (11) سبتمبر. اعترف بأن جوابه أدهشني وربما افهمني سبب طمس هذا الفيلسوف الكبير من قبل وسائل الاعلام، او سبب عدم شهرته على الاطلاق! يقول بما معناه وهو يوجه الكلام لاندريه كونت ـ سبونفيل بالطبع:

ثم تسألني عن (11) سبتمبر واقول لك ما يلي: كان رد فعلي المباشر هو رد فعل الجميع: اي الاحساس بالهلع والاشمئزاز. ولكن الفيلسوف لا يكتفي بهذا الاحساس كما تعلم وانما يتجاوزه الى مرحلة الفهم او محاولة الفهم. وسوف أشرح لك اولا تفسيري لهذا الحدث، ثم اقول لك ثانيا مدى تأثيره على حياتي وتوجهي الفلسفي.

لقد قام الفلسطينيون بعدة تفجيرات ضد الاحتلال الاسرائىلي. وتفجير (11) سبتمبر لا يختلف عنها الا بشيئين: اولا طابعه الصارخ والصاعق والهائل. وثانيا انه يستهدف مباشرة الدولة الحامية لدولة اسرائيل واما فيما عدا ذلك فله نفس المعنى، الذي هو سياسي محض في مرحلة الحرب «الساخنة» المندلعة حاليا.

بعض المفكرين الآخرين فسروا الحدث على اساس انه «ثورة عدمية ضد العدمية» (افتح قوسا هنا واقول بأن «كونش» يشير هنا الى تفسير الفيلسوف الفرنسي المشهور جان بودريار على ما اعتقد). ما معنى هذه العبارة؟ انها تعني ان «ضربة بن لادن» هي عدمية ضد حضارة هي الأخرى عدمية: اي الحضارة الغربية التي تخلّت عن الدين ولم تعد تؤمن بالله. وبعض المفكرين الآخرين قالوا بأن (11) سبتمبر هو عبارة عن: «تعبير ارهابي عن التعصب الديني والتوتاليتارية الاصولية». وهذا هو التفسير الذي شاع اكثر من غيره وبعضهم الآخر قال بأنه يعبر عن «انتقام العرب من الذل او الهوان الذي يشعرون به بسبب الفرق الهائل بين عظمتهم الماضية ووضعهم الحاضر»، بل ووصل الامر ببعض المثقفين الى حد القول بأن الذين فعلوا ذلك «مهووسون بفكرة الانتحار واستعجال يوم القيامة!»..

كل هذه الاجوبة بحسب رأي البروفيسور مارسيل كونش لا معنى لها، او قل انها لا تضع يدها على الجرح الحقيقي، على السبب الاساسي، بل ان بعضها يحاول التضليل وصرف النظر عن هذا السبب.

ما هو، اذن، السبب الحقيقي الذي دفع ببعضهم الى ارتكاب مجزرة (11) سبتمبر؟ انه وفي رأي الفيلسوف كونش، واضح لا لبس فيه ولا غموض. انه يكمن في السياسة الجائرة التي تتبعها الولايات المتحدة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط منذ سنوات طويلة. انها سياسة الكيل بمكيالين واحتقار العدل والحق عندما يتعلق الامر بفلسطين. فأميركا ترفض حتى الآن ان تمارس اي ضغط على اسرائيل لكي تنفذ قرارات الأمم المتحدة، لا قرارات العرب ولا الفلسطينيين. الدولة الوحيدة التي تقف فوق القانون الدولي والشرعية الدولية هي دولة اسرائيل. الدولة التي لا تُسأل عما تفعل، في حين يُسأل الجميع: هي دولة اسرائيل. وبالتالي فلا ينبغي ان نستغرب كثيرا (11) سبتمبر.

ثم يواصل البروفيسور كونش جوابه المدهش والرائع قائلا:

الرد الوحيد المناسب على (11) سبتمبر هو: العدالة والطيبة الانسانية. الرد الوحيد هو: اقامة الدولة الفلسطينية وبسرعة. في (13) مارس من عام 2002 صدر قرار عن مجلس الأمن بمبادرة اميركية يدعو الى تأسيس دولة فلسطينية. فهل فهمت أخيرا اميركا السبب؟ اذا كان الأمر كذلك فإني سعيد بهذا اليوم وينبغي ان نحتفل به. فهذه هي الطريقة الناجعة والفعالة للقضاء على الظاهرة الارهابية.

ثم ينتقل المؤلف الى الشقّ الثاني من جوابه والمتعلق بمدى تأثير (11) سبتمبر على فلسفته او توجهه الفلسفي ويقول:

«غدية (11) سبتمبر اهتزّ العالم، راح يختلج ويحبل بالمستقبل. فهل آن الأوان لتشكيل فلسفة كونية تناسب جميع الشعوب وتتجاوز تناقضاتها وصراعاتها؟ ألا ينبغي ان يكون الرد على (11) سبتمبر في حجمه ومستواه؟ الا ينبغي ان نبلور فلسفة جديدة للبشرية، فلسفة تؤدي الى توحيد الجنس البشري وانتشاله من أحقاده وحزازاته المدمرة سواء أكانت عرقية، ام قدمية، ام دينية طائفية؟ وهذه الفلسفة الكونية هل ستكون خلاصة الجمع بين فلسفة الشرق وفلسفة الغرب؟ ولكن كيف؟.

اعتقد ان العودة الى الفكر الاغريقي الاولي، فكر البراءة الاولى، يعني ايضا الأمل بتبلور فلسفة كونية. وسوف تكون فلسفة الطبيعة والعقل لانها على عكس الاصوليات الدينية تجمع البشر وتوحدهم بدلا من ان تفرق بينهم وتزرع البغضاء والاحقاد. فالبشر، كل البشر، يجتمعون في التكوين الطبيعي للجنس البشري، ويمكن ان يجتمعوا حول العقلانية الفلسفية. ولكن لا يمكن ان يجتمعوا على دين واحد لأن هناك أديانا عديدة في الشرق والغرب.

وبالتالي فلنحاول ان نجد طريقة لتوحيد فلسفة الغرب وفلسفة الشرق حول بعض المبادئ الاساسية المشتركة التي يمكن للبشرية ان تتمحور حولها.

لا اعرف فيما اذا كان الحل الذي يقترحه البروفيسور مارسيل كونش هو الصحيح. ولم افهم كثيرا معنى دعوته للعودة الى الفلسفة ما قبل السقراطية، وهي التي يدعوها بفلسفة الطبيعة وربما البراءة الاصلية.. ولكني احترم كل الاحترام موقفه من مسألة الحق والعدل فيما يخص القضية الفلسفية. فهو موقف جريء ويمشي عكس التيار السائد في بعض الاوساط الثقافية الباريسية التي تحاول تمييع الأمور والمساواة بين الضحية والجلاد، بل والقاء المسؤولية على الضحية والبحث عن أعذار مخجلة وواهية للجلاد! فتحية اذن للبروفيسور مارسيل كونش، هذا الفيلسوف المجهول في أرضه والذي لا يزال مصرا على القول بأن الفلسفة تعني شيئا واحدا: البحث عن الحقيقة!..

* مارسيل كونش: اعترافات فيلسوف. أجوبة عن اسئلة اندريه كونت ـ سبونفيل Marcel Conche: Confession d"un Philosophe Reponses a Andre Connte - Sponville

* المؤلف: مارسيل كونش Marcel Conche

* دار النشر: البان ميشيل Albin Michel

* باريس: 2003