عالم صدام حسين

مهدي حيدر

TT

صدرت هذه الأيام عن دار الجمل بألمانيا، رواية «عالم صدام حسين» لمهدي حيدر، وهو اسم مستعار. وهنا فصل من الرواية يتناول طفولة الرئيس العراقي:

بدأ الهجوم عند الثانية فجراً بتوقيت بغداد يوم الخميس 16 كانون الثاني (يناير) 1991. كان صدام حسين نائماً ببذلة كاكية مثقلة بالنياشين، وبحذاءٍ عسكري، مع مسدس في حزام جلدٍ يزنر وسطه، وراء مكتب ضخم من خشب السنديان، في مقر محصن تحت مدرجات ملعب كرة قدم يبعد خمسة كيلومترات عن المجمع الرئاسي حيث أقام 12 سنة محاطاً بحرسه الجمهوري منذ أعلن الرئيس أحمد حسن البكر في 16 تموز (يوليو) 1979 على التلفزيون، وأمام الأمة جمعاء، اعتزاله وتنحيه عن كل مناصبه لأسباب صحية.

الانفجارات الأولى أيقظت سكان بغداد. وأطلقت صرخات في الأحياء السكنية وهتافات تكبير مذعورة، مع أبواق سيارات متقطعة ثم متصلة، في ذلك الليل الفظيع. لكنها لم توقظ الرئيس النائم في ملجأ نووي تحت الأرض. وابل صواريخ تزن أطناناً تساقط على قصور صدام الرئاسية في أنحاء البلاد، صواريخ كروز «توماهوك» الموجهة من بُعد قذفتها الفرقاطة الأميركية «ميدوري» الراسية في مياه الخليج، فسقطت على الجانب الشرقي من القصر الجمهوري القديم وأحالته ركاماً. الموجة الأولى من الغارات الجوية دمرت مولدات الكهرباء، وهدمت مجمعاً كاملاً تابعاً لوزارة الدفاع: الصحافيون الذين هرعوا قافزين السلالم إلى سطح فندق الرشيد مع آلات تصوير ومصابيح وأجهزة اتصال معطلة بسبب موجات التشويش، شاهدوا بناء في الجهة البعيدة يسقط مائلاً مثل برج ويستقر في سرير دجلة. في الظلام امتزجت أصوات الانفجارات بهدير الطائرات وبلعلعة ثاقبة مصدرها المضادات الأرضية. خلال لحظات تحول الفضاء إلى جهنم حمراء ـ صفراء بأضواء بارقة وأسهم نارية. الموجة الثانية من الغارات زرعت في أنحاء المدينة عدداً لا يحصى من الحرائق، كل شيء بدا خيالياً، أحسّ الواقفون على سطح فندق الرشيد أنهم يعيشون معاً مناماً واحداً غريباً. من مكان قريب تصاعدت رائحة شواء: مخزن طيور الدجاج، عند الزاوية، كان يشتعل، شعلة اللهب بلغت السماء.

الرئيس صدام حسين رئيس الوزراء، رئيس مجلس قيادة الثورة، أمين عام القيادة القطرية لحزب البعث والقائد الأعلى للقوات المسلحة منذ 1979، أحسّ بارتجاج المكتب تحت ذراعه ورأسه، أراد أن يفتح عينيه (سمع أيضاً قرعاً على الباب) لكنه كان يعيش مرة أخرى (ومن دون أن ينجح في الخروج من ذلك الفخ) زمناً قديماً: ذلك الزمن البعيد الذي سبق خروجه الثاني من بيت أمه في قرية شويش إلى بيت خاله خير الله في تكريت.

في ذلك الزمن البعيد، حين أعادوه من تكريت إلى بيت أمه صبحة في قرية شويش، بعد أن زجّ الإنكليز خاله في السجن، لم يكن صدام بلغ الخامسة بعد. طوال شهور اعتاد أن يسأل أمه عن خاله خير الله: أين هو؟»، طوال شهور ظل جوابها واحداً: «في السجن».

أبناء القرية كانوا يطاردون صدام في الأزقة ويرمونه بالحجارة، كان بلا أب، خلال غيابه في تكريت اقترنت أمه الأرملة بعمه حسن إبراهيم. برجوعه إلى القرية وجد صدام نفسه هدفاً لضربات هذا العم الغريب، اكتشف أن الناس ينادون عمه «حسن الكذاب»، حين سأله عن السبب، ذاق طعم عصا ملبّسة بالزفت الصلب للمرة الأولى في حياته.

عمه حسن إبراهيم، الفلاح الفقير الذي لا يملك أرضاً، كان يجرع خمرة التمر ويتسلى بضربه، بعد سنوات طويلة، أثناء دراسة الحقوق في جامعة القاهرة، تذكر صدام حسين تلك السرقات الصغيرة التي أمره عمه بتنفيذها. أن يسرق تمراً أو تبغاً من أجل «حسن الكذاب»، وأن يفرّ راكضاً بين الغنم إلى أطلال الحجر عند طرف القرية، تلك الأطلال التي تُذكره بالقلعة الباقية على الهضبة المطلّة على تكريت. كان يرى القلعة من نافذة بيت خاله خير الله طلفاح المجاور للمسالخ. من النافذة ذاتها كان يتفرج على صُناع الأطواف المنفوخة يخيطون جلود الحيوانات المسلوخة بابر ساخنة ويبردون أصابعهم في حوض الماء. في شويش، عاش من 1941 وحتى خروجه الثاني إلى تكريت، خمس سنوات وشمت روحه ببصمة لا تزول. يفرّ من عصا عمه الملبسة بالزفت إلى الأزقة فيصطدم بالأولاد هناك، عثر وراء مخزن مهجور على قضيب حديد فخبأه في ثوبه، ثم خاف أن يعثر عمه على القضيب فرماه في بؤرة وراء حظيرة مثقوبة السقف، أمامها بئر جافة اعتاد أن يرى قربها جلود ثعابين شققتها الشمس. كل شيء في هذه القرية بدا قديماً ومهجوراً. في حقول الشوك كان يجلس وحده ويلاعب العقارب بعود خيزران طويل، راقب العقارب تتقاتل، رأى صفوف نمل تنقل عقرباً ميتاً إلى ثقب في التراب، ثم تقطعه قطعاً صغيرة، وتحمله إلى أعماق الأرض. كان يفصل بين العقارب بطرف العود ويتأمل رجوعها إلى العراك، طرطقة عظام صغيرة، صوت كأنه صوت السم في قلب العظام. تحت شمس الصيف الحارقة رأى جثة بقرة منتفخة، والجوارح تمزقها بمناقير معقوفة. كان يمشي في حقول الشوك ساعات، رأى ثعباناً يلتهم طيراً أحمر الريش. هبّ هواء ساخن ورأى بيت أمه يلوح من بعيد، قرب الأشجار اليابسة السوداء، بينما يبتعد عن حقول الشوك اليابسة كان ينتابه الإحساس أنه ترك قطعاً من جسمه وراء ظهره، يكره هذا الكوخ المبني من قش ووحل وخشب، يظل يمشي إليه، لا يجد مكاناً آخر يمشي إليه، كلما تعب من شروده في الحقول اليابسة، كلما اقترب الظلام وتعالى عواء الحيوانات. هذا الكوخ.. كوخ بلا نوافذ، رائحته تبن ووحل، في الليل يتحول قبراً.

مراسلة الـ ABC، دَيان سوير، سألت صدام حسين في 24 حزيران (ىونيو) 1990، أن يصف لها قرية طفولته في العراق القديم، العراق قبل منتصف القرن العشرين. أخبرها أن الحياة كانت صعبة آنذاك، في تكريت البعيدة 150 كيلومتراً إلى شمال بغداد، كما في جميع الأماكن الأخرى، كانت قلة من الناس تملك أحذية ونعالاً، وفي معظم الأحيان ينتعلونها في المناسبات المهمة فقط. لم يكن غريباً أن يقطع فلاح أودية وجبالاً من قرية إلى أخرى حافياً وحاملاً صباطه في يده، وحين يبلغ القرية التي يقصدها ينتعل الحذاء في مدخلها لكي يبدو مهماً.

طوال سنة ظل يتلقى جَلْداً مبرحاً من فتى يكبره بأعوام، كان الفتى المعتم الوجه ينتظره في الظلام قرب بيت أمه. يكون صدام عائداً من شروده النهاري في الحقول والبرية، والليل يهبط، حين يظهر له ذلك الشبح من وراء شجرة أو جدار متداعٍ. يقفز الشبح صارخاً، فوق رأسه سلك حديد يقص الفضاء. يركض صدام هارباً والسلك يسقط كنارٍ صلبة على ساقيه وخصره وعنقه. لم يخبر أحداً، حين قسا جسمه قليلاً، انتظر ليلة كاملة الظلمة كثيفة الغيوم، وأخرج قضيب الحديد القديم من البؤرة قرب الحظيرة المهدمة. رجع إلى الكوخ من الجهة الأخرى، تسلل من وراء أشجار مكسورة وحيطان قصيرة، رأى ذلك الشبح الذي يكبره بحفنة أعوام، طويلا عريضا كمارد، يلتصق بشجرة تين. ارتجفت ذراعه، القضيب كان ثقيلاً في يده، الشبح كان يدندن ونظراته معلقة بالتلال وحقول الشوك، اقترب صدام بلا صوت، رفع القضيب وأهوى بها، الضربة الأولى أصابت الظهر والكتف، سقط الفتى أرضاً. استمر يضربه بالقضيب الحديد حتى احترقت يده واكتوى جلد أصابعه. صراخ الفتى امتزج بعواء الذئاب والضباع في البرية، بعد ذلك توقف الأولاد عن مطاردة صدام. في ذلك الزمن البعيد كانت الحياة صعبة، ثلاثة أطفال من كل عشرة كانوا يقضون في السنة الأولى من حياتهم، أمراض لا تحصى، ملاريا وسلّ وتراخوما وسوء تغذية وجدري وتيفوئيد وطاعون، ولا يبقى إلاّ الأقوى، قبل أن يهندس «اتفاقية الجزائر» في 1975، ويتخلى عن نصف «شط العرب» لشاه إيران، كان الأكراد في الشمال يؤرقون سلطة صدام حسين الخفية بثورات مسلحة. كان يعلم أن مصطفى البارزاني لن يقبل بأقل من دولة مستقلة للأكراد في شمال العراق عاصمتها كركوك الغنية بحقول النفط. بالسلاح الإيراني والسوفياتي، وبالخطوط التي يحاول مدّها مع الأميركيين، بدا البارزاني عدواً عنيداً. في تلك الأيام، بينما أمطار غزيرة تهطل على البلاد، ومستوى الماء يرتفع في دجلة والفرات، غادر صدام حسين العاصمة في رحلة برية إلى الشمال.

كان يميل عن ركوب الطوافات في رحلاته الداخلية، لأن الطوافات في هذا الوطن الذي يعجّ بأصحاب الطموح الساعين إلى السلطة، تميل إلى التحطم على صخور كردستان، وإلى الضياع في عواصف الصحراء الرملية. في السيارة العسكرية، بينما حقول الشوك تعبر عن جانبي الطريق مسرعة في الاتجاه الآخر، لم يتذكر تلك البقعة البيضاء العتيقة، تلك البلاطة الصخرية المربعة وسط حقول الشوك في شويش. كانت السحالي تخرج من بين النبات، تتجمد على نتوءات الصخر، وتتشمس. تُسلم جلدها للشعاع الحارق، وحين لا تحسّ بوجوده، هو الجامد هناك أيضاً، كحيوان بريّ، تغمض عيونها وتتحول إلى عيدان محروقة. طبيعة الشوك تسربت إلى خلاياه: إلى لحمه وعظامه ودمه. لئلا تؤلمه عضّات الذئاب، عدوانية البشر، كان عليه أن يربي جلد تمساح فوق جلده. يعلم أن مهمات أخرى صعبة تنتظره في أيام آتية: عليه الاستعداد. العالم يعجّ بالضواري. خرج خاله خير الله طلفاح من السجن في 1946، مطروداً من السلك العسكري، كان هذا عقاب كل من اختار الوقوف مع رئيس الوزراء ـ الألماني الهوى ـ رشيد عالي الكيلاني، في نيسان (أبريل) 1941: الكيلاني الذي شكّل حكومة قبل أسابيع بعد انقلاب عسكري.