دراسة حول الأخوين رحباني تسير عكس التيار

TT

السؤال الذي تحاول ميساء عبد الله درويش قرعان ان تجيب عليه من خلال صفحات كتابها «سوسيولوجيا الفن المسرحي لدى الاخوين رحباني» الصادر عن «دار بشاريا» في عمّان هو التالي: هل قدّم الاخوان رحباني (عاصي ومنصور) برفقة صوت فيروز، عبر مسرحياتهم التي عرضوها بين عامي 1970 ـ 1975 صورة انعكاسية للمجتمع ام انهم طرحوا رؤيا تغييرية تستحق التأمل؟

والجواب تصيغه قرعان بتحليل لخمس مسرحيات عرضت اثناء السنوات الحاسمة التي سبقت الحرب الاهلية المشؤومة وهي: «صح النوم» 1970، «ناس من ورق» 1972، «ناطورة المفاتيح» 1972، «المحطة» 1973 و«ميس الريم» 1974 .

تبدو الفصول الثلاثة الاولى من الكتاب على اهميتها، وكأنها مقدمات للفصل الرابع والأهم الذي يستحوذ على أكثر من نصف الكتاب حيث نعثر على تحليلات حول خمس نقاط أساسية، وكيفية معالجة المسرحيات لها وهي: عجز النظام السياسي، صورة الصفوة الحاكمة، المشكلات الاجتماعية، انقسام المجتمع اللبناني، الحلول التي قدمها الاخوان رحباني.

وترى الكاتبة ان تطور الاحداث السياسية دفع الرجلين في اول السبعينات، بعد سلسلة مسرحيات جعلت من الحب محورها، للاتجاه نحو «المسرح السياسي» الذي يبدو اكثر ارتباطاً بالواقع من ذي قبل، حيث تم التركيز على نقد اجهزة الدولة واظهار عجزها وتسببها في افراز امراض اجتماعية. والتحليل للمسرحيات الخمس يبدي ان تركيز الرحبانيين كان على الاختلال في البناء الاجتماعي الداخلي، مع اعتبار العوامل الخارجية ثانوية، ففي مسرحية «صح النوم» ينام الوالي كل شهر ويستيقظ ليلة واحدة يختم خلالها ثلاث معاملات فقط، مما يدفع بالبطلة «قرنفل» (فيروز) لسرقة الختم وتسيير اعمال الناس. وفي «ناس من ورق» يخاف النظام، ممثلاً بمرشحيه للانتخابات، من احتفال فني قد يجذب الجماهير ويفشل بالتالي المهرجان الخطابي الذي دعوا اليه في الوقت نفسه. وكذلك في «ناطورة المفاتيح» لا يجد السكان امامهم غير الهجرة الجماعية ومغادرة المملكة كوسيلة للضغط تاركين مفاتيح بيوتهم مع «زاد الخير» او فيروز التي تبقى محاولة تغيير قناعات الحاكم، وهكذا فإن صورة الصفوة الحاكمة ممثلة بـ«الوالي» او «النائب» او «رئيس البلدية» هي نماذج للسلطة التقليدية التي تعيق التعبير في مختلف المسرحيات باستثناء «ميس الريم» حيث التأكيد على «غياب السلطة» وتشرذم المجتمع. والحاكم كما هو عند الرحبانيين يغلّب المصلحة الشخصية ويلهو بمحاولة تحقيق اعلى درجات الاشباع على المستويين الشخصي والفئوي. وترى الباحثة ان هذا التوجه عند الاخوين كان انعكاساً مباشراً للحال اللبنانية قبل الحرب، وتصويراً لها وهو ما يرتبط عندهم، مباشرة بظهور مشكلات سلوكية اجتماعية انحرافية كالسرقة والغش والتزوير.

وان كانت المؤلفة تنحاز الى ايجابية ضعف السلطة السياسية في لبنان وتثني على علاقتها المباشرة بازدهار الفنون اعتماداً على نظرية «دومينو» التي تقول ان عدم الاستقرار يحفز الطاقات، وان قليلاً من الفوضى او الكثير منها ينعش مخيلة الانسان، فهي ترى من ناحية اخرى ان هذا الخلل هو الذي ولّد نماذج لبشر مختلين من حيث السوية السلوكية في المسرحيات.

وتذهب الباحثة الى أبعد من ذلك حيث تعتبر ان بطلة «صح النوم» التي حملت اسم قرنفل وسرقت ختم الوالي، وقدمت على اعتبارها منقذة للشعب، هي في نهاية المطاف «سارقة»، ولو قرر الرحبانيان تقديمها بصورة ايجابية، تستدر العطف وتجعل المتفرج ينحاز الى جانبها.

وفي الاعمال التي تم درسها فإن التلاعب والمحسوبية والتزوير ليست حكراً على المسؤولين وانما هي من خصال عامة الناس ايضاً. واذا توقفنا عند حالة قرنفل فهي لم تسرق فقط وانما بدت ذات حيلة ومراوغة وقدرة على الكذب، على اعتبارها اكثر ذكاء من غيرها.

وترى الكاتبة ان تبرير الرحبانين البطولي لسرقة قرنفل للختم يندرج ضمن محاولتهم «الاشتراكية» النزعة، للتعاطف مع المحرومين والمغلوبين على امرهم. وهو ما يتبين في «ناس من ورق» حين يمارس «ديب» احد التابعين للنظام من بؤساء الناس ان يتخذ من وسائل الغش والتزوير منفذاً للالتفاف على النظام وتحقيق المكاسب. وهكذا فإن المسرحية قدمت مشكلة الانحراف من رشوة واغراء على اعتبارها من افرازات جهاز الدولة لا مسؤولية المنحرفين انفسهم.

واذا ما توقفنا عند مسرحية «المحطة» فهي تقدم حالة اغتراب عند «وردة» التي تحلم بقدوم قطار يحملها الى مكان بعيد وبسبب تفشي عدوى كلامها عن القطار يصبح الحلم جماعياً، ويستطيع الماكر سعدو ان يستغل الجميع بأن يبيعهم بطاقات لقطار وهمي. وهنا لا يقدم الرحبانيان عمل سعدو على انه ابتزاز وانما ينتقلان به الى حيز الحلم الجميل، حين يتركانه يقول لوردة «إنت وانا التقينا، انا جيت من السرقة، وانت جيتي من الحلم، والسرقة والحلم اخوة، إتنينتن ضد الحدود والبواب». وتقول الكاتبة انه في نهاية المسرحية يأتي القطار الذي كان محض وهم، ويسافر الاهالي على متنه و«يحقق الحرامي ـ عند الرحبانين ـ مكسباً آخر وهو شرعية وسيلة بيع التذاكر».

وترى الكاتبة ان مشكلة انقسام المجتمع اللبناني التي تفجرت عام 1975 بدت واضحة تماماً في «ميس الريم» التي قدمت قبل الحرب بسنة واحدة، وان كانت قد ظهرت قبل ذلك، في مسرحيات اخرى. لكن في المسرحية المذكورة تكاد السلطة تختفي لولا تمثلها بشاويش الحراسة الذي يلعب دوراً سلبياً في تاجيج الخلافات، وتظهر العصبية بين عائلتي العروسين «شهيدة» و«نعمان»، اللذين بدل الدفاع عن حبهما ينخرطان في التعصب ويخضعان للنزاعات والفرقة.

ولكن ما الوسائل التي اقترحها الاخوان رحباني لحل المشكلات؟ تجيب الباحثة بأن المسرحيات اخذت منحيين فبعض الشخصيات نزعت الى التكيف مع واقعها، وبعضها الآخر مال الى التمرد. مثل «قرنفل»، «سارقة الختم» او الاهالي الذين تركوا الحاكم وهاجروا في «ناطورة المفاتيح» او وردة في «المحطة». لكن الكاتبة تقول الشيء وضده حين تعتبر ان الاهالي الذين تركوا الملك بدل ان يواجهوه يمثلون حالة انسحابية هروبية، وفي «المحطة» الاهالي قدريون يرجون تحسن الاحوال بالغناء للمطر ومثلهم وردة التي تريد حل مشاكلها بالحلم.

وسرعان ما تغير الباحثة رأيها في الحديث عن شخصيات تعد بالتغيير، حين تبدأ بتعداد نماذج انسانية تحل ازماتها بالهروب اما بالغناء والمهرجانات او بالسفر او بالحلم او بالشعر. وهنا تتحدث عن تكرار شخصية الشاعر في هذه المسرحيات. والنتيجة كما تراها الباحثة ان الرحبانيين قدموا اعمالاً واقعية من جانب ورومانسية من جانب آخر ولم تخل اعمالهم من السريالية. غير ان واقعيتهم ونزعتهم الاشتراكية في الفن وطرحهم لقضايا الطبقات المحرومة لم تؤد الى طرح مفهوم ثوري يهدف الى تغيير من يتزعمون الحكم وانما الى اصلاحهم والحوار معهم.

واذا كانت الباحثة قرعان قد حاولت ان تقدم دراسة علمية محددة لموضوع بعينه، يثير الكثير من الحنين في نفوس اللبنانيين، فقد حاولت ان تكتب له توطئة من خلال دراسة عن المسرح العربي عموماً واللبناني بشكل خاص للدخول بعد ذلك، في مغامرة، ربما تدرك سلفاً، انها قد تثير سيلاً من الاحتجاج. فمسرحيات الاخوين رحباني في العرف اللبناني بنت وطناً في موازاة الوطن، وقدمت بذلك نموذجاً للوطن المرتجى، في ما تأتي دراسة قرعان لتقول عكس ذلك تماماً بلغة هادئة، وتعابير حذرة لكنها تقول المحظور، ولا بد ان يكون الجواب عاصفاً.

* سوسيولوجيا الفن المسرحي لدى الأخوين رحباني

* المؤلفة: ميساء عبد الله درويش

* الناشر: «دار بشاريا» ـ عمّان