مسلمون بعمق ومؤمنون بعمق ومضادون للتعصب بالعمق نفسه

عبده الفيلالي الأنصاري يقدم قراءة موسعة في الفكر العربي و الإسلامي و يدعو إلى إجراء مراجعات عميقة

TT

من الكتب الجادة التي صدرت اخيرا والتي تستحق الاهتمام فعلا كتاب الباحث المغربي الدكتور عبده الفيلالي الانصاري. والباحث المذكور كما يقول غلاف الكتاب في تعريفه هو مدير «المجلة المغاربية للكتاب» Prologues، وقد نشر سابقا كتابا بعنوان: «هل الاسلام معادٍ للعلمنة»، ثم «حرصا على الايضاح: بخصوص المجتمعات الاسلامية المعاصرة». وقبل حوالي العشر سنوات كان قد ترجم كتاب علي عبد الرازق الشهير: الاسلام واصول الحكم (الترجمة الى الفرنسية، باريس، 1994).

وفي كتابه الجديد هذا يواصل المؤلف انخراطه في الهموم الاسلامية المعاصرة ومحاولة فهم ما يجري. وهو بذلك يقدم خدمة كبيرة ليس فقط للجمهور القارئ بالمعنى الواسع والعريض للكلمة، وانما ايضا للمثقفين انفسهم. ويصعب عليّ في مقالة واحدة ان اوفي هذا الكتاب حقه من العرض والتقديم. اقول ذلك وبخاصة انه مليء بالافكار الى درجة الاكتظاظ احيانا! ثم انه يستعرض نظريات ما لا يقل عن ستة عشر باحثا ومفكرا، ويحللها ويعطي رأيه فيها بشكل مباشر او غير مباشر. والشيء اللافت للانتباه هو انه يخلط بين المفكرين العرب او المسلمين من جهة، والمفكرين المستشرقين او الاجانب من جهة اخرى دون اي تمييز في المعاملة بين هؤلاء واولئك. وهكذا يبرهن المؤلف على انفتاح فكري واسع، واطلاع لا يقل اتساعا.

فمن يستطيع ان يقرأ أعمال كل هؤلاء الباحثين والمفكرين؟ لنحاول ان نعدد اسماءهم اولا وعناوين الفصول المخصصة لهم على التوالي. اولا: محمد احمد خلف الله والقراءات الحديثة للقرآن الكريم. ثانيا: جاك بيرك بين المكتوب والشفهي (من القرآن الى الشريعة، العقلانية والباطنية..). ثالثا: ارنست جيلز: التاريخ الكوني والاستثناء الاسلامي. رابعا: مكسيم رودنسون: عالم الاجتماع، والفيلسوف، والصحافي. خامسا: مارشال هودغسون: التاريخ كمشروع راديكالي (الحداثة كحدث عالمي، الاسلام مرئيا على ضوء الحداثة..). سادسا: علي عبد الرازق: المسلمون والتفسيرات الحديثة (الاسلام والسياسة: اشكاليتان متمايزتان..). سابعا: برهان غليون: عندما تخبئ ثورة ما ثورة اخرى خلفها (الثورة الدينية والثورة السياسية). ثامنا: محمد عابد الجابري: الاصلاح الديني وتجديد المعرفة. تاسعا: عزيز العظمة: العلمنة والنزعة الثقافوية في العالم العربي (الشريعة والحياة الحقيقية، معركة العلمنة). عاشرا: عياض بن عاشور: هل يمكن للمرء ان يكون مؤمنا وديمقراطيا في آن معا؟ (مواقف تجاه الحداثة، مجتمع استبدادي..). الفصل الحادي عشر: محمد طالبي: كيف يمكن للمرء ان يكون مسلما اليوم؟ (الايمان والانتماء، الايمان والتاريخ، الايمان والحوار). الفصل الثاني عشر: محمد شحرور: هل يمكننا اصلاح الاسلام من الداخل؟ الفصل الثالث عشر: فالزور رحمان ما بين الايمان العميق والمرونة العقلية المضطلع بها (انحرافات اصلية، انحرافات حديثة، القرآن في ما وراء الانحرافات). الفصل الرابع عشر: روا موتا هيدي: هل سيجيء اصلاح الاسلام من ايران؟ (هل الماضي هو مفتاح الحاضر؟ هل الحاضر هو استمرارية للماضي؟ هل المناقشة اللاهوتية اكثر تقدما في ايران؟ هل يمكن التوفيق بين الدين والديمقراطية؟).. الفصل الخامس عشر: محمد الشرفي: البديل ذو المصداقية. الفصل السادس عشر والاخير: عبد المجيد الشرفي: هل جاء زمن الاصلاح؟ (جرد لمكتسبات الحداثة، التوصل الى الرسالة القرآنية في ما وراء التاريخ، التخلص من الارثوذكسية او الاعتماد المطلق والدوغمائي، الدين داخل التاريخ الخ.).

لقد حرصت على تعداد الفصول كلها واحيانا بعض تفرعاتها لكي اعطي القارئ فكرة عن حجم المسائل المعالجة في الكتاب ونوعيتها. انها مسائل تخصنا جميعا ولا يمكن لأي مثقف عربي ان يهملها، وبخاصة في الظروف الراهنة. ومن المؤكد انها ستشغلنا طيلة السنوات القادمة.

من الواضح ان تأليف كتاب كهذا باللغة الفرنسية يساعد على اعطاء فكرة اخرى عن العالم العربي والاسلامي بشكل عام. فوسائل الاعلام الغربية لا تتحدث الا عن التيار المتطرف صباح مساء. وهذا شيء خطير لأنه قد يوهم الجمهور الفرنسي والاوروبي، بل وحتى الاميركي بأن جميع المسلمين ينتمون الى هذا التيار! وبالتالي فعرض افكار المثقفين العرب او المسلمين المحدثين او النقديين قد يعدل من هذه الصورة او يساهم في تغييرها الى حد ما. على الاقل هذا ما يأمله المؤلف منذ المقدمة العامة. ونلاحظ انه يطرح منذ البداية بعض الاسئلة التي ستقود عمله على مدار الكتاب. وهي من النوع التالي: هل يمكننا ان نقدم قراءات او تفسيرات حديثة للقرآن الكريم؟ بأي شيء تتمثل فرادة الاسلام او خصوصيته؟ هل يمكن للاسلام ان يتصالح مع الحداثة: اي مع العلمنة، والديمقراطية وحقوق الانسان؟ هل يمكن للاسلام ان يتعرض لاصلاح ديني؟ وكيف؟

وهذه هي الاسئلة الجوهرية التي تشغل ليس فقط مثقفي العرب والمسلمين، وانما ايضا مثقفي فرنسا واوروبا واميركا. بل وقادة الدول العظمى من بوش الى شيراك الى شرودر، الخ.

فمن الواضح، وكما يلاحظ المؤلف في خاتمة كتابه، ان مسألة الاسلام اصبحت تشغل العالم كله، ولم تعد مسألة داخلية تخص المسلمين وحدهم كما كان عليه الحال في الماضي. وبالتالي فإن على المثقفين المسلمين سواء أكانوا عربا ام غير عرب ان يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الظرف العصيب الذي نعيشه اليوم. ويبدو ان الدكتور عبده الفيلالي الانصاري قد تحمل مسؤوليته من خلال استعراضه لأهم المناقشات التي تشغل المثقفين العرب حاليا وقدم عنها خلاصة واضحة ودقيقة الى الجمهور الفرنسي لكي يعرف ان هناك مثقفين نقديين واحرارا في العالم الاسلامي والعربي، وان الساحة ليست خالية فقط للاصوليين المتطرفين.

ولكن يبدو لي ان المؤلف ألّف كتابه من اجل نفسه ايضا. فهو يريد ان يتوصل الى نتائج معينة في ما يخص بعض القضايا الخطيرة. ولذلك راح يستشير بعض كبار الباحثين والمفكرين لكي يعرف رأيهم في الموضوع. ومن خلال عرضه لافكارهم، ثم مقارعتها بالحجة ومناقشتها توضحت له اشياء كثيرة، وتوضحت لنا ايضا. انه يفكر من خلال الآخرين قبل ان يتوصل الى استنتاجاته الشخصية.

وكما قلت سابقا فإن جمعه بين المثقفين الفرنسيين والمثقفين العرب او المسلمين في كتاب واحد دليل على ان مسألة الاسلام اصبحت تخص الجميع في عصر العولمة. فالراحل جاك بيرك، مثلا، عبر في اكثر من مناسبة عن قلقه من تنامي تيار التطرف في العالم الاسلامي. وكان يرغب باستمرار في سماع صوت المثقفين العرب النقديين من امثال فؤاد زكريا، ومحمد سعيد العشماوي، وآخرين كثيرين، وانا واثق بأن سعادته سوف تكون غامرة لو انه عاش اكثر واطلع على هذا الكتاب. وفي الفصل المخصص له اعجبتني الفكرة التالية التي ينقلها عبده الفيلالي الانصاري بهذا الشكل:

«ان اكبر قطيعة في تاريخ الاسلام ليست تلك التي يتوهمها المسلمون والتي يعتقدون انها حصلت بنهاية حقبة الخلفاء الراشدين. وانما هي تلك المتمثلة بالقضاء على مذهب المعتزلة، هذا المذهب الذي فهم معنى الدعوات المتكررة للعقل والعقلانية في القرآن. انه المذهب الذي دافع بقوة عن مقولة خلق القرآن، وبالتالي موضعة النص القرآني داخل التاريخ».

ونفهم من ذلك ان المعتزلة كانوا اكثر وفاء لروح القرآن من غيرهم لأنهم طبقوا التفسير العقلاني الذي امر به القرآن ذاته. وبالتالي فإن تصفية هذا المذهب العقلاني ادى الى تجميد وتقديس ما كان ينبغي ان يظل منفتحا وديناميكيا (الترجمة بتصرف..) ولو لم يُصفَّ مذهب المعتزلة لما سيطرت الحركات اللاعقلانية على الساحة الاسلامية بهذا الشكل. وهي حركات تغلّب النقل على العقل.

اما في ما يخص المفكر التونسي الدكتور عبد المجيد الشرفي فقد خصص له المؤلف فصلا مطولا ودقيقا يحاذي الثلاثين صفحة تقريبا. ونفهم منه ان هذا المفكر اللامع هو مؤسس بكل ما للكلمة من معنى. فهو يمثل اليوم، كما يقول المؤلف، طليعة التيار النقدي والتجديدي في الفكر الاسلامي المعاصر، وتكمن اهميته في انه عرف كيف ينقد من الداخل الانغلاقات المزمنة، او العقائد المتحنطة، او المتكلسة التي لم تعد تناسب عصرنا وانما اصبحت حجر عثرة في وجه التقدم، تقدم العرب والمسلمين ككل. وقد احلّ محلها افكارا صحيحة وتفسيرات جريئة ومحررة للعقول والنفوس. فالدكتور عبد المجيد الشرفي يرى ان غاية الرسالة النبوية (او القرآنية) هي مساعدتنا على التمييز بين الخير والشر، وبقية الحدود المرتبطة بسياقها وعصرها والتي ينبغي ان نفسرها بشكل جديد على ضوء الحداثة وفلسفة حقوق الانسان. فالشيء الجوهري في القرآن الكريم هو جوهر النص لا حرفيته. فالتفسير الحرفي يجمد النص، بل ويقضي على روحه ومقاصده العميقة التي هي اخلاقية وروحية بالدرجة الاولى. فالقرآن الكريم يعلمنا مكارم الاخلاق قبل كل شيء، وكذلك التقى، والورع، ومساعدة المظلوم والمسكين والمحتاج، ومفهوم العدل والحق بالدرجة الاولى. واما ما عدا ذلك فمرتبط بعصره وظروفه التي تختلف عن عصرنا وظروفنا. ونلاحظ ان كل هذا النقد الداخلي الذي يمارسه عبد المجيد الشرفي يؤدي الى تحرير الانسان المسلم من التراكمات التاريخية والطقوس الشكلانية التي تثقل كاهله وتمنعه من التصالح مع نفسه وعصره والحداثة العالمية بأسرها.

وهناك ايضا فصل طويل مخصص للمفكر التونسي الكبير محمد الطالبي، شيخ المجددين المسلمين حاليا. وتبدو حماسة عبده الفيلالي الانصاري له واضحة جلية. فالدكتور الطالبي مسلم بعمق، ومؤمن بعمق، ولكنه مضاد للتطرف والتعصب والانغلاق بنفس العمق. ولو انتصر تياره الفكري ـ وكذلك تيار عبد المجيد الشرفي ـ لانحلت مشكلة الاصولية فورا ولما عادت لدينا اي مشكلة مع انفسنا او مع العالم الخارجي الذي يحيط بنا.

في الواقع ان الطالبي يبلور مفهوما جديدا للايمان الاسلامي، وهو ايمان مستنير وروحاني الى اقصى الحدود. ولا يخشى الاختلاف مع الارثوذكسية المهيمنة او حتى الاصطدام معها في ما يخص قضايا مهمة وخطيرة. كما انه يدعو الى الحوار بين الاديان واحترام اتباع الاديان الاخرى وايمانهم اذا كانوا صادقين فيه، بل وحتى «غير المؤمنين» يعترف لهم بالوجود داخل المجتمع لأن الايمان لا يفرض بالقوة. واذا لم يكن صادرا من الاعماق فلا قيمة له. هذا الفهم الحديث جدا للدين نادر الوجود في العالم العربي او حتى الاسلامي. ولا يقدر عليه الا العلماء الكبار من امثال الطالبي. ولكن هذا الجمع بين الحداثة الفكرية الكاملة من جهة، وبين الايمان الديني العميق من جهة اخرى يثير دهشة المتطرفين في كلتا الجهتين: اي متطرفي الايمان الارثوذكسي، و«متطرفي التنوير» الذين يصلون الى حد الالحاد والمادية المحضة. ويستغرب المثقفون العرب المحدثون ويتساءلون: كيف يمكن لمفكر عقلاني كبير ان يكون متديناً؟! ولكن استغرابهم هو الذي ينبغي ان يكون مدعاة للاستغراب! فالواقع ان هناك مثقفين كباراً في الغرب ممن يعلنون ايمانهم على رؤوس الاشهاد. ولم يحد الايمان من علمهم ولا من تطبيقهم للمناهج النقدية المتقدمة على تراثهم المسيحي، ولا من احترامهم للحقيقة الموضوعية. نضرب عليهم مثلاً الفيلسوف بول ريكور، والمؤرخ الكبير جان دوليمو، والفيلسوف المسيحي جان غيتون، الخ.. ولكنه ايمان العلماء الذين كلما زاد علمهم زاد ايمانهم. ثم انه ايمان شخصي لا يكره احداً ولا يفرض نفسه بالقوة على أحد، أي لا يجبر احداً في المجتمع على اعتناقه وتبنيه.

أما الدكتور محمد الشرفي الذي يعتبر من أعلام التنوير العربي في هذا العصر فيدين بشكل قوي الانحرافات الاجرامية للحركات الاصولية المتزمتة ويقول بما معناه: ان التجربة التاريخية للبشرية كلها اثبتت ان الحكومة الدينية لا يمكن ان تكون ديمقراطية، وانه اذا كانت كل ديكتاتورية مدانة من حيث المبدأ، فإن الديكتاتورية الدينية هي الأسوأ والأكثر ارهاباً.

لماذا؟ لأنها لا تريد فقط التحكم بالعلاقات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع، وانما ايضا بالمواقف الفردية. انها تريد ان تتحكم ليس فقط بالسلوك والتصرفات، وانما ايضا بالضمائر والعقول.

بمعنى آخر فإنها تقتل الانسان من الداخل وليس فقط من الخارج. ولهذا السبب ساهم الدكتور محمد الشرفي في تحديث نظام التعليم الديني في تونس عندما كان وزيراً للتربية هناك. وليت الدول العربية الاخرى تقلده أو تستفيد من تجربة تونس المتقدمة في هذا المجال. فالتغيير سوف يبتدئ من المدرسة. ولا يجوز بعد الآن ان نحشو أذهان اطفالنا وطلابنا حشواً باليقينيات القروسطية التي عفا عليها الزمن. فالاسلام هو دين العقل والتفكير الحر، لا دين الاستسلام للخرافات والشعوذات والتعصب الأعمى. نقول ذلك ونحن نعرف ان التعليم التقليدي العتيق للدين اصبح يمثل مشكلة ليس فقط داخل العالم الاسلامي، وانما خارجه ايضا. واصبح يجعلنا في حالة صدام مروع مع الجماعة الدولية بأسرها. والامور لا يمكن ان تستمر الى الأبد على هذا النحو، وانما ينبغي ان تتخذ قرارات سريعة في هذا المجال في مختلف البلدان العربية والاسلامية.

ويمشي في هذا الاتجاه التنويري والعقلاني ايضا الباحث التونسي الدكتور عياض بن عاشور، استاذ علم القانون في الجامعة التونسية. فهذا المفكر الحر والجريء يدعو الى تحديث التشريع والقوانين في العالم العربي. ولكنه يعرف ان ذلك لن يتم قبل تحديث الفكر ككل. فهناك هوة سحيقة تفصل بين المفاهيم التراثية، وبين الحداثة الفلسفية وحقوق الانسان. والمشكلة في العالم العربي لا تكمن فقط في ديكتاتورية الانظمة، وانما في ديكتاتورية المجتمع العربي نفسه: لقد أعجبني هذا المصطلح الاخير جداً: ديكتاتورية المجتمع العربي او الاسلامي وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في الواقع.

لا استطيع ان اتعرف الى جميع فصول هذا الكتاب، ولا الى جميع المفكرين الذين ناقشهم عبده الفيلالي الانصاري بشكل دقيق وكثيف ومطول. وانما سأقول كلمة قصيرة عن مفكر تنويري آخر، ولكنه مشرقي هذه المرة لا مغاربي: انه الباحث السوري الدكتور عزيز العظمة. فهذا الرجل يعتبر من منارات الفكر في سورية. ولا اجده متطرفاً في علمانيته ولا «أصولياً» في تنويره اذا كنا نستطيع ان نطبق مصطلح الاصولية على التنوير! على العكس، انه مثقف عربي يريد ان يدخل أمته في الحداثة العقلانية الكونية. وهو يعبر عن افكاره بكل صراحة وبدون مراوغة او مداورة. كما انه يدين النزعة التصالحية او التلفيقية لبعض المثقفين العرب الذين يستسلمون أمام المحافظين والمتزمتين من أول مناوشة. كما أنهم يرفضون طرح الأسئلة الحقيقية على التراث او تطبيق المناهج النقدية الحدثية عليه. وأخيراً فسوف أناقش المؤلف في نقطتين: الأولى تخص تطبيق المنهجية التفكيكية للعلوم الانسانية على تراثنا العربي ـ الاسلامي. والثانية، وهي مرتبطة بالأولى، تخص الخوف من زوال الهاجس الاخلاقي او القيم الروحية العظيمة للتراث الاسلامي اذا ما حصلت عملية التفكيك هذه وحصل عندنا تطور مشابه لما حصل في الغرب بعد عصر التنوير.

فيما يخص النقطة الاولى تخوفه مبالغ فيه او قل سابق لأوانه. فنحن لا نزال في بدايات الطريق. والخوف ليس من التفكيك للتراكمات التراثية المزمنة، وانما من بقاء هذه التراكمات التي تسد الأفق وتشل الطاقات الفردية والجماعية. وهذا التفكيك لن يؤدي الى زوال الايمان في المطلق، وانما الى نهوض ايمان جديد على أنقاض الايمان القروسطي القديم. والدليل على ذلك تجربة الاستاذ الطالبي نفسه. يضاف الى ذلك ان هذا التفكيك لم يحصل حتى الآن في اللغة العربية او اللغات الاسلامية الاساسية كالفارسية، والتركية، والأوردو.. الخ. وانما حصل في اللغات الاستشراقية كالفرنسية، والانجليزية، والالمانية. وبالتالي فلا داعي للخوف من شيء غير موجود اصلاً!.

واما فيما يخص النقطة الثانية فإن المؤلف يتساءل في اكثر من موضع: هل نحن بحاجة الى اصلاح ديني على طريقة لوثر والقرن السادس عشر ام الى شيء أبعد من ذلك كما حصل في اوروبا لاحقاً؟ وأجيب: نحن بحاجة الى الاثنين معاً. نحن بحاجة الى كل شيء يخرجنا من الانسداد الراهن او يحلحل الامور الى حد ما.. فمن الواضح انه لم تعد تكفينا اليوم حركة حصلت قبل أربعة قرون. وعلى أية حال فإن فلسفة التنوير التي تلتها ـ او الفلسفة المثالية الالمانية ـ ليست الا علمنة للاصلاح اللوثري. وكانط هو «لوثر جديد» ولكن بدون طقوس وشعائر وبدون مسوح الرهبان. لقد أخذ من الدين جوهره المصفى (أي الروحانيات والهاجس الاخلاقي) وطرح كل ما تبقى. فالهاجس الاخلاقي لم يمت في اوروبا على عكس ما يتوهم «فالزور رحمان» لأن التدين التقليدي انحسر عن سطح المجتمعات الاوروبية بعد العصر الصناعي وانتصار الحداثة العلمية والفلسفية. على العكس لقد اصبح مُستبطناً من الداخل وانتهت مرحلة النفاق والازدواجية واللامسؤولية الشخصية التي كانت منتشرة جداً اثناء العصور السابقة. ويكفي ان نلقي نظرة على المجتمعات الاوروبية الحدثية لكي نتأكد من ذلك. فالدقة في المواعيد، والشعور بالواجب والمسؤولية، واتقان العمل، والحرص على المصلحة العامة وكأنها مصلحة شخصية، كلها اشياء تميز مجتمعات الغرب الحديثة على الرغم من انها لم تعد تمارس الطقوس والشعائر المسيحية. لقد اصبح الوازع الاخلاقي داخل الانسان لا خارجه، اصبح الانسان هو الذي يراقب نفسه وليس بحاجة الى رجل دين او شرطي لكي يراقبه او يعظه ويزجره لكي يتبع السلوك الاخلاقي. وبالتالي فالاخلاق زادت ولم تنقص في عصر الحداثة. ولهذا السبب نجحت مجتمعات الغرب وتفوقت على جميع المجتمعات في العالم بما فيها المجتمعات الاسلامية. ولهذا السبب قال الامام محمد عبده كلمته الشهيرة: في اوروبا يوجد اسلام من دون مسلمين، وفي بلادنا يوجد مسلمون ولكن بدون اسلام! والمقصود بالاسلام هنا النزاهة والصدق، والامانة الشخصية في المعاملات. وقد وجدت انا شخصياً في المانيا ان الانسان يستطيع ان يستخدم وسائل النقل العامة دون ان يدفع فلساً واحداً ودون ان يشتري تذكرة مرور. ولكنه لا يفعل ذلك ابداً ولا يغش على الرغم من انه لا يوجد احد يراقبه، ويحاسبه. لماذا لا يغش؟ لأن ضميره الشخصي هو الذي يراقبه، هذا الضمير الاخلاقي الصارم الذي رسخه في الوعي الجماعي مارتن لوثر وايمانويل كانط!

* اصلاح الاسلام؟ مدخل إلى المناقشات المعاصرة.

Reformer L" islam?une introduction aux debats contemporains.

* المؤلف: عبده الفيلالي الانصاري Abdou Filali - Ansary

* دار النشر: لاديكوفيرت، باريس، 2003 la decouverte. Paris.2003