شاعر فلسطيني يحاكم للمرة الثامنة من أجل ديوان شعر

موسى حوامدة صاحب «شجري أعلى»: لن أطلب اللجوء السياسي .. سأبقى هنا وأواجه مصيري بشجاعة

TT

مفارقة مرعبة أن يستدعى الشاعر الفلسطيني ـ الأردني موسى حوامدة، في هذه الأيام العصيبة ليحاكم للمرة الثامنة، من أجل ديوان شعر. ويتناقل المثقفون العرب، حالياً بياناً يوقعونه تضامناً ودعماً للشاعر الذي كان قد أصدر ديوانه «شجري أعلى» منذ أربع سنوات، ومن حينها وهو يخضع لمحاكمة تلو أخرى. فقد اتهم بالردة، وهدد بالفصل بينه وبين زوجته، والحجر على أمواله. ولم تشفع له تبرئته من قبل المحاكم الشرعية، فأحيل إلى المحاكم المدنية التي ما زال يستجوب أمامها. ورغم أن الشاعر رفض التهم الموجهة إليه، وشرح مقاصده الشعرية،إلا أن ذلك لم يمنع شتمه على المنابر وتهديده واضطهاده. سريالية التعامل العربي مع القصيدة يرويها موسى حوامدة في هذا الحوار:

* تساق للمحاكمة للمرة الثامنة خلال أربع سنوات، من أجل ديوان شعري، فماذا حدث عملياً في جلسات المحاكمة الأخيرة؟

ـ الأمر أشبه بأسطورة سيزيف، فكلما أوصلت الصخرة إلى قمة الجبل عادت وتدحرجت إلى القاع، والمأساة ان الآلهة الإغريق هنا لم يحكموا علي هذا الحكم الملحمي بل جاء من خلال جهات لا اعرف ماهيتها وهدفها حقا، لقد وضعت تحت المجهر بل عريت تماما وكشفت كل أرديتي، وتهاوت كل التأويلات والقصائد امام صرامة المحاكم والشرطة والجلب والوقوف في النظارات، لكن أصعب ما في كل تلك المحاكمات، ان تُسأل ماذا تقصد بكذا؟ وماذا تعني بالقصيدة الفلانية. بت اكره كلمة القصد والقصدية ولم أكن أتخيل في حياتي ان أقف امام محكمة حقيقية واسأل ماذا اقصد وإلام ارمي؟ وكلها أسئلة مدرسية، كان المرء يتوقع ان يسألها قارئ غير مثقف، لكن ان يكونوا قضاة ونيابة عامة، فأمر لا يمكن تصديقه. ولم يتوقف الأمر عند سؤال المقاصد، بل تعداه إلى اختراق الضمير والرغبة في تشريح القناعات والخيال أو حتى الهواجس والأحلام، وكان هذا أصعب الأمور وأقساها، حين تسأل عما تؤمن به وعما لا تؤمن به وتضطر للإجابة وفق سياق إجباري وتكتم رغبتك بالصراخ وشتم المهازل والبلادة والسطحية. أما الحماقة بعينها فهي ان نطبق معايير القول العادي على الشعر وان نحاكم الجملة الشعرية كما نحاكم الشتيمة او الهفوة، هذا أبشع ما في الحكاية لان الشعر فوق الكلام العادي والمنطق ولو خضع الشعر للمنطق او لمعايير القول او النثر لصار كلاما ساذجا سطحيا:

أضيف للبرق قليلا من قلب الظلام وادجن الرعود أسوق الخديعة للشاهد والشهود وانقش على مجرة العمر سيرة الرداءة

* ما معنى أن تحاكم من جديد، هل بقي ما لم تسأل عنه؟

ـ لقد سئلت عن الكثير، لكن ذلك لا يعني ان باب الأسئلة والتحريفات اللغوية قد انتهى، وقد فوجئت في المحكمة الجديدة ان هناك قصيدة كامنة لم اسأل عنها من قبل وهي «عبد الله» وقد طلبت المحكمة ان أوضح قصدي (لأنه قد يكون مفهوما للمختص لكن المعنى غير واضح للعامة) بهذا الكلمات جاء قرار الاستئناف الأخير. وربما يعاد نبش الأسئلة الأولى عن «يوسف» و«سبيل» و«استحق اللعنة» وكل قصائد المجموعة، لكأنها فعلا مسرحية تراجوكوميدية، لن تنتهي لا في المحكمة الشرعية ولا المدنية ولا حتى في عقول مريضة تريد خنق الشعر في حذاء مستعمل من دون ان تجد حاجة او ضرورة لفن وتسعى لتجميد الحياة وسحق الإبداع وتحقير كل غيمة او شجرة لا تأتي على شكل معهود ومألوف وفق نمط رتيب مهترئ.

* هل ما زلت قادراً على كتابة الشعر في أجواء التهديد وجحيم هذا الحصار النفسي؟ وأي شعر يكتب في هذه الظروف اللاشاعرية؟

ـ بالعكس انها لحظات شاعرية بكل معنى الفجيعة، ولهذا كتبت، خلال المحاكمة الأولى وخلال إطلاق فتاوى التكفير. الفردية والحزبية وهدر الدم بداية عام ألفين. «أبارك لك الفجيعة»،عايشت خلالها السهروردي ولسان الدين الخطيب وأقمت مع الحلاج، ورأيت بأم عيني تلك النار التي اشتعلت في جبته وعمامته وجسده وقلت: من لم يجرب محنة التكفير لم يعرف لذة الحلاج! انها محنة شاعرية بل تتفوق على الشعر نفسه. لكن المرارة التي تكلست في ما كتبته خلال الأربع سنوات كانت كافية لتحطيم كل الأفكار الجاهزة والقصائد الحريرية الناعمة او لحظات الطمأنينة. أنجزت خلال تلك السنوات مجموعة شعرية أسميتها «أحسن إلى الحمامة القتيلة». أما المجموعة التي كنت قد أنهيتها قبل الضجة مع بداية الألفية الجديدة، فقد صدرت نهاية العام الماضي تحت عنوان«أسفار موسى العهد الأخير» بعد ان خضعت كمريض السل إلى مبضع الجراح. لكن الحقيقة التي لا بد من إطلاق يدها لترعى في حقول الكلام; ان الشعر فقد أهميته، وخسر طاقته على تطيير العصافير، وإطلاق حرية البلابل الجريحة،وتم اجلاسه معصوب العينين، مربوط اليدين، على كرسي متحرك باعتباره مشلول الإرادة مقعدا، لأنه لم يستطع ان يحمل صاحبه على جناح غيمة ويحميه من الغربان والبوم وطيور الشؤم وكلاب الحراسة. لقد خسر الشعر فعلا احد جناحيه فسقط في نظارة ضيقة تفتقر حتى الاوكسجين، وكأن لعنة حلت ولا تريد ان ترحل، لعنة تخطت حدود الاثم وأصابت كثيرين حوله ممن ليس لهم ذنب في جريمة الشعرنة ولا رغبة في ايذاء النجوم او حرق المجرات. لكن اللعنة قد تصيب من لا يستحقها دائما وتتجاوز الذين يبحثون عنها وتناسب سحنهم العدوة بامتياز.

* ما دمنا نتكلم عن الحصار، وأنت شاعر فلسطيني، ألا تعتقد، واستنتاجاً مما تكابده من أبناء جلدتك أن حصارنا الفعلي هو الذي نضربه حول بعضنا البعض، وأن الحصار الإسرائيلي ليس غير امتداد لمحنتنا الذاتية؟

ـ عندما كنت طفلا في فلسطين وتحت الاحتلال كان شعور الأسى والإحساس بالفقد يلازمني، فنحن الفلسطينيين ليست لنا أحلام او طموحات، فإما ان تصبح عاملا في إسرائيل او معلما او تتسلل للالتحاق بالثورة، لكن وبأمانة كان يخالطني شعور بالحسد للعرب الذين يمكن ان يحلموا بكل ما يخطر على بالهم، يمكن ان يصبح الطفل طيارا او شرطيا او عسكريا او رئيس جمهورية. لكنني اكتشفت وبعد تجربة العيش في البلاد العربية ان هذه الأحلام زائفة، وان الحصار الذي يحاصر الفلسطيني من قبل جيش الاحتلال يحاصر العربي بأساليب شتى وان كانت علنية وواضحة فلسطينيا فهي عربيا باطنية او ملتوية. وهنا تفرق نفسية الفلسطيني عن العربي لان الأول يعلن عداءه العلني للاحتلال بينما العربي يعيش الحصار ويفرضه أحياناً بنفسه وعلى اخوته، ولا يجرؤ حتى على التعبير عن حالته المرضية فيعجز الأطباء عن تشخيص الحالة وإيجاد الدواء.

* شعرك شعر مقاومة في العمق، ومع ذلك يصادر ويعامل كالوباء، بسبب سوء النية أو سوء التأويل، ألا تعتقد بأن هذه المعركة التي تخوضها شديدة الرمزية، بحيث انها حولتك رغماً عنك، من مقاومة الاحتلال إلى مقاومة عدوان من يفترض أن تكون معهم في صف واحد، أي أننا ننحرف، بسبب ضيق الأفق من الجوهري إلى هامش الهامشي؟

ـ هذا صحيح مائة في المائة، وأنت حقا لمستِ فعلا اكبر ينابيع حزني خلال هذه المحنة. فقد كان يؤلمني ان تأتي القطيعة ممن أحبهم، لكنني رغم ذلك لم افقد البوصلة. فالشهيد الفلسطيني ابن حماس او الجهاد الإسلامي في نظري أعلى مرتبة من كل البشر، والبطولات التي يخوضها ابناء الشعب الفلسطيني تدفعني للاعتزاز وتمنحني القدرة على الحلم، أما ما أنجزه حزب الله، وما يطرحه قائده وابطاله فهو نموذج رائع للمقاومة. في عز الحملة الظالمة ضدي لم اقف موقفا معاديا بحق الحركة الإسلامية في المقاومة والنضال في فلسطين او المعارضة في الأردن، وكنت دائما أجد نفسي إلى جانب خالد مشعل وحسن نصر الله، ولم يكن يعنيني موقف بعض الإسلاميين مني والا لكنت تقبلت التعامل مع أطراف معادية لقضيتي وشعبي وحققت مكتسبات شخصية. مأساة المثقف العربي هي وقوعه بين مطرقة الأنظمة وسندان الناس الطيبين الذين يحبهم وينتمي اليهم ويدافع عن حقهم في الحرية والحياة. وتستغل السلطات العربية نفور المجتمع من هذا المثقف او الخلاف معه وتطلق ضده الحملات الظالمة لتزيد القطيعة مع أبناء طبقته وتحشره في زاوية الاستسلام، كي يجدها حامية له منافحة عنه فيسقط في براثنها ويصبح من مثقفيها وحملة مباخرها، بعد ان تحرمه من المظلة الشعبية وتجعله يخوض معاركه الهامشية. بينما كان يمكن ان يصرف جهده من اجل أمته وفي صميم قضيته، ومن اجل تطوير تجربته.

* لاحظت أن البيان الذي يدين محاكمتك ووقعته مؤخراً مجموعة من المثقفين لم يكن بينهم مثقفون أردنيون، فهل هو الخوف الذين يعيق التضامن أم الجبن أم عدم الإيمان بجدوى فتح معارك جوهرها الحرية؟

ـ كل هذه الأسباب صحيحة، وربما هذا ساهم في استمرار الحملة، وسهل مهمة الأطراف الساعية لتكفيري وهدر دمي، ولو ان المثقفين الأردنيين وقفوا منذ البداية وقفة حقيقية، ليس من اجل قضيتي، ولكن من اجل حرية التعبير، وكوني عضوا في رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للكتاب العرب ونقابة الصحافيين الأردنيين، لانتهت هذه القضية منذ أربع سنوات. وللأمانة، لا بد ان أسجل موقف كثير من المثقفين الأردنيين الشرفاء الذين وقفوا معي ودافعوا عني. أما البيان الأخير فقد انطلق من قبل المبدعين السوريين، وهم الشاعر السوري علي سفر وحسين درويش وعزت عمر، ومن قبل المبدعين اليمنيين أيضا مثل علي المقري وعزت مصطفى حتى التقطه المثقفون المغاربة على يد الكاتب محمد اسليم والشاعر حسن نجمي وغيرهما، فتحولت الحملة الى حملة عربية وكأنها مغربية لا مشرقية. وأنا أقدر دور كل المثقفين العرب سواء الذين وصلهم البيان ووقعوا عليه او الذين يدافعون عن حرية التعبير ولم يصلهم البيان، لأن جمع التواقيع تم عبر الانترنت واتخذ إطارا عربيا، وكان عدد العرب الموقعين اكبر ولم ينبع من الأردن. وكان المقصود جمع عدة تواقيع فإذا به يتحول الى مئات. لكن رابطة الكتاب الأردنيين لم تتخذ لغاية الآن أي موقف لأنها في المرة الماضية حين أصدرت بياناً أثناء المحاكمة الشرعية تعرضت للنقد. وبدوره بيت الشعر الفلسطيني مثلا ورغم معرفتهم بالقضية، دفنوا رؤوسهم في الرمل، وكأنهم يعتقدون ان مهمتهم تنحصر في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالشعر. ولكن الحقيقة ان الذين يقاومون الاحتلال ويدفعون ارواحهم من اجل حرية وطنهم وشعبهم ليسوا شعراء او مثقفين فقط. لكن الترهل والمصالح القطرية والشخصية تجعل كثيرا من مؤسساتنا أدوات تابعة للسلطة فلا تستطيع الوقوف دفاعا عن حرية التعبير او حرية القصيدة، ولا استثني من ذلك اتحاد الأدباء والكتاب العرب الذي لم يقف مع أية قضية عربية تتعلق بالحرية.

* طبع ديوانك بعد مراقبة السلطات المختصة في الأردن وموافقتها، ثم جاءت غضبة رجال الدين عليك، فوجدت نفسك وحيداً وكأنما الرقابة التي سمحت بالكتاب تخلت عنه حين رمي بالعقوق، مفارقة من هذا النوع ألا تثير الرعب في قلوب المبدعين حين يعرفون أنهم تحت رحمة المزاج العام لا في حمى الدولة؟

ـ هذه هي أم المآسي، فدائرة المطبوعات أجازت الكتاب، ورغم ذلك حرضت وزير الأوقاف عليه، بعد ان رضخت للحملة الظالمة، ولم تتحمل المسؤولية لأسباب هم يعلمونها أكثر مني. والغريب، انهم وبعد انتهاء القضية في المحكمة الشرعية عادوا هم أنفسهم وطلبوا من النائب العام تحريك القضية في محكمة بداية جزاء عمان، إلا ان المحكمة لم تقبل حججهم فحكمت لصالحي لأنني قدمت لها المخطوط مجازا وعليه ختم الدائرة ويحمل رقم إيداع في المكتبة الوطنية. وهذه هي الفضيحة بعينها، فهم لا يسمحون بطباعة قصاصة ورق دون موافقة مسبقة، وحين تقع الواقعة يتخلون عن مسؤوليتهم. فإذا كان الأمر كذلك فما جدوى مراقبة الكتب قبل طباعتها؟ ولماذا تجيز الدائرة ما هب ودب ولا تأبه لمستوى الكتب او مضمونها وكل ما يهمها الا تقرب الاقانيم المقدسة؟ ومع ذلك يتخلون عن قرارهم ويحملونك المسؤولية، بل أطلقوا ضدي حملة مليئة بالافتراءات منذ بداية القضية واتهموني زورا وبهتانا بأنني غيرت وبدلت وأضفت على الديوان، لكنهم لم يثبتوا ذلك امام القضاء. ولو ان وزارة الإعلام ووزيرها الذي كان أيضا يحرض ضدي، حيث تحول إلى شيخ معمم رغم مهاجمته لكل الإسلاميين علنا في حينه حتى الأردنيين منهم وقادة حماس، ولو ان رئيس الحكومة السابق لم يعط الإذن، ويعبر عن سخطه مني، لا بسبب الشعر بل لاسباب ثانية، لما جرى شيء، ولما حركوا أية قضية ضدي بل لأعلنوا لكل من يتصل معترضا ان «شجري أعلى» مجاز، وانه كتاب شعر ولا يحمل إساءة، لان الناس حين تسمع ذلك ستتراجع لأن ما يزع بالسلطان لا يزع بالقرآن، لكنهم فعلا أرادوا إحداث الضجة لأسباب لا اعرفها.

* كتبت عن معاناة وآلام تكاد تكون مدمرة لك ولعائلتك بسبب ما أثير حول الديوان وما تعرضت له من ملاحقات وتهديدات، وها أنت بعد كل هذا تعود إلى المحكمة، أي إلى نقطة الصفر، ما هو شعورك أولاً بعد هذه المغامرة العلقمية، ثم ماذا تنوي أن تفعل، وما هي وسائل الخلاص؟

ـ لا أنكر انني في البداية صعقت لخبر إعادة المحاكمة، اضطربت; كدت افقد أعصابي، ولكن لا سبيل الا الوقوف، فالهدف على ما يبدو هو كسر ارادتي بعد ان تحملت وصمدت كل هذه السنوات. يوم أمس تدارست القضية مع مكتب المحاماة الذي يديره محمد عياش ملحم الذي تطوع مشكورا للمرافعة عني وسوف نذهب الى المحكمة، وبرغم كل الألم ورغم ان ظروف المنطقة مرعبة، سنرد على قرار الاستئناف الجديد وسنحاول ان نثبت للمحكمة ان قصيدة «عبد الله» التي تمت إثارتها مجددا لا تحمل أي معنى سلبي ضد شخص بعينه وان السخرية الكامنة في الكتاب كله يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار، كذلك أعلمني المحامي اننا سنستفيد من قرارات المحكمة الشرعية السابقة بتبرئتي او رد الدعوى. وان كنت متأكدا ان القضية لن تنتهي فهناك قصائد كثيرة في المجموعة لم اسأل عنها، وربما يتم نبش قصائد جديدة، كل الاحتمالات مفتوحة. المهم انني وقفت في وجه العاصفة، دافعت عن حق قصيدتي في الاختلاف، وعن عدم رغبتي في طلب اللجوء السياسي، ليس حبا في البقاء تحت مدفع الاتهامات او الطلبات القضائية، ولكن لأنني سأواجه مصيري بشجاعة مهما حصل. كثر نصحوني بالذهاب إلى أي عاصمة أوروبية كما فعل كثيرون غيري ممن اضطهدوا، لكنني أسعى للعودة إلى فلسطين التي أخاف ان ابتعدت عنها أكثر ان افقد طينتي الأولى وصلصالي الطبيعي. هنا أبقى قريبا من أهلي وأمي ومسقط رأسي، كما ان الهواء الذي يمر علي يحمل لي ريحة أهلي وبلدتي. انني عاجز عن شراء حريتي وخلاصي بعرض قصيدتي في المزاد العلني، انني مؤمن بقدري; الموت كما تعلمت في طفولتي بيد الله، وما دونه بيد العبيد الذين آن لهم أن يخجلوا وان يكفوا عن خنق حريتي ومحاولة سحقي، لأنني لن انحني ولن انكسر أمام هذه المماحكات السخيفة. ان جنون الشعر يفرض علي الاستبسال في الصمود لا سبيل آخر لا، هرب ولا فرار (فالبحر من ورائكم) رغم انني لم احرق سفني كما فعل ابن زياد.

* لقد سجنت منذ كنت تلميذاً في المدرسة ومن ثم في الجامعة، وحين صرت شاعراً، فهل ذلك عائد لكونك صاحب أسلوب مشاكس؟ بكلام آخر، ديوانك الأول اسمه «شغب» وهو عنوان دال ربما على شخصيتك، ألا ترى أنك تترك لنفسك حرية السفر التعبيري على مداها (وهذا حق إنساني للمبدع وغيره) لكن ثمة من يلجأ إلى تلطيف العبارة كي يتفادى قطع شعرة معاوية؟

ـ ولدت وعشت في قرية فلسطينية تشبه قرى الغجر، قرية فلاحين كل طقوسهم وعاداتهم واحتفالاتهم تتم بصوت عالٍ أعراسهم وأغانيهم تحمل طابع الحدة والعنف، فالغناء أو الدبكة لا بد ان تكون شديدة الإيقاع، الحزن والموت يعبر عنهما بنبرة صوتية مرتفعة، وحتى أمورهم الاجتماعية والسرية يتم كشفها بشكل فاضح، كأنهم لا يرغبون في تلطيف شيء وكأن قساوة هذه الجبال التي يقيمون عليها لا تحب النعومة والسلاسة. ربما أكون متأثرا بتلك الاجواء التي دفعتني وأنا في العاشرة من عمري لقيادة مظاهرات البلدة عندما توفي الرئيس جمال عبد الناصر، لكن إحساسي بالخسارة المبكرة بالحرية والوطن جعلني دائم الأسئلة والمعرفة وبسبب وجود حساسية عالية لدي مبكرا تجاه الاحتلال، يبدو ان السبيل للتعبير عن ذلك كان الانخراط في مظاهرات المدرسة بشكل مستمر وكتابة وترديد الهتافات العالية، ومواجهة الجيش الإسرائيلي بالحجر والمظاهرة، وكنت دائما أول المتظاهرين بل كنت اجن عندما تكون هناك مظاهرة في رام الله او نابلس ولا تسير مثلها او أضخم منها في الخليل حيث درست المرحلة الثانوية. أما حكمة معاوية فربما لم يكن لدي ظرف موضوعي للتعلم منها لأنني لم اعش ظروفا هادئة وحياة ناعمة، وقد علق ذلك في مجموعتي الأولى (شغب) فعلا، حيث حملت قصائد تشبه المظاهرة تماما، وربما ظلت تلك الروح تسري في قصائدي حتى الجديدة او تلك التي تتم ملاحقتها. لكن الأهم من علو الصوت انني كنت وما زلت مسكونا بالتاريخ وبالتراث الذي أعطى لأعداء الشعب الفلسطيني حق استلاب بلادهم ربما اخذ مني هذا الأمر كثيرا من التأمل ولذا كان كثير من قصائدي وكأنها رد على ذلك التراث الذي بدا لي كأنه أعطى الشرعية للاحتلال. ولأنني لست ممن يؤمنون او يجيدون حكمة معاوية لم أكن بحاجة إلى المواربة. ربما يكون سؤالك قد لمس المدرج الاول لقصائدي وهو استنتاج صحيح الى حد كبير.

* يبدو وكأن الحلقة الجهنمية التي تشكلت للانقضاض على ديوان «شجري أعلى» وصاحبه معه هي فعل عدوى تنتقل بين الناس كما النار في الهشيم حتى لا يعود بإمكانك إيقاف المشاعر المعادية؟ أي ميكانيكية غير واعية تحكم مجتمعاتنا؟

ـ للأسف، الثقافة الشفاهية في المجتمع العربي تقتل كثيراً من الحقائق، فكثير ممن كانوا يهاجمونني لم يكونوا قد قرأوا كتابي او كتبي الأخرى، والأغرب ان كثيرا من المثقفين أيضا يقعون تحت تأثير الثقافة الشفاهية فهم يتداولون أحكاما ليست صحيحة ويخرجون بنتائج سلبية ويريحون أنفسهم من عناء البحث والتقصي، وقد كنت استغرب ان عددا من المثقفين كانوا يصدقون ما يطرحه بعض المسؤولين وينقلون الاتهامات من دون ان يقرأو او يسمعوا رأيي، ولو انهم تعمقوا في القراءة لما ذهب بعضهم لأحكام خاطئة ولما توجه جل همهم لتدمير الظاهرة بدلاً من مناصرة الحرية نفسها.

* ما هي الوسيلة في رأيك، لوقف مسلسل الاعتداء على حريات الكتاب، هل هي الدولة التي يجب أن تقف في وجه المكفرين أم هي حركة مدنية جريئة يجب أن تتشكل من دون خوف من اتهامها جماعياً بالمروق؟

ـ لا اعرف كيف يمكن مواجهة ذلك، لكن لا بد من وقف حالة النفاق التي تعيشها الثقافة العربية، ووقف حصص المجاملة، وكتابات المقايضة الشخصية. الأمر معقد جدا والخروج من هذه الحالة صعب، انه يحتاج الى تضحيات كبيرة كي تتحول مجتمعاتنا العربية الى مجتمعات حرة ديمقراطية يصان فيها القول، لان الأصل ان يحاسب الإنسان على عمله لا على قوله مهما كان هذا القول، وكل قضايا الحرية التي نعيشها حتى الآن هي من الدرجة البدائية، وكل المحاكمات التي تجري للمبدعين تجري لأسباب سخيفة، ومن قبل قوى لا تؤمن بحرية التعبير.

كما ان على الحركات الإسلامية ان تتخلى عن الانغلاق والاستفادة من سلطة الدين، لان جوهر الدين هو العبادة وليس السلطة والسياسة. ولا بد في النهاية من فصل الدين عن الدولة لمصلحة الاثنين، وان نقوم بصياغة عقد اجتماعي فريد يمنع الاعتداء على صاحب قول او على حرية، حتى حرية العبادة يجب ان تصان فلا اعتداء على مسجد او كنيسة او عابد في صومعة، ولكن بالمقابل لا اعتداء على صاحب رأي وقول. مشكلة العقل العربي انه أحادي النظرة ولا يقبل الرأي الآخر. وهنا يحتاج الأمر إلى آراء أكثر نفعا من رأي شاعر مثلي ما زال يذهب الى المحاكم من اجل توظيف بعض القصص التراثية والقرآنية حتى لمصلحة الأمة وضد أعدائها.

* الشائع أن الشعوب العربية تتهم أنظمتها بكبت الحريات، وهو رأي لا يجانب الصواب. لكننا نلحظ أن الناس باتوا أكثر قمعية من حكوماتهم التي تهادنهم وتضطر لمجاراتهم بمصادرة هذا ومنع ذاك لاتقاء شرهم؟ ـ لكن الأنظمة تتحمل المسؤولية، فهي التي تكرس نفوذ الجماعات الدينية وتنافق لها ثم تنقلب عليها، والأنظمة هي التي تتحكم بمنابر التعبير وتستطيع التأثير في الرأي العام، من دون ان نسقط من حسابنا ان الأحزاب والقوى الإسلامية تنازع الأنظمة على السلطة فتألب الرأي العام ضد أية ظاهرة قد تتسامح معها الحكومات. الناس غير ملومين مهما كانت قناعاتهم لأنهم لم يُبصَروا بالحقائق، وتركوا نهب الحركات المتشددة وأسرى الأمية والتلقين، فلا نتوقع منهم ان يكونوا بعيدي نظر منفتحين، بينما يغصون في الفقر والبطالة والجوع والجهل واحتقار المرأة وغياب الحقوق السياسية، فلا نظلم الناس أكثر مما يعانون من جور.

* أميركا باتت في عقر الدار، ثمة من يظن أنها آتية وفي جعبتها الديمقراطية، وآخرون يعتقدون أنها ستدفع بمجتمعاتنا إلى مزيد من التطرف، فما رأيك؟

ـ اميركا قوة عظمى تحاول الهيمنة على العالم وليس على العراق فقط، والمرء يحب ان يرى الآخرين على صورته وشبهه، نحن العرب نكون سعيدين حين نرى آسيويا او صينيا يقرأ القرآن ويعرف العربية، والأميركان يريدون التعويض عن نقصهم التاريخي والتراثي بتعميم قيمهم على العالم. مؤكد انهم سيسعون الى تغيير مجتمعاتنا الى صورة أكثر ليبرالية، ولكن إلى الحد الذي يخدم مصالحهم ويساعدهم في تطبيق العولمة ونشر القيم الاميركية، والحفاظ على بقاء إسرائيل وفرض التطبيع معها على العرب كلهم، والسيطرة على خيرات المنطقة والتحكم في أنظمتها وتوجيه الشعوب للرضوخ للثقافة الاميركية والوصول إلى نهاية التاريخ حسب مقولة فوكوياما. قد تستفيد بعض المجتمعات العربية من الحرية الأميركية المزعومة كما تنبأ المفكر العربي جلال صادق العظم شامتا، لكن ما فائدة الحصول على بعض الحرية الفردية حين تصادر حرية الأوطان نفسها. ربما يقاد المرء الى الجنة بالسلاسل كما يقول المثل، لكن هذه السلاسل تظل قيودا، والهجمة الاميركية استعمار جديد مهما كانت الذرائع، والعدوان على العراق بالذات ليس له أي مبرر، فلا يجوز ان تأخذ بيتي كي تعطيني الحرية، حين يكون أبي ديكتاتورا. لهذا فان الواجب أولا التصدي بقوة للغزو الاميركي للمنطقة واحتلال العراق. ان المنطق الاميركي غريب انه أشبه بالشرطي الذي يجبرك ان يساعدك في البحث عن ابنك الضائع وحين يجده يذهب الى دائرة الأحوال المدنية لتبني هذا الطفل، لتكتشف في ما بعد انه هو الذي ساعد أو مهد لاختفائه.