ثقافة ما بعد سقوط التمثال

فاضل السلطاني

TT

إذا استثنينا المثقفين المنسجمين مع أنفسهم وضمائرهم الأدبية والمهنية في ما قبل سقوط التمثال وما بعده، واذا استثنينا ايضا اولئك المثقفين الذين انقلبوا فجأة، ما بعد سقوط التمثال وهم ينقلبون دائما بدون ان يقولوا لنا لماذا وكيف، نجد ان الخطاب الثقافي العربي في عمومه ما يزال يحتال على نفسه لعجزه عن تفسير ما حدث، إما عن قلة شجاعة على مواجهة الذات، او، وهذا الارجح، نتيجة خلل كبير في بنية الفكر نفسه. ومن الطبيعي ان مثل هذا الخلل لن يزيحه لا الزلزال العراقي، ولا اية زلزالات عربية اخرى قادمة، وانما ثورة فكرية شاملة لا يعرف احد متى تحدث. وتعالوا نستعرض بعض الامثلة مما نشره كاتبان لهما مكانتهما وتأثيرهما في الثقافة العربية، ومساهماتهما المفترضة في صياغة الرأي العام.

يعبر صاحب «نقد الفكر العربي» في جريدة «الاتحاد» المغربية، عن دهشته مما حصل في بغداد. ويقول ان هناك اسبابا مباشرة لما يسميه سقوط بغداد، وهي تتعلق بهزيمة عسكرية قد تكون لها بطانة سياسية وقد لا تكون...».

اما الاسباب غير المباشرة فهي الطبيعة الشمولية للنظام العراقي. حسن هذا، وكنا نود ان نسمعه من صاحب «نقد الفكر العربي» قبل «سقوط» بغداد بسنوات، او حتى بايام قلائل. لم نسمع عنه من قبل ان في بغداد نظاما شموليا، بل العكس تماما كان مؤمنا حتى لفترة قريبة بان صدام حسين يجسد القوة الكامنة في الامة العربية، مستنسخا بشكل مثير للرثاء حكاية هيغل مع نابليون! واكثر من هذا، يهرب الجابري الى الامام او الى الخلف، فيغلف اعترافه المتأخر جدا بشمولية النظام العراقي بالقول ان نموذج الحكم الشمولي المركزي ليس خاصا بالعراق، بل هو قائم بصورة او باخرى في الاقطار العربية بل في معظم بلدان ما يسمى بالعالم الثالث. وهو كلام ينطوي على نصف الحقيقة، فالجابري يعرف بالتأكيد الفرق الهائل بين نظام مركزي شمولي، وبين نظام فاشي يشكل العنف فيه القيمة الاسمى. ولسنا بحاجة لنرد هنا كيف تجلى هذا العنف، فقد صار مكشوفا لمن يريد ان يرى وصارخا لحد درجة اللاتصديق لمن يريد ان يسمع.

يعود الجابري ايضا الى الخلف بعيدا، ويستحضر لنا نماذج من الحكم الشمولي في التجربة التاريخية العربية الاسلامية حتى «تتحرر نظرتنا من الانغلاق في التجربة العراقية وحدها».

كل شيء طبيعي هنا. نظام صدام حسين ليس خارج التراث الذي ورثناه من اسلافنا، فمرجعيته هناك، ابتداء من الحكم الشمولي المباشر في بغداد زمن العباسيين «كجزء من الموروث الحضاري الذي انتقل اليها من الفرس».

صدام حسين ليس استثناء في قراءة الجابري للتراث. وهي قراءة صحيحة، لكنها ليست بريئة. فهي تؤجل قراءة هذا الحاضر المفجع المتجسد في نظام استثنائي في عنفه نما وازدهر، ان لم يكن بالتطبيل والتنظير لممارساته، فبالصمت عنه، وتهرب من مواجهة نتائج مثل هذه القراءة التي تتناقض، اذا كانت قراءة صادقة وشجاعة حقا، مع طروحاتها السابقة.

روائي كبير آخر لم نسمع له صوتا امام المجازر العراقية، وهو ربما اكثر المثقفين العرب اطلاعا على هذه المجازر بحكم عضويته السابقة في المكتب الاعلامي التابع للقيادة القومية لحزب البعث في العراق، وبحكم علاقته الجيدة مع المثقفين العراقيين المنفيين بعدما اختار الافتراق عن النظام العراقي منذ سنوات طويلة، وهو موقف شجاع على المستوى الشخصي. لكن شجاعة المثقفين شيء آخر. انها كلماتهم التي يجب ان يسمعها الجميع. لكننا لم نسمع شيئا من صاحب «شرق المتوسط» تلك الرواية الرائعة والرائدة في كشف القمع ـ عما يجري من قمع في العراق طوال ثلاثين سنة، ولم نسمع صرخته ضد ما تعرض له زملاؤه، مثقفو العراق الذين فرغ منهم البلد، منفى وقتلا. لكن صوته يرتفع الآن للمرة الاولى، ويوجه نداء لانقاذ علماء العراق. وهو لا يقصد علماء اللغة والدين والتراث والادب الذين فعل بهم صدام ما فعل، وانما «علماء» من طراز الدكتورة جراثيم والدكتورة انثراكس وعامر السعدي المدير السابق للمنشأة العامة للمنتجات الجرثومية، والمساهم الاساسي في صناعة انتاج الغازات السامة. فهؤلاء، حسب منيف، هم رأسمال العراق، وهم «اثبتوا جدارتهم وكفاءتهم، وايضا صمودهم في مواجهة الاغراءات والتحديات، واجتيازهم هذا الامتحان الشاق خلال الفترة التي سبقت الحرب».

ويدعو اخيرا البلدان العربية الى فتح ابوابها لهؤلاء، فهم رأسمالها الحقيقي قبل ان تخطفهم أميركا! مسكين رجب بطل رواية «شرق المتوسط»، اذ يبدو أن عذابه سيطول كثيرا، اذا لبى الله دعوة صاحبه عبد الرحمن منيف، ونرجو ان تكون دعوة غير مستجابة.