المعاداة للولايات المتحدة تبدو واسعة الانتشار لكنها ليست كذلك في الحقيقة

خلال الثلاثين سنة الماضية كان المعادون لأميركا يفترضون أن كل حرب تخوضها ستكون «فيتنام أخرى»

TT

مع انتهاء الحرب الباردة اعتقد كثيرون أن المعاداة لامريكا، وهي جزء مهم من الأيديولوجية السوفياتية، ستصل إلى نهايتها. ولكن الذي حصل هو العكس تماما، ويمكن القول أن هناك معاداة للسامية في العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى. والملاحظ أنه في كل مرة تقول أو تفعل الولايات المتحدة شيئا ما فإنها تواجه بسيل من المواقف الهجومية والانتقادات القاسية. وأحدث مثال على هذا تعلق بالتدخل الأميركي في العراق لإسقاط نظام الرئيس صدام حسين هذان الكتابان الجديدان يتناولان المعاداة لامريكا وأسبابها وجذورها التاريخية وآفاقها المحتملة. ولكن ما هو مدى انتشار المعاداة لامريكا؟

ضياء الدين سردار وميريل وين ديفيس يريان أنها تكاد تكون حركة عالمية تتجاوز الحدود الثقافية والدينية والسياسية، أما عنوان كتابهما فيشير إلى أن «كل الناس» يكرهون أميركا.

المشكلة هي أن المؤلفين لا يعطيان أدلة دامغة تدعم موقفهما. من المحتمل، كون المؤلفين ينتميان إلى مجموعات يسارية، أن تكون عواطفهما جعلتهما يعتبران أن مواقف تلك المجموعات تمثل المنحى العالمي العام.

خلال العقد الماضي كانت الولايات المتحدة أفضل وجهة سياحية في العالم. وفي العام 2001، ورغم الهجمات الإرهابية في نيويورك وواشنطن، زار الولايات المتحدة حوالي 120 مليون شخص كسواح من 185 دولة مختلفة، وهذا يشكل ضعف عدد السواح الذين زاروا فرنسا ـ ثاني أفضل وجهة سياحية في العالم لتمضية فترة الإجازات.

إضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى كأفضل وجهة مقصودة من قبل الطلاب والباحثين والدارسين، وعدد العلماء الأجانب الذين يقصدون الولايات المتحدة للأبحاث والعمل يشكل ثمانية أضعاف عدد أولئك الذين تستقبلهم دول الاتحاد الأوروبي كلها.

الولايات المتحدة تشكل «أكبر جاذب» للمهاجرين، فهي تستقبل 3.5 مليون قادم جديد كل سنة، وهذا يمثل تقريبا 10 أضعاف أولئك الذين يتوجهون إلى دول الإتحاد الأوروبي كلها.

والعالم في هذه الأيام تسيطر عليه «المنتجات الثقافية» الأميركية والإعلام الأميركي، وأسماء نجوم هوليوود ومغنو الأغاني الشعبية الأميركية باتت من الأسماء المألوفة حتى في أقاصي مونغوليا.

والمأكولات الأميركية تحظى بشعبية كبيرة. فالمجموعات الأميركية تبيع أكثر من 8 ملايين قطعة "هامبرغر" في 100 دولة مختلفة كل سنة.

وعلاوة على ذلك فإن الناس، ومن مختلف أنحاء العالم، يودعون أموالهم في الولايات المتحدة، وفي كل سنة يتدفق إلى الولايات المتحدة من كافة أنحاء العالم ما معدله نصف تريليون دولار. هذا الأمر يسمح للأميركيين بأن يكيفوا أنفسهم مع أدنى مستويات التوفير في العالم الصناعي كونهم ليسوا بحاجة لأي توفير لأن هناك من يقوم بالتوفير لمصلحتهم، فذلك المال يأتي من كل الناس بمن فيهم «الأباراتشيكي» الكوريون الشماليون ورجال الدين الإيرانيون المتشددون والأكثر مجاهرة بكرههم لأميركا. (وفي المرة المقبلة حين تلتقي بشخص معاد للأميركيين لا تفاجأ إذا كان له قريب يدرس أو يعمل في الولايات المتحدة، أو إذا كانت له أموال في بنوك أميركية أو إذا كانت له ارتباطات أعمال أو تجارة في الولايات المتحدة).

ويعطي المؤلفان لائحة تضم ما يزيد عن 200 خلاف كانت الولايات المتحدة معنية بها، بشكل أو بآخر، خلال فترة وجودها التي تمتد إلى قرنين من الزمن. مع ذلك، ولدى القيام بتفحص أكثر دقة، يتضح أن تلك اللائحة تورد «خليطا» من الصدامات المحلية الصغيرة والاشتباكات الكبيرة العالمية النطاق. لائحة كهذه يمكن وضعها عن أية دولة. فإيران مثلا كانت طرفا في عدد مماثل من الصراعات العسكرية خلال القرنين الماضيين.

لقد تم العمل على كتاب سردار وديفيس بسرعة ليتزامن مع الحرب لتغيير النظام العراقي. وتوقع المؤلفان أن تصبح الحرب «فيتنام أخرى»، ولكنه من السابق لأوانه التكهن لجهة ما إذا كان ذلك سيحصل أم لا. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو أنه خلال الثلاثين سنة الماضية كان المعادون للولايات المتحدة يفترضون أن كل حرب تخوضها ستكون «فيتنام أخرى». فحرب البوسنة كان يتوقع أن تكون «فيتنام أخرى» مثل كوسوفو. وخلال العام الماضي قيل عن حرب أفغانستان أنها ستكون "فيتنام أخرى»، أما هذه السنة فإن الدولة المرشحة لنيل ذلك «اللقب» فهي العراق.

لماذا تبدو المعاداة للولايات المتحدة واسعة الانتشار في حين إنها ليست كذلك؟

قد يكون السبب في ذلك هو أن ذلك يروق للعديد من الجماعات. فالشيوعيون السابقون وغيرهم من اليساريين كانوا متمسكين بمعاداة الولايات المتحدة كما يتمسك الغريق بأي شيء طاف. أما أنصار البيئة فإنهم ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها «أكبر ملوث» للكرة الأرضية. والرافضون للعقوبة القصوى يكرهون الولايات المتحدة لأن 22 ولاية فيها تطبق عقوبة الإعدام. أنصار المحافظة على الأخلاق والثقافة يكرهون الولايات المتحدة بسبب اتجاهاتها المتحررة في ما يتعلق بأنماط الحياة الشخصية بما في ذلك إعطاء حقوق كاملة للشاذين جنسيا، وأيضا بأنماط «بديلة» من الحياة الشخصية التي تجعل المتدينين الأصوليين «يفقدون صوابهم». وأنصار السلام من مختلف الأشكال والقناعات يكرهون الولايات المتحدة لأنها الدولة الوحيدة القادرة على استخدام القوة كأداة سياسية.

بالاستناد إلى معظم المصادر فإن فرنسا تؤوي أقوى تيار معاد للولايات المتحدة بين الديمقراطيات الكبرى. وما يتناوله فيليب روجيه، الدارس البارز، في عمله الرائع هو الجذور التاريخية لمعاداة فرنسا للولايات المتحدة.

وحملة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأخيرة لمنع وقوع حرب على العراق، وبالتالي إنقاذ نظام الرئيس صدام حسين، يمكن رؤيته في إطار «تقليد عميق الجذور» معاد للولايات المتحدة يعود إلى القرن التاسع عشر.

لقد نجح المؤلفان في تعريف ما أسماه روجيه «حديثا عن المعاداة لأميركا»، وذلك يشمل مجموعة أفكار وملاحظات محددة تبلورت مع الوقت لتصبح نظرة عالمية متماسكة. المعاداة للولايات المتحدة في هذا الإطار تختلف جدا عن معارضة سياسة أميركية معينة، فهي نظرة مصوغة في صورة مجموعة متماسكة من الأفكار تعتبر الولايات المتحدة خطرا على كل ما هو قيم وثمين، وهي، إلى حد ما، نوع من الدين العلماني له معتقداته وطقوسه. ويشير روجيه إلى وجود آلاف الأشخاص في فرنسا ممن يعتبرون المعاداة للولايات المتحدة الهدف الأساسي لحياتهم.

الناحية «الدينية» في ما يخص معاداة الولايات المتحدة أوضحها أحد مناصريها الأوائل، الأب رينال، وهو كاهن صغير كتب كراسة من 700 صفحة لإثبات أن القارة الأميركية بكاملها هي «مقر الشيطان».

وفي تلك الكراسة يزعم رينال أن كافة الحيوانات الموجودة في أميركا أصغر حجما من مثيلاتها الموجودة في أوروبا وآسيا وافريقيا، وهو تنبأ أيضا بأن الناس أيضا في القارة الأميركية سيصبحون أصغر حجما بعد عدة أجيال.

في سياق اعتراضه على أفكار الأب رينال نظم بنجامين فرانكلين ـ أول سفير للولايات المتحدة في فرنسا ـ عددا من الاختبارات: وزن الحيوانات الأميركية ومثيلاتها الأوروبية ومقارنة النتائج. وإضافة إلى ذلك أجرى فرانكلين ترتيبات نقل دب أميركي أشيب («غريزلي») كبير إلى فرنسا لكي يراه الأب رينال. وأخيرا أقام فرانكلين حفل عشاء في مقره الرسمي في باريس على شرف الأب رينال حضره 36 شخصا: 18 أميركيا و18 أوروبيا. في نهاية الحفل طلب فرانكلين من الضيوف أن يقفوا لقياس طولهم، وتبين أن أقصر أميركي كان أطول من أطول أوروبي.

ومع ذلك لم يقتنع الأب رينال بل عمد إلى إصدار نسخة جديدة من كتابه الذي يزعم فيه أن القارة الأميركية «ملعونة» لأنها موجودة على الجهة اليسرى من العالم ولأن الميثولوجيا المسيحية تقول أن كل شيء «على اليسار» يخص الشيطان.

من جهة أخرى فإن المعاداة للولايات المتحدة، كما يقول روجيه، ظاهرة فرنكو ـ فرنسية ذاتية المرجع لم تتأثر كثيرا بمسائل أكبر تتعلق بالحقيقة. ومن ناحية ثانية فإن نشوء واستمرارية هذا الحديث يعكس أنماطا تاريخية واقعية.

المعاداة للولايات المتحدة أبصرت النور في فرنسا واستمرت فيها لأن الولايات المتحدة عارضت تلك الدولة وهددتها وحطت من قيمتها. أما المعاداة لفرنسا في الولايات المتحدة فقد اتسمت بالتشنج والإبهام لأن فرنسا لم تكن في نظر الأميركيين أكثر من مصدر إزعاج ـ كحد أقصى.

في مجالات سياسة القوة والاقتصاد والثقافة تشكل معاداة الولايات المتحدة من قبل الفرنسيين الأثر النفسي لصراع ما ـ صراع كان أكثر مضايقة للخاسر لأنه يبدو أن الرابح لم يعطه الكثير من الاهتمام.

وكما يقول روجيه فإن تطور معاداة الولايات المتحدة من قبل الفرنسيين سار تماما وفق التواءات وتعرجات القوة العالمية منذ القرن الثامن عشر.

وجاء التفاهم الفرنسي ـ الأميركي القصير الأجل في أيام لافاييت خلال الثورة الأميركية، في وقت كانت فرنسا تسعى فيه إلى الثأر من بريطانيا بعد الإذلال الذي سببته لها حرب السبع سنوات بينهما. وبما أن فرنسا فشلت في إنشاء إمبراطورية في أميركا الشمالية فلا بأس من أن تفشل بريطانيا في ذلك المجال أيضا.

كانت فرنسا ترى في الولايات المتحدة حليفا عبر الأطلسي قد يساعدها على احتواء العدو الحقيقي في ذلك الوقت: «إنجلترا الغادرة». ولكن الولايات المتحدة بعد نيلها الاستقلال رفضت الوقوف ضد بريطانيا خلال حروب الثورة الفرنسية.

والأسوأ من ذلك هو أنه بعد إعلان مبدأ مونرو الذي تحالفت على أساسه الولايات المتحدة وبريطانيا لجهة رفض وجود أية قوة أوروبية في الأميركتين، ذهلت فرنسا حين رأت أن أميركا المستقلة تؤيد بريطانيا بدلا من التصدي لها.

وكانت الصدمة الحقيقية عام 1898، وعن هذا التاريخ يقول روجيه أنه يكاد يكون مهما بالنسبة للفرنسيين كما كان بالنسبة للدول الناطقة باللغة الإسبانية. وقد فسر الفرنسيون الهجوم الأميركي على إسبانيا بأنه بداية حرب أميركية مع أوروبا ـ حرب قد يخسرها العالم القديم. الأنغلوساكسون الجدد كانوا أكثر قوة وقسوة وتصميما من القدماء. وامتد مبدأ مونرو «الكريه» إلى رفض وجود مستعمرات أوروبية في آسيا وافريقيا، وبدا أن حكما مشتركا للأنغلوساكسون ينتقل فيه النفوذ والسلطة إلى الأميركيين ـ الأكثر إخافة والأقل رقيا ـ سيسيطر على العالم. وقد يكون حتى الألمان حليفا جيدا ضد هذه القوة المرعبة.

فرنسا ليست الدولة الوحيدة في أوروبا أو العالم التي أحبطت طموحاتها الهيمنة الأميركية، وفرنسا ليست الدولة الوحيدة التي إذا تركت لتعتمد على قدراتها ستتبع شكلا «ألطف وأكثر نعومة»، وإن كان أبطأ بعض الشيء، من التحول الرأسمالي الذي يفرضه النموذج الأنغلوساكسوني.

كون معاداة الولايات المتحدة النمط الأيديولوجي المسيطر في يومنا هذا، فإنه علينا ألا نعتبر ذلك انحرافا. وإذا أخضعناها لتقييم منطقي ستبدو معاداة الولايات المتحدة «صبيانية» كما كانت الحال بالنسبة للشيوعية في أوجها، ولكنها مثل الشيوعية أيضا من حيث نجاحها في الاستفادة من طاقاتها وكسب تعاطف حقيقي.

التحدي الذي يواجهه الأميركيون لا يتمثل في إنهاء المعاداة للولايات المتحدة لأنه ما من شيء يرضي أغلبية المعادين لها سوى انهيار القوة الأميركية.

على أي حال قبل الوصول إلى ذلك يمكن عمل الشيء الكثير. فالولايات المتحدة عليها أن تخفض «نبرتها» التي كثيرا ما تبدو متغطرسة، وأن تهتم بالشكاوى في العالم سواء أكانت حقيقية أم وهمية. المتشددون في معاداة الولايات المتحدة من غير الممكن جعلهم يغيرون موقفهم، تماما مثلما نرى حتى اليوم بعض الشيوعيين هنا وهناك. ولكن الأغلبية من المعادين للولايات المتحدة بدرجة أقل قد يغيروا موقفهم إذا استعملت الولايات المتحدة طاقاتها العسكرية والاقتصادية والثقافية الهائلة بشكل أكثر اعتدالا وبنسبة أقل وفي إطار أوسع تحالفات ممكنة.

لقد حققت الولايات المتحدة لنفسها شعبية كبيرة في البلقان عقب تدخلها في البوسنة وكوسوفو لإنقاذ المسلمين من المجازر، وهي لها شعبية أيضا في أفغانستان، على الأقل في الوقت الحاضر، بعد دحرها لحركة «طالبان». وتبقى التجربة في العراق لإثبات ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على تحقيق شعبية لنفسها في الشرق الأوسط أيضا.

* لماذا يكره الناس الولايات المتحدة

* تأليف: ضياء الدين سردار وميريل وين ديفيس